المسار : كلّ التحية لمنتخب فلسطين، ذاك الفريق الذي دخل ملاعب الدوحة لا بوصفه منتخباً لكرة القدم فحسب، بل بصفته صوتاً لشعبٍ كاملٍ يرزح تحت النار، ويتشبّث بالحياة بما تبقّى له من قدرة على التنفّس. لعب الفلسطينيون بكرامة، بشموخ، وبروحٍ لا تُهزم، وقدّموا أداءً سيبقى محفوراً في الذاكرة؛ لا لأنهم فازوا أو خسروا، بل لأنهم لعبوا وهم يحملون على أكتافهم وطناً ينزف.
هذا المنتخب ليس مجرد أحد عشر لاعباً. إنّه منتخب شعبٍ فقد مئات الرياضيين، نجوماً كباراً وأبطالاً صاعدين، رحلوا في حرب الإبادة على غزة، ومعهم عائلاتهم، وملاعب طفولتهم، وأحلامهم الصغيرة التي أُطفئت قبل أن تكبر.
في كل خطوةٍ يركضها اللاعبون فوق العشب، يركض معهم ظلّ الشهيد محمد أبو دياب، لاعب نادي اتحاد الشجاعية، الذي كان يحلم بأن يقود فريقه إلى منصّات التتويج قبل أن يغتاله القصف.
وفي كل تمريرةٍ قصيرة، نسمع أنفاس الشهيد محمود وادي الصغير، شقيق النجم الفلسطيني المعروف، الذي لم ينل فرصة ليكبر ويجد مكانه في الملاعب.
وحين يقف المنتخب ليستمع للنشيد الوطني، تصعد إلى الذاكرة صورة الشهيد محمد البنا، حارس المرمى الشاب الذي كان يقول دائماً: “صدّ الكرات أسهل من صدّ الموت”، لكن الموت سبقه هذه المرة.
وفي كل احتفالٍ بهدف، نتذكّر ابتسامة الشهيد علي الحداد، لاعب ناشئي غزة الرياضي، الذي كانت الكرة صديقته الأولى ونافذته الأخيرة إلى العالم.
وقائمة الشهداء لا تنتهي…
هناك المدرّب هاني المصري الذي قضى مع عائلته تحت الأنقاض، واللاعب خليل النجار الذي كان يستعدّ لموسمٍ جديد قبل أن يُمحى النادي والحيّ بأكمله من الخريطة.
وهناك أولئك الذين أُبيدت عائلاتهم بالكامل؛ أطفالٌ كانوا يحلمون بأن يصبحوا لاعبين كباراً، فتحوّلت ملاعبهم إلى ساحات رماد، وحقائب الرياضة إلى شواهد صامتة على غيابهم.
لقد فقدت غزة من الرياضيين ما لم تفقده ساحة رياضية في العالم في زمنٍ واحد: حكّام، مدرّبون، رؤساء أندية، أبطال ألعاب قوى، ولاعبو كرة قدم، كرة طائرة، كاراتيه، سباحة… أسماءٌ كثيرة انتقلت من جداول المباريات إلى سجلّ الشهداء.
ومع هذا الخراب كلّه، خرج منتخب فلسطين من كأس العرب مرفوع الرأس. خرج لا يحمل خيبة، بل يهدي العالم درساً في معنى الإرادة، ومعنى أن تلعب بينما بيتك مهدّم، وأن تركض بينما مدينتك احترقت بالكامل، وأن تبتسم لأنك تحمل رسالة شعبٍ لم ينكسر يوماً.
إنّ تحية الحب والاحترام لهذا المنتخب ليست تحية رياضة فقط، بل تحية وطنٍ يعيش على الحافة، لكنه يعرف كيف يصنع حياة من بين الركام.
هي تحية لشبابٍ حملوا قميص فلسطين كما لو أنه درعٌ يحمي أرواح الذين غابوا، وكأنّ كل مباراة كانت جنازةً يرفض فيها الفلسطيني أن ينحني.
تحية لكم، يا من صرتم عنوان الإرادة الفلسطينية التي لا تنكسر.
تحية لكم، وأنتم تواصلون اللعب في وجه الموت، وترفعون اسم الوطن في زمنٍ يسقط فيه كل شيء إلا الكرامة.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

