المسار:– لم تعد ضريبة «الأرنونا» بالنسبة للمقدسيين مجرد بندٍ مالي في دفاتر البلدية، بل تحوّلت إلى عنوانٍ دائم للضغط الاقتصادي، وأداةٍ مركزية في سياسة الاحتلال الرامية إلى إنهاك الفلسطينيين ودفعهم نحو الرحيل القسري «الهادئ». فهذه الضريبة، التي يُفترض أن تُجبى مقابل خدمات بلدية، باتت تُفرض بمستويات باهظة من دون أن يلمس المقدسيون أي تحسّن يُذكر في واقعهم المعيشي أو في البنية التحتية لأحيائهم
منذ مطلع العام الجاري، تصاعد قلق سكان القدس الشرقية مع قرار سلطات الاحتلال إلغاء التدرّج في توحيد التعرفة الضريبية، في خطوة تجاهلت كليًا الفوارق الاقتصادية الهائلة بين الأحياء الفلسطينية المهمّشة وأحياء القدس الغربية الثرية. وبحسب مدير الإعلام في محافظة القدس، عمر الرجوب، فإن المواطن المقدسي في سلوان بات يدفع «الأرنونا» نفسها المفروضة على سكان أحد أغنى أحياء القدس الغربية، رغم التباين الصارخ في مستوى الخدمات، وشبكات الطرق، والنظافة، والمرافق العامة.
ما هي الأرنونا؟ ولماذا تُعد أداة قمع؟
يعرّف مدير مركز القدس للمساعدة القانونية، رامي صالح، ضريبة «الأرنونا» بأنها ضريبة مسقفات تفرضها سلطات الاحتلال على المنشآت السكنية والتجارية والصناعية والزراعية، مقابل خدمات بلدية يفترض تقديمها. غير أن الإشكالية، كما يؤكد الحقوقيون، تكمن في أن هذه الضريبة تُجبى من المقدسيين دون أن يقابلها أي التزام فعلي بتحسين الخدمات، ما يحوّلها إلى عبء اقتصادي جائر لا أكثر.
تقليديًا، كانت بلدية الاحتلال تقسّم الأحياء إلى أربع مناطق ضريبية:
المنطقة (أ): الأعلى ضريبة.
المنطقتان (ب) و(ج): متوسطة الضريبة.
المنطقة (د): الأقل كلفة، وتشمل غالبًا الأحياء المقدسية المهمّشة ذات الخدمات المتدنية.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت، وفق الرجوب، توجّهًا ممنهجًا لإلغاء هذا التدرّج، عبر رفع قيمة «الأرنونا» تدريجيًا وصولًا إلى توحيدها وفق أعلى تصنيف، دون أي اعتبار للواقع الاقتصادي أو مستوى الخدمات في الأحياء الفلسطينية.
زيادات فلكية وقرارات أكثر خطورة
في أواسط عام 2024، فرضت بلدية الاحتلال زيادات على «الأرنونا» تراوحت بين 30 و60 في المئة، بحسب الحي وتصنيفه. لكن الأخطر، كما يحذّر الرجوب، بدأ فعليًا منذ عام 2025، مع قرار فرض تصنيف المنطقة (أ) على جميع الشقق السكنية الجديدة المسجّلة بعد 1 كانون الثاني/ديسمبر 2020، في كل أحياء المدينة، بما فيها الأحياء الواقعة خلف الجدار.
وبموجب هذا القرار، بات سكان هذه المناطق يدفعون الضرائب نفسها المفروضة في أحياء القدس الغربية الثرية، رغم غياب الحدائق، وسوء الطرق، وشح المدارس والمراكز الصحية، وتدنّي خدمات النظافة.
ولا يتوقف الأمر هنا؛ إذ تخطط بلدية الاحتلال في عام 2026 لإلغاء تصنيف المنطقة (د) بالكامل ودمجها مع المنطقة (ج)، ما يعني رفع «الأرنونا» على عشرات آلاف الشقق التي بُنيت قبل عام 2020. ويشمل القرار 14 حيًا أو أجزاء منها، من بينها: البلدة القديمة داخل الأسوار، كفر عقب، قلنديا–عطروت، الرام–عطروت، عناتا، صور باهر، جبل المكبر، بيت صفافا–شرفات، طنطورة، إضافة إلى مناطق من بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وأبو ديس الواقعة ضمن النفوذ البلدي للقدس.
أرقام تكشف حجم الاستنزاف
بحسب مؤسسة «سانت إيف – المركز الكاثوليكي لحقوق الإنسان»، التي قدّمت التماسًا قانونيًا ضد القرار أمام المحكمة الإسرائيلية، فإن المصادقة على هذه الخطوة سترفع الضرائب على النحو التالي:
الشقق التي تزيد مساحتها على 120 مترًا مربعًا: من 74.46 شيكلًا إلى 91.08 شيكلًا للمتر (زيادة 22.3%).
الشقق التي تقل مساحتها عن 120 مترًا مربعًا: من 46.35 شيكلًا إلى 64.24 شيكلًا للمتر (زيادة 38.6%).
وتشير المؤسسة إلى أن القرار سيؤثر على 22,683 شقة سكنية، ويوفّر لبلدية الاحتلال نحو 31 مليون شيكل إضافي سنويًا تُجبى من جيوب المقدسيين.
جباية بلا خدمات… وتمييز بنيوي
بالتوازي مع هذه القرارات، شرعت بلدية الاحتلال بحملة واسعة لتسجيل المباني الواقعة خلف الجدار في سجلات «الأرنونا»، بما في ذلك مخيم شعفاط، في مؤشر واضح على نية توسيع الجباية دون أي تحسّن في مستوى الخدمات. وترى المؤسسات الحقوقية أن هذه السياسات تُفاقم معاناة الأحياء الأكثر تهميشًا، التي تعاني أصلًا من إهمال متعمّد ونقص حاد في البنية التحتية.
ويؤكد الرجوب أن نحو 323 ألف فلسطيني يعيشون في شرقي القدس بصفة «مقيمين لا مواطنين»، يشكّلون 37% من سكان المدينة، فيما يعيش 76% منهم تحت خط الفقر، مقارنة بـ21.7% على مستوى دولة الاحتلال. ورغم ذلك، لا تُمنح الأحياء الفلسطينية أي إعفاءات أو تسهيلات ضريبية، في حين تُقدَّم الامتيازات لسكان القدس الغربية.
إغلاق محال وتهجير صامت
توضح مؤسسة «سانت إيف» أن النتائج كارثية، لا سيما في البلدة القديمة، حيث أُغلق أكثر من 280 محلًا تجاريًا بسبب تراكم الضرائب، وعلى رأسها «الأرنونا»، التي وصلت في بعض الحالات إلى مئات آلاف الدولارات. وتُستخدم هذه الضرائب كوسيلة ضغط لدفع المقدسيين إلى الرحيل القسري، إذ فقد أكثر من 14 ألف مقدسي إقاماتهم منذ عام 1967.
ويختم الحقوقي رامي صالح بالتأكيد على أن المقدسيين، الذين يشكّلون نحو 39% من سكان المدينة، كان يفترض أن يحصلوا على نسبة مماثلة من عائدات الضرائب، لكن ما يعود عليهم فعليًا لا يتجاوز 6%، بينما تُوظَّف الأموال لخدمة المستوطنين في القدس الغربية والمستوطنات المقامة داخل القدس الشرقية.
هكذا، تتحوّل «الأرنونا» من ضريبة خدمات إلى أداة سياسية واقتصادية، تُستخدم لإعادة هندسة المدينة ديمغرافيًا، على حساب السكان الأصليين، في سياسة تهويد ناعمة عنوانها: ادفع أكثر… أو ارحل بصمت.

