تتعزز الشكوك حول نفاق النهج الغربي في التعامل مع التنمية عندما نلاحظ ما يحدث عندما تتحقق التنمية فعلًا. لقد انتشلت الصين، أعظم قصة نجاح في تاريخ التنمية، مئات الملايين من شعبها من براثن الفقر..
المسار : شهد الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس لحظة من الكوميديا السياسية السوداء تليق بمبدع مُسلسل ڤيب (Veep)، أرماندو إيانوتشي (Armando Iannucci). ففي مشهد بدا وكأنه كُتِب خصيصًا للسخرية، أصبحت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي صوّتت ضدّ إنشاء يوم عالمي للأمل ويوم عالمي للتعايش السلمي. والأكثر إثارة للدهشة هو الخطاب الرسمي الذي قرأته واشنطن لتفسير موقفها من القرار الأخير.
أعربت الحكومة الأميركية في ذلك الخطاب عن رفضها القاطع لمجمل أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة (SDGs). ولم يكن هذا مجرّد انسحابٍ، كما حدث من قبل مع التزامات اتفاق باريس المناخية، بل كان إدانةً صريحةً للطموح الجماعي الرامي إلى تحسين الظروف المعيشية للبشرية. وادّعى الخطاب أن الناخبين الأميركيين قد وجّهوا تفويضًا واضحًا في الانتخابات الأخيرة: أن تضع حكومتهم أميركا أولًا، وأن تُعنى قبل كل شيء بنفسها.
ومع ذلك، لم يتوقف التبرير عند المصالح الوطنية، بل امتد ليشمل نقدًا جيوسياسيًا أوسع. إذ جادل الخطاب بأن صياغة القرار — ولا سيما إشارته إلى «التعايش السلمي» — يمكن أن تُفهم على أنها تأييدٌ للمبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي تتبنّاها الصين. وبالمثل، اعترضت الولايات المتحدة على عبارة «الحوار بين الحضارات» الواردة في القرار، معتبرةً إيّاها تلميحًا إلى «مبادرة الحضارة العالمية» التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ.
صاغ الموقف الأميركي القرار في الواقع على أنه تأييد سري لأيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني، وسعى إلى نزع الشرعية عن إطار أهداف التنمية المستدامة من خلال تصويره على أنه مخترق أيديولوجيًا. وزاد الخطاب حدّةً بإدراجه انتقاداتٍ جانبيةً ضد «النوع الاجتماعي» و«أيديولوجيا المناخ».
وبينما مضى بقية العالم قدمًا في التصويت، كشف تدخل إدارة ترامب عن حقيقة أن الإجماع الظاهري حول أهداف التنمية المستدامة، الذي روّج له منذ عام 2015 على أنه مخطط عالمي للتنمية، قد انهار. يُعدّ هذا النقد العنيف مثار خزيٍ، كما أن إلغاء الولايات المتحدة للمساعدات التي تشتدّ الحاجة إليها يُمثّل جريمةً بحقّ أبسط مبادئ الإنسانية والعقلانية. غير أنّ الغضب من أنصار شعار لنجعل أميركا عظيمة مجددًا (MAGA) لا ينبغي أن يُستخدم ستارًا يُخفي فشلًا أوسع وأكثر شمولًا.
فطالما كانت الرؤية الأوسع لأهداف التنمية المستدامة مغامرةً محفوفة بالمخاطر، وفي الواقع، لم تُحقق سوى القليل مما يثير التساؤل عما إذا كانت أكثر من مجرد تمرينٌ أنانيّ للنخب العالمية. فلأجل غرورهم الجماعي، احتاجوا إلى إقناع أنفسهم والعالم بامتلاكهم رؤيةً شاملةً وجريئة. لكن حشد الجهود ومواصلة الجهود لتحقيق أهداف التنمية المستدامة أمرٌ آخر. وهذا بدوره يعكس رفضًا للاعتراف بما تعنيه التنمية حقًا، أو لتوقّع ردود فعل القوى المهيمنة حين تبدأ ملامحها بالظهور. بالنظر إلى الماضي، تبدو أهداف التنمية المستدامة، على الرغم من اتساعها وسخاء روحها، وكأنها محاولةٌ لصياغة عالمٍ مُنظمٍ حول جدول رقميّ للقيم الكونية، لا وفق منطق السياسة، وحول مزيجٍ مُتناغمٍ من المصالح الاقتصادية العامة والخاصة.
قد يُبشّر هذا بـ «عالمٍ أفضل». لكنه عالمٌ يتجاوز الصراع والسياسة، وهو بمثابة الرمق الأخير لتفكير «نهاية التاريخ». وفي هذا الصدد على الأقل، قد تكون حركة لنجعل أميركا عظيمةً مرةً أخرى مُحقة.
تتعزز الشكوك حول نفاق النهج الغربي في التعامل مع التنمية عندما نلاحظ ما يحدث عندما تتحقق التنمية فعلًا. لقد انتشلت الصين، أعظم قصة نجاح في تاريخ التنمية، مئات الملايين من شعبها من براثن الفقر. صحيح أنّ المساعدات الأجنبية والاستثمار والتجارة أسهمت في ذلك، لكن المحرّك الحقيقي كان التعبئة الداخلية والاستثمار الموجّه من الدولة. ولعل هذا هو السبب تحديدًا، لم يؤدِّ نجاح الصين إلى تعزيز الثقة أو إلى توافقٍ أوسع حول نظامٍ دوليٍّ قائمٍ على القواعد، بل أطلق شرارة حربٍ باردةٍ جديدة.
فبعد تحوّل الرئيس الأميركي باراك أوباما نحو آسيا، وخلال فترة ولاية دونالد ترامب الأولى، وإدارة بايدن، وترامب 2.0، باتت الصين تُعرَّف بوضوح في وزارة الدفاع الأميركية بوصفها «التهديد أو التحدّي المتسارع». ويُعزى ذلك إلى تزايد تقدّم الصين في التكنولوجيا العسكرية، ونزعتها التعديلية في بحر الصين الجنوبي. لكن الدافع الأهم وراء هذا التصنيف هو ثقلها الاقتصادي، الذي تفهمه بكين نفسها باعتباره تجاوزًا لـ «قرونٍ من الإذلال». ففي عصر الدول القومية القوية، فإن التنمية، متى ما بلغت نطاقًا واسعًا، تعني بحكم طبيعتها تهديدًا للوضع الراهن الدولي.
وإن لم تكن الصين خير دليلٍ على هذه الحقيقة، فإنّ روسيا تُثبِتها بوضوح. فروسيا في أواخر تسعينيات القرن الماضي كانت على وشك الانهيار الكامل، وقد كان رئيسها المنتخب الأول، بوريس يلتسن، خاضعًا بدرجةٍ كبيرة لواشنطن. أمّا الاستقلال الاستراتيجي للرئيس الحالي فلاديمير بوتين، وشرعيته الداخلية، فمبنيّان على سجلٍّ من التعافي الاقتصادي والمالي. وهذا بدوره يستمدّ قوّته من إحساسٍ برسالةٍ تاريخيةٍ تغذّيه المظالم. فمنذ لحظة صعوده إلى السلطة، رأى بوتين دائمًا أن التنمية الاقتصادية، والبعث الوطني، وإثبات الذات — ولو بالقوة الصلبة عند الضرورة — عناصر لا تنفصم عن بعضها.
وليس في ذلك ما يدعو إلى الدهشة. فقد كان قرار بوتين شنّ حربٍ شاملةٍ على أوكرانيا عام 2022 مقامرةً عالية المخاطر وسوءَ تقديرٍ فادحًا. غير أنّ نزوعه إلى فرض الهيمنة لا يُعدّ استثناءً، بل استمرارًا للقاعدة التاريخية ذاتها. فنسخته الوحشية من سياسات القوى العظمى — التي تُرى فيها القدرة الاقتصادية والرفاه الجماعي أدواتٍ في خدمة السيادة الوطنية وقوة الدولة — لا تنتمي إلى منطق توازن القوى القديم، بل إلى تراث الإمبريالية العدوانية في القرن التاسع عشر. وفي مناطق التصدّع التي خلّفتها تلك المرحلة المضطربة، ولا سيما في الشرق الأوسط، ما زال ذلك المنطق فاعلًا حتى اليوم. ولرؤية مثالٍ واضحٍ عليه، لا حاجة إلى النظر أبعد من إسرائيل وتركيا والإمارات العربية المتحدة — نتاجاتٍ متفجّرةٍ لتاريخ صراع القوى بين الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية في الشرق الأوسط.
لم تنشأ علوم اقتصاد التنمية الحديثة من براءة جيوسياسية، بل على العكس تمامًا. فمنذ بداياتها مع مفكرين أمثال فريدريش ليست في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ارتبطت بالمصلحة القومية الصاعدة في الولايات المتحدة الناشئة آنذاك، وبالطموح إلى توحيد ألمانيا. وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، دعا نخب الدول القومية الجديدة في أوروبا الشرقية — التي كانت آنذاك محاطة بالمخاطر بعد استقلالها — ونُخَب الأنظمة الإمبراطورية في أوروبا الغربية، إلى الترويج المقصود لنموٍّ اقتصاديٍّ تقوده الدولة. فقد أراد البولنديون والرومانيون تنمية بلدانهم لدرء أطماع جيرانهم، بينما كانت القوى الديمقراطية كالهولنديين والفرنسيين والبريطانيين بحاجة إلى تحديث مستعمراتهم وجعلها تدرّ عائداتها بنفسها. ولم يكن من المصادفة أن أفضل النتائج تحققت في دول شرق آسيا الأكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة. ومع ذلك، فإنّ تحقيق نجاحٍ مفرطٍ كان يمكن أن يتحوّل إلى مشكلة.
لقد بلغ اقتصاد التنمية، نظريًا وعمليًا، ذروته في المقام الأول برعاية الولايات المتحدة في صراعات الحرب الباردة لإنهاء الاستعمار. وقد شكلت هذه الصراعات فهمًا جديدًا للعالم باعتباره مقسمًا إلى ثلاث مناطق كبرى: الكتلة الأميركية للعالم الأول والعالم الثاني الشيوعي والعالم الثالث، الذي ستُطبق عليه سياسة التنمية. وتحت ستار خطة مارشال في أوروبا أو أميركا اللاتينية أو إندونيسيا أو فيتنام، كان اقتصاد التنمية الأميركي بمثابة ترياق للنماذج المتنافسة للتنمية والسياسة والتوافق الجيوسياسي التي قدمها الاتحاد السوفيتي بزعامة جوزيف ستالين والصين بزعامة ماو تسي تونغ.
ومع أنّ السجل لم يكن باهرًا بأيّ مقياس، فإنّ أفضل النتائج — خارج أوروبا الغربية — تحققت، مرةً أخرى، في دول شرق آسيا الأكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة: اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. فقد كانت هذه الدول جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية الكبرى لواشنطن في آسيا. غير أنّ النجاح المفرط نفسه أثار القلق؛ ففي ثمانينيات القرن العشرين، راود الأميركيين خوفٌ متزايد من التحدّي التكنولوجي والصناعي القادم من اليابان، لقد شكّل شبح «الغزو الآسيوي» الأصلي بقوة آراء ترامب القاتمة بشأن الضرر الذي ألحقته التجارة الحرة بالولايات المتحدة.
غير إن هذه النجاحات كان استثناءً نادرًا؛ إذ كانت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عمومًا حقبة كارثية لسياسة التنمية. كانت أميركا اللاتينية تتخبط تحت وطأة أزمات الديون. كانت أفريقيا جنوب الصحراء تفتك بها جائحة الإيدز، وغرقت الهند في فقرٍ مدقع، فيما كانت الصين بالكاد تبدأ في شقّ طريقها نحو الخروج من محنتها. ومع انتهاء الحرب الباردة، وفي ظل هذه الخلفية الصارخة، اتخذت اقتصاديات التنمية في تسعينيات القرن الماضي منحىً كونيًا جديدًا. وقد أدخل تقرير لجنة برونتلاند لعام 1987 فكرة التنمية المستدامة إلى التداول، واعدًا بتوليفة جديدة من القيم المتجذرة في مصلحة مشتركة في التوازن البيئي.
ثم جرى تطوير هذه الفكرة عبر قمة الأرض عام 1992 والقمة العالمية للتنمية الاجتماعية عام 1995، لتتحوّل إلى ستة أهدافٍ دوليةٍ قابلةٍ للقياس في مجال التنمية. وقد جمعت تلك الأهداف بين الطموحات المادية الأساسية — كخفض معدلات الفقر إلى النصف، وتحقيق التعليم الابتدائي الشامل، وتقليص وفيات الأطفال والأمهات — وبين أهدافٍ اجتماعيةٍ أوسع نطاقًا. وبعد ذلك صاغت الأمم المتحدة أولوياتها لمكافحة الفقر في إطار الأهداف الإنمائية الثمانية للألفية (MDGs)، التي، إلى جانب انخراط المؤسسات الخيرية الخاصة في مجال الصحة العامة العالمية، وبرامج إعفاء الديون الشاملة، كان يُفترض أن تمنح الدول الفقيرة بدايةً جديدةً في عصر العولمة.
وفي أفريقيا الوسطى، استمرّت الكوارث. لكن بعد انقضاء صدمة أزمة عام 1997، حققت القوى الآسيوية الكبرى — وعلى رأسها بنغلادش والصين والهند وإندونيسيا — تقدمًا لافتًا. وقد غذّى هذا بدوره طفرةً في أسعار السلع الأساسية، ترجمت نفسها إلى نهوضٍ ملموسٍ لطبقاتٍ وسطى جديدةٍ في أميركا اللاتينية.
على خلفية هذه المرحلة اللافتة من «النمو العالمي» بدأت صياغة أهداف التنمية المستدامة. ففي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، اتسع الطموح ليشمل الجميع: لا ينبغي أن يُترك أحد خلف الركب. أصبحت التنمية حقًا من حقوق الإنسان، وكان المطلوب أن تكون تنميةً مستدامة. لم تُعَدّ الإمبريالية أو المنافسة الجيوسياسية العائقَ الأقصى، بل أُعيد تعريف البيئة بوصفها القيدَ النهائي أمام البشرية.
انبثقت أهداف التنمية المستدامة من الأهداف الإنمائية للألفية الأكثر تركيزًا. لكنّها، على طول الطريق، راكمت مجموعةً ضخمة من الطموحات والأهداف التكنوقراطية، لُخِّصت في سبعة عشر هدفًا ومئةٍ وتسعةٍ وستين غاية، رآها النقّاد مفرطة في المثاليات أو حالمة حدّ الطوباوية. كان الأمل أن يُتجاوز منطق السياسة والجغرافيا السياسية عبر شبكةٍ شاملةٍ من المؤشرات والرسوم الملوّنة. وحتى اليوم، لا يزال المتحمّسون يضعون دبوس العجلة الملوّنة رمزًا لالتزامهم بها.
أدت الاتفاقيات العالمية الثلاث المبرمة عام 2015، خطة عمل أديس أبابا بشأن التمويل، وتصويت الأمم المتحدة على أهداف التنمية المستدامة، واعتماد اتفاقية باريس، إلى نشوء صناعة اقتصادية تقليدية، اتفقت على أن استثمارات تتراوح بين 5 و7 تريليونات دولار سنويًا، أي ما يعادل 5-7٪ تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ضرورية لدفع عجلة التقدم العالمي نحو مستقبل مستدام ومزدهر. ومن هذا المبلغ، كان لا بد من إنفاق إضافي قدره 4 تريليونات دولار تقريبًا لتلبية احتياجات العالم النامي. وكانت الفكرة أن مفتاح المستقبل الأفضل هو «طفرةٌ استثماريةٌ ضخمة».
في ظاهر الأمر، بدا هذا النمط من التخطيط — أي «الدَفعة الكبرى» — عودةً إلى نماذج التنمية الاقتصادية المتمركزة حول الدولة في خمسينيات القرن العشرين. غير أنّ عقود التقشّف النيوليبرالي قضت على أيّ رغبةٍ في إحياء «الحكومة المتدخّلة بكثافة». فجاءت محاولةُ ردم الهوّة عبر تخصّصٍ اقتصاديٍّ جديد هو «التمويل التنموي»، الذي استند إلى فكرةٍ محورية تُعرف بـ«التمويل المختلط» (blended finance)، ومفادها أن تُستخدم الأموال العامة لا لتحمّل عبء التنمية وحدها، بل لتقليل المخاطر أمام الاستثمار الخاص، بحيث تتحوّل مليارات المساعدات الحكومية إلى تريليوناتٍ من الاستثمارات الخاصة.
بلغ هذا التفاؤل، أو هل يجب أن نسميه مبالغة؟، ذروته في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ لعام 2021 في غلاسكو، اسكتلندا، حيث روّجت المؤسسات المالية العالمية لإمكانية الاستفادة من مليارات الدولارات من الأموال العامة لفتح المجال أمام أكثر من 130 تريليون دولار من التمويل الخاص في مجالات الطاقة الخضراء والتنمية المستدامة. وقد تصدّر مشهد هذا التجسيد الأقصى لفكرة تمويل التنمية شخصٌ لم يكن سوى رئيس الوزراء الكندي المستقبلي مارك كارني، الذي كان آنذاك قد أنهى عمله محافظًا لبنك إنجلترا، لكنه برز بالفعل بوصفه رمزًا كاريزماتيًا للوسطية العالمية.
وبالنظر إلى الماضي، تبدو أهداف التنمية المستدامة اليوم أقلّ شَبهًا بفجرٍ جديد، وأكثرَ شبهًا بأنفاسٍ أخيرةٍ لحلمٍ أحاديّ القطب، من أحلام «نهاية التاريخ». فبدلًا من مليارات تستجلبُ تريليونات الدولارات، جاء أداء «التمويل المختلط» مخيّبًا للغاية، إذ نادرًا ما جرى جذب سوى سنتات معدودة مقابل كل دولارٍ من المال العام. وفي المجالات الحيوية للابتكار، مثل الطاقة الخضراء والذكاء الاصطناعي، لم يقترب العالم النامي من اللحاق بالركب، بل ازداد تخلّفًا عنه.
وبالمقارنة مع الطموحات المعلنة لأهداف التنمية المستدامة فإنّ هذه النتيجة مُحبطة بلا شك. لكن هل كانت تلك الرؤى جادّة أصلًا؟ هل فكّر أحدٌ في عام 2015 في شكل العالم الذي ستحقق فيه تلك الأهداف؟ تخيّل، على سبيل المثال، لو أصبحت البرازيل قوة اقتصادية وتكنولوجية كاليابان. أو لو بلغت إثيوبيا أو نيجيريا مستويات تركيا من حيث قدرة الدولة ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
تثير مثل هذه السيناريوهات شكوكًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى اعتبار مثل هذه السيناريوهات المستقبلية غير واقعية، ولكن أيضًا لأن التمعّن فيها يكشف مدى ما تحمله من إرباك. فتبعاتها الجيوسياسية ستكون هائلة. تخيّل مثلًا لو بلغ الناتج المحلي للفرد في المكسيك مستوى نظيره في كندا — ألن يُشكّل ذلك تحديًا مقلقًا للولايات المتحدة؟ بالطبع سيشكّل. وفي الأثناء، يبدو من الأسهل النظر إلى مجموعة الأهداف تلك باعتبارها طموحاتٍ مثالية أكثر منها تصوّراتٍ قابلة للتحقق.
يطرح القرن الأفريقي القادم المعضلة نفسها بوضوحٍ بالغ. فالتوقعات الديموغرافية للعقود القادمة جليةٌ وصارخة. من المتوقع أن ترتفع الكثافة السكانية في أفريقيا في أماكن كثيرة إلى المستويات الأوروبية. ومن المتوقع أن تتجاوز نسبتها من سكان العالم 25%. وبحلول عام 2050، ستكون 40% من جميع مواليد العالم في أفريقيا، وستكون نسبة العمال الشباب فيها أكبر بكثير. ومع ذلك، لا يملك بقية العالم تصورًا حقيقيًا عن مستقبلٍ كهذا، في وقتٍ تُصبح فيه مدن نيجيريا أو تنزانيا مراكز رئيسية للابتكار التكنولوجي على المستوى العالمي. ويتضح مدى صعوبة هذا الأمر من أمثلة إثيوبيا والحوثيين ورواندا، حيث يُظهر كلٌ منها كيف تمنح التنمية قوةً حقيقية: القدرة، للأفضل والأسوأ، على إبراز القوة، وصوغ السرديات، والسعي وراء المشاريع الوطنية. وبالتالي، فإن التنمية سياسيةٌ بطبيعتها. إنها تتعلق بالقوة، والقدرة على الفعل. إذن فإن العالم الأكثر تطورًا، بحكم تعريفه، عالمٌ أكثر تعدديةً في مراكز القوة وأقل قابليةً للسيطرة.
وكما تُظهر هذه الأمثلة، ليس الحجم النسبي وحده هو المهم، بل المستويات والعتبات المطلقة. رواندا بعيدة كل البعد عن الرخاء الشامل، لكنها تمتلك بالفعل جيشًا كفؤًا. والحوثيون، الذين لا يحتكرون السلطة في اليمن، قادرون مع ذلك على إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وشن حرب ضدّ الملاحة العالمية، وخوض مناوشات مع أساطيل الدول الغنية.
ونظرًا لخصوصيات إدارة ترامب، فإن آثار هذا الاتجاه العام تتجلى بوضوح من خلال ردود فعل الأوروبيين. ففرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة جميعها تصنف نفسها حاميةً للنظام الدولي القائم على القواعد، وتعلن التزامها بأهداف التنمية المستدامة ولن تُفاجأ أحد بالتصويت ضد السلام والأمل في الأمم المتحدة. غير أنها، شأنها شأن الولايات المتحدة، أخذت هي الأخرى تقلّص ميزانياتها المخصّصة للمساعدات. لماذا؟ بسبب أوكرانيا. فإذا كان الأمن القومي هو الأهم، فإن الصواريخ والدبابات استثمارات إستراتيجية أفضل من الجهود غير المثمرة لتحقيق التنمية المستدامة في منطقة الساحل (الإفريقي).
ومهما حدث للمكونات الفردية لأهداف التنمية المستدامة – أهداف جديرة بالاهتمام مثل الحد من وفيات الأطفال والشمول الرقمي – فإن هناك أمرًا واحدًا مؤكدًا: لقد انتهى عصر أجندة التنمية المحايدة سياسيًا والمقبولة عالميًا.
وهذا لا يعني أن الفوضى حتمية. كما يُذكرنا ألكسندر وندت، البنائيّ في العلاقات الدولية، فإن «الأناركية تكون على الصورة التي تُنتجه فيها الدول». وهذا تحديدًا ما يجعل السلوك العدواني لإدارة ترامب ليس مُحرجًا ومُزعجًا فحسب، بل خطيرًا أيضًا. صحيح أن أهداف التنمية المستدامة كانت مشوبة بالنفاق، لكن هدمها دون بديل ليس واقعيًا، بل عدمية. ينبغي أن يكون انتهاء أهداف التنمية المستدامة مدعاةً للندم الحقيقي. فقد كانت رؤيتها استثنائية وشاملة. وإلى جانب اتفاقية باريس، مثّلت هذه الأهداف ذروةً في نوعٍ من الكونية [المثالية].
ويجب ألا نقع بالتأكيد في فخ السينيكية السطحية التي ترى في زوال تلك الأهداف، ومعها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) أيضًا، خلاصًا من أداةٍ من أدوات النفوذ الأميركية. فمكمن فاعلية أكبر عملية مساعداتٍ في العالم لم يكن في أدواتها الدعائية فحسب، بل في كونها أنقذت أرواحًا بالفعل. إن أي نهج واقعي لحقبة ما بعد ترامب لا بد أن يبدأ ليس برفض فكرة التنمية نفسها، بل بالتمييز بين الضرورات المختلفة.
فإذا أردنا ألّا نقع ضحيةً لتلطيف لغويٍّ يخفي الحقائق، فعلينا أن نعترف بأنّ إنقاذ الأرواح والتنمية ليسا شيئًا واحدًا؛ فالجمع بينهما في المعنى يُعيدنا بلا وعيٍ إلى الكونيّة الفاترة التي سادت عصر أهداف التنمية المستدامة — ذلك العصر الذي حدّد أهدافًا إلزاميةً لكل شيءٍ ولكل أحد، من الأطفال الجائعين إلى شبكات الجيل الخامس. فالفئة الإحصائية التي تُعرف بـ«المساعدات الإنمائية الخارجية» تشمل كل شيء: من دعم اللاجئين الأوكرانيين إلى تطوير البنى التحتية وتقديم المساعدات الطارئة في السودان.
إن أكثر المجالات احتياجًا للأموال الأجنبية، والتي سيؤدي تقليص المساعدات فيها إلى أكبر خسائر في الأرواح، هي مجالات إغاثة أزمات اللاجئين والطوارئ الطبية المستمرة، مثل فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز والملاريا والسل، في أوضاع الدول الفاشلة والفقر المدقع، وليس في «التنمية» بمعناها الضيق.
إن الحاجة إلى المساعدة، بطبيعة الحال، تُشير إلى فشل أوسع نطاقًا. فلاجئو أوكرانيا في ألمانيا اللاجئون السودانيون في تشاد يعيشون أوضاعًا مختلفة تمامًا. لكن، رغم أهمية معالجة قضايا التنمية الطويلة الأمد في كلٍّ من السودان وتشاد، ورغم ما يتطلبه دمج المهاجرين في سوق العمل الألمانية من جهد، فإن الأولوية العاجلة تظلّ إنقاذ الأرواح.
وكما تكشف بيانات البنك الدولي، فإن نصف أكثر البشر بؤسًا اليوم، هم أولئك الذين يعيشون في فقرٍ مدقع ويعانون من مخاطر تغذوية حادة، ويتركزون في الدول الهشّة والمتأثرة بالنزاعات، في أفغانستان وميانمار، ولكن قبل كل شيء في سوريا واليمن وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. إن الإغاثة الأساسية، ثم لاحقًا عمليات حفظ السلام الممولة تمويلًا كافيًا والمنظمة تنظيمًا جيدًا، هي الأساس. فالغاية ليست تحقيق هدف التنمية الطموح وطويل الأمد، بل إرساء النظام المدني الأساسي ومنع المجاعات والأوبئة.
ورغم أن هذا لا يُعدّ تنميةً بالمعنى الطويل الأمد، فإنه يبقى دورًا جديرًا وجدّ أساسيٍّ للعمل الدولي. فنداءات الإغاثة في أشدّ مناطق الأزمات تعرِف عجزًا مزمنًا في التمويل، وأيُّ دولةٍ غنيةٍ ترغب في الإسهام بعملٍ نافعٍ يمكنها ببساطة أن تسدّ هذا الفراغ. وكما أظهرت تجربة الأزمة السورية، فإن نظامًا متقشفًا لكنه منظَّم جيدًا من مخيمات اللاجئين — كالذي أُدير في شرقي تركيا — قادرٌ على إنقاذ ملايين البشر من أشدّ أشكال البؤس، والحدّ من خطر زعزعة استقرار المنطقة على نحوٍ أوسع.
أمّا فيما يتعلّق بالتنمية الفعلية، فمن الواضح أنه لا توجد صيغة عامة للنجاح. فإنفاق المليارات لا يضمن شيئًا. لكن هذه حقيقة بديهية لا تختلف عن القول بأننا لا نملك معادلةً عامة لتوجيه مسار التاريخ في الاتجاه الذي نريده. فالتنمية ليست مجرّد هندسة أو طبّ أسنان، وإن كانت تنطوي، بلا شك، على بناء الجسور ومعالجة الأسنان. ففي كل الحالات التي حققت فيها التنمية أثرًا دراماتيكيًا، كانت تحولٌ اجتماعيٌّ مدروس، وصنعٌ للتاريخ على أوسع نطاق. وأفضل طريقة لفهمها ليست من خلال الصيغ والمعادلات، بل من خلال تاريخٍ مترابطٍ من التنمية المُركّبة وغير المتكافئة.
إن ضخّ مساعداتٍ كبيرةٍ لنظامٍ مُفعَمٍ بالهدف التاريخي ومدعومٍ بقوى سياسية واجتماعيةٍ مؤثرة، كما حدث في رواندا بعد الإبادة الجماعية، يمكن أن يُسفر عن فوائد حقيقية. أما رشّ القروض المُقيّدة على مشاريع مُنعزلة في ظل نظامٍ فاسدٍ دون محاسبة، فلن يُسهم، كما هو مُتوقع، إلا في تغذية صناعة المساعدات وإثراء حفنةٍ من الأفراد عديمي الضمير إلى حدٍّ ما.
إن ما يهمّ بوضوح هو اختيار الشركاء وبناء منصاتٍ للتقدم المُستدام ذاتيًا دلًا من تكريس التبعية الآخرين؛ فالدولة الكفؤة هي أيضًا الدولة التي تستطيع التعامل مع المساعدات الخارجية دون أن تُصبح مُدمنةً عليها بشكلٍ مرضيٍ، واستغلال هذه المساعدات على النحو الأمثل سيُعزز كفاءتها.
إن ما يتطلبه تحديد هذه الدول، وما يصاحبه من إمكاناتٍ لإطلاق مساراتٍ تراكمية للتنمية، هو المعرفة الميدانية والالتزام طويل الأمد والحكمة والاستعداد لتحمل كلفة القرارات الصعبة. لا يمكن للمساعدات الخارجية إلا أن تكون مُكمّلًا لعملٍ أصعب: تعبئة الموارد المحلية. فالتقنيات الحديثة سترفع الإنتاجية؛ ويمكن لرأس المال الأجنبي أن يُسهّل التوازن بين الاستثمار والاستهلاك. لكن في نهاية المطاف، تحتاج الدول إلى حشد جهودها وإعطاء الأولوية للنمو طويل الأجل على الاحتياجات الفورية. أمّا الاقتراض، فهو إحدى طرق جمع الأموال اللازمة، ولكن لجعل ذلك مستدامًا، لا بدّ من دولةٍ قادرةٍ على الجباية بقدر ما هي قادرةٌ على الإنفاق..
وبعيدًا عن هذه العناصر الأساسية للاقتصاد، فإن أي شخص يشرح نظريات عامة حول الفوائد العجيبة للاستثمار أو المخاطر الحتمية للمساعدات الخارجية يجب أن يكون موضع شك للوهلة الأولى. فهناك حقيقة واحدة مؤكدّة: إذا لم يُقدَّم التزامٌ جوهري — وهو ما ينطبق عادةً على الإنفاق التنموي المزمن الشحّ — فلا ينبغي توقّع نتائج كبيرة. فكثيرًا ما تكون المساعدات الغربية أشبه بقطرة ماءٍ على صفيحٍ ساخن، ولا سيما في المواضع التي تكون فيها الحدود بين إنقاذ الأرواح والتنمية المستدامة حدودًا مضطربةً وعنيفة. ولا سيما في المواضع التي تكون فيها الحدود بين إنقاذ الأرواح والتنمية المستدامة حدودًا مضطربةً وعنيفة.
في السنوات الأخيرة، كان هناك الكثير من العويل وصريف الأسنان حول مسألة كيف «فقد الغرب الساحل»؟. منذ عام 2017، ساعدت الدول الأوروبية في إطلاق أكثر من ألف مشروع كجزء مما يسمى بتحالف الساحل. كان غرب الساحل في ذلك الوقت موطنًا لحوالي 100 مليون من أفقر الناس في العالم، بانعكاس ذلك على مؤشرات التنمية البشرية. وقد كانت النيجر تُعَدّ طويلًا معقلًا للنّفوذ الغربي، لكن قبل الانقلاب الذي أطاح في عام 2023 بحكومة محمد بازوم الإصلاحية، كان ما يقارب ثلثي سكانها أُمّيين لا يقرأون ولا يكتبون. ومن الواضح أنّ النيجر كانت في أمسّ الحاجة إلى الاستثمار في التعليم والريّ والخدمات الصحية الأساسية. وقد تدفّقت المساعدات فعلًا، لكن على أيّ نطاق؟
في مطلع عشرينيات القرن الحادي والعشرين، قبل الانقلاب، كانت النيجر تتلقّى ما يقارب 1.8 مليار دولار سنويًا لسكانٍ يبلغ عددهم 25 مليونًا، أي ما يعادل 71 دولارًا للفرد، أو نحو 1.37 دولار في الأسبوع (وفق بيانات عام 2021). ومن هذا المجموع الضئيل، خُصّص نحو 7 سنتات للتعليم، و15 سنتًا للصحة، و30 سنتًا للإنتاج والبنية التحتية، و26 سنتًا لتأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة للفقراء.
لذا، فالسؤال البديهي هو: ما حجم العائد المتوقع من 1.37 دولار أسبوعيًا، مقسمًا بين الاحتياجات الأكثر إلحاحًا للبقاء والاستثمار طويل الأجل؟ ما حجم التأثير المتوقع على التعليم أو الصحة في دولة ما مقابل بضعة سنتات؟ لا ينبغي توقّع نتائج كبيرة من وسائل هزيلة، ولا استخدام ضعف فاعلية المساعدات ذريعةً لتقليص الميزانيات، بينما لم يُبذل أصلًا جهدٌ حقيقيٌّ يُعتدّ به.
ولمضاعفة الأموال العامة، اعتمد نموذج «التمويل الممزوج» على الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وهو ما يقودنا إلى البعد الثالث من أبعاد المساعدات والتنمية — أي الاقتصاد السياسي العالمي. فإذا أقرضتَ مبالغ ضخمةً لدولٍ منخفضة الدخل ومرتفعة المخاطر، فعليك أن تتوقّع تعثّر بعض تلك القروض، ولهذا تُسمّى عالية المخاطر. ولهذا أيضًا يتمكّن المقرضون من فرض أسعار فائدة مرتفعة، والمطالبة بدعمٍ في «تقليل المخاطر» من المقرضين العموميين ووكالات التنمية في الشمال العالمي. وإذا ساءت الأمور، فعلى الدائنين أن يكونوا مستعدين لتقبّل خسائرهم والمضيّ قُدمًا — فهذا بالضبط ما اختاروا الدخول فيه.
مرة تلو الأخرى، ليس هذا ما تُسفر عنه عمليات إعادة هيكلة الديون. يساوم الدائنون من القطاع الخاص على كل تنازل ممكن، ويستخدمون المحاكم الأميركية والبريطانية لدعمهم. وتتردد الدول المقترضة في الإصرار على قضيتها بقوة خوفًا من التعرض لتخفيضات تصنيفية مدمرة. وينتهي الأمر بالمؤسسات المالية، مثل صندوق النقد الدولي، إلى تقديم عمليات إنقاذ فعلية لمقرضي الدول الغنية من خلال تقديم تمويل تعويضي، مما يسمح للدائنين من القطاع الخاص بالخروج بأقل الخسائر. وفي الأثناء نفسها، تواصل المراكز المالية الغربية تسهيل عمليات النهب والفساد التي تمارسها بعض النخب المحلية، من خلال تمكين تهريب رؤوس الأموال وتوفير السرية المصرفية.
لقد نوقشت جميع هذه القضايا مطولًا في دوائر التنمية. إن التحرك بقوة لدفع إعادة هيكلة الديون، واختيار شركاء أكفاء، وتشجيع تعبئة الموارد المحلية، وبناء أنظمة ضريبية وطنية عادلة ومنصفة تُسد ثغرات هروب رؤوس الأموال هو المطلوب، وليست دعواتٍ لـ «نظام جديد» شامل أو لاستنساخٍ آخر لأهداف التنمية المستدامة.
إن ما نحتاج إليه بدلًا من ذلك هو الرغبة في الانخراط في أفعالٍ محددة من «إعادة التنظيم»، لتغيير، على سبيل المثال، الطريقة التي يمكن بها استخدام المحاكم البريطانية القريبة من مدينة لندن للدفاع عن مصالح حاملي السندات؛ ومعالجة الصراعات التوزيعية الحادة التي تربط مفاوضات الديون بالضرائب في كينيا؛ أو إصلاح سياسة تسعير الكاكاو التي تقلل من سبل عيش المزارعين الفلاحين في غانا وتفتح الباب أمام التهريب والفساد على نطاق واسع.
إذا امتنعت الولايات المتحدة عن تمويلٍ عاجلٍ وحيوي لملايين الأشخاص المعرَّضين لخطر الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز والملاريا، فلا يوجد ما يمنع أعضاء مجموعة العشرين الآخرين أو الدول الأصغر ذات الموارد الهائلة، مثل النرويج أو قطر، من التدخل لسد الفجوة. ولا يوجد ما يمنعهم من البحث عن شركاء للعمل معهم، وهو ما يعني قبل كل شيء مواجهة مسألة الصين.
فالصين هي أعظم نجاح تنموي في العالم. وعلى هذا الأساس، برزت كقوة مُقرضة وإنمائية. وفي ذروتها في 2016-2017، كان الإقراض في إطار مبادرة الحزام والطريق يضاهي لفترة من الوقت ما يقدمه البنك الدولي. وعلى الرغم من تباطؤ مبادرة الحزام والطريق لاحقًا، إلا أن الاتجاه الإستراتيجي للصين لا يزال واضحًا. ويعتقد الحزب الشيوعي الصيني أن التحول المادي هو مفتاح الشرعية والسلام. والعبارة التي تكررها القيادة الصينية كثيرًا، مقتبسة من شي، هي أن التنمية هي «المفتاح الرئيس».
وكانت مبادرة شي للتنمية العالمية بمثابة رد الصين على أهداف التنمية المستدامة. لم يكن هذا رفضًا عامًا، ناهيك عن التنديد المباشر، بل كان إعادة صياغة للتركيز على ثماني مجالات رئيسة فقط، القضاء على الفقر، والأمن الغذائي، والاستجابة للجائحات واللقاحات، وتمويل التنمية، والتغير المناخي والتنمية الخضراء، والتصنيع، والاقتصاد الرقمي، والاتصال في العصر الرقمي — وكلّها تحت شعار «أعمالٍ موجَّهةٍ نحو النتائج».
هل تأمل الصين وتتوقع أن يساعد تحقيق هذه الأجندة في بناء علاقات ودية؟ بالطبع. هل هذه لعبة قوة عالمية؟ هل تريد الصين المساومة بشأن حقوق الإنسان والانتخابات؟ لا، لا تريد. هل تفضل تجنب هذه القضايا؟ بالطبع.
هذه ما يحب شي أن يسميه «الخطوط العريضة»، وليس هناك الكثير مما يمكن أن يكسبه الليبراليون الغربيون الذين يلحّون على مثل هذه الاختلافات الواضحة. إن العمل جنبًا إلى جنب مع الصين لن يمنحك كل ما تريد. بدلًا من الأمل في «كل شيء» للتنمية، نحتاج إلى معرفة خطوطنا العريضة.
لسنا في عالم يُرسمُ فيه المستقبل إما من حيث المعايير الكونية أو أهداف التنمية المستدامة ذات الألوان الزاهية والرسوم البيانية الجذابة. إن الضرورة الأساسية والأكثر إلحاحًا التي تُحرك التنمية على المستويين الفردي والجماعي ليست السعي وراء الحقوق بقدر ما هي إرادة القوة، أي السيطرة على الموارد والقدرة الشرائية والقدرة على مقاومة نفوذ الآخرين والتمتع بالأمان، بل أيضًا، إن أمكن، فرض نطاق السيطرة الذاتية. فالتنمية، بهذا المعنى، لا تقتصر على وضع علامات استفهام ومطاردة الأهداف؛ بل هي بطبيعتها، وبالضرورة، سياسية وجيوسياسية.
لم تعد رؤية عام 2015 الباهتة والمملة هي عالمنا. ولكن برفضها لأجندة الأمم المتحدة المشتركة باسم السيادة الصارخة، تنغمس الولايات المتحدة في سياسة التنديد التي تليق بدولة نامية مضطهدة أكثر من كونها قوة أحادية القطب ومهيمنة سابقة. وعلى النقيض من ذلك، فإن مزيج الصين من السياسة الواقعية مع الأيديولوجية والمصلحة الوطنية لا بد أن يبدو عقلانيًا ومتوازنًا بالإضافة إلى أنه مدعوم بسجل وطني لا مثيل له من التنمية والموارد الضخمة.
قد يضيق الليبراليون الغربيون ذرعًا بذلك، لكن تجاهل الفارق بين القوتين العظميين ضربٌ من الحماقة. فإذا أراد الغرب، في مجمله، أن ينافس الصين ويتعاون معها في قضايا التنمية العالمية، فعليه أن يقدّم بديلًا عمليًا وواقعيًا — بديلًا يتجاوز أهداف التنمية المستدامة كما يتجاوز النزعة الترامبية الرجعية.

