المسار – في قطاعٍ تحوّلت فيه الطفولة إلى رفاهٍ مؤجّل، لم يعد الزمن يُقاس بالسنوات بل بعدد النزوح، ولا تُحفظ الذكريات في دفاتر ملوّنة بل تحت الركام. هنا، يكبر الأطفال قبل أوانهم، ويتعلّمون الفقد قبل الحروف، ويستبدلون ألعابهم بمسؤوليات لا تشبه أعمارهم.
تحت القصف وعلى طرق النزوح الطويلة، تتشكّل حكايات صغيرة بوجعٍ أكبر من أجساد أصحابها. غرفٌ سُرقت، وكتبٌ تُركت خلف الخيام، وأيامٌ بلا مدرسة أو أمان. في هذا المشهد، تبرز قصص فتيات يافعات اختُطفت طفولتهن فجأة، فوجدن أنفسهن في مواجهة عالم قاسٍ لا يرحم.
نور… من غرفة الدمى إلى “سيدة خيمة”
نور عزّ الدين، طفلة في الثالثة عشرة، كانت تعيش حياة بسيطة تشبه أي فتاة في سنّها. غرفة صغيرة تلوّنها كما تشاء، دمى وعرائس، وملاذ آمن يخبّئ أحلامها. لم تكن تدري أن الحرب ستقتحم عالمها بلا استئذان، وتحوّل كل شيء في لحظة.
مع نزوح عائلتها من شمال غزة، حملت نور بعض ألعابها وتركَت معظمها خلفها. اعتقدت أن الغياب مؤقت، لكن الرحلة طالت؛ من رفح إلى دير البلح، ومن بيتٍ إلى خيمة. هناك تغيّر كل شيء: الأرض سرير، والبرد رفيق دائم، ولا وقت للّعب. تقول نور إنها لم تعد الطفلة التي تعرفها؛ تحوّلت من فتاة تعيش بين الدمى إلى “سيدة خيمة”، تجمع الحطب، وتملأ الماء، وتُشعل النار، وتساعد أمّها، وتخفي خوفها كي تبقى الأسرة متماسكة. لم تعد تحلم بدُمية جديدة، بل ببيتٍ آمن وسريرٍ بلا قلق، وبعودة طفولة تبعثرت على طرق النزوح.
مرح… حين تُغلق الكتب ويُفتح فرن الطين
مرح غزال، في الرابعة عشرة، كانت قارئة نهمة تقطع كتابًا كل أسبوع، وتتعلّم الإنجليزية بشغف، وتحلم أن تصبح مترجمة أو معلمة. الحرب قلبت عالمها رأسًا على عقب. نزحت عائلتها من خان يونس إلى دير البلح، وتركت مرح كتبها ودفاترها وزاوية القراءة الهادئة. في الخيمة، لا مساحة للهدوء ولا للقراءة.
سعى والدها لصنع استقرارٍ هشّ وسط الفوضى، فبنى فرنًا من الطين. صار الفرن محور يومياتهم، ومع الوقت وجدت مرح نفسها تقف لساعات تُحضّر العجين وتخبز الأرغفة، لعائلتها ولمن حولها. هكذا انتقلت من عالم الصفحات والأحلام إلى مسؤولياتٍ أكبر من عمرها. تقول إنها ما زالت تحلم بالعودة إلى كتبها وحياتها السابقة، وتتمسّك بالأمل بأن تستعيد ما فقدته من طفولتها.
الأثر النفسي… نضج قسري وقلق مزمن
توضح الأخصائية النفسية نجوان الضبة أن مرحلة اليفوع من أكثر المراحل حساسية في تشكيل الهوية وبناء صورة المستقبل. إلا أن الحرب في غزة أربكت هذا الانتقال الطبيعي، إذ يُنقل الطفل قسرًا من بيئة يُفترض أن تكون آمنة إلى واقعٍ مليء بالتهديد والخسارة. هذا التحوّل يزعزع الإحساس بالأمان، ويشوّه صورة الغد، وقد يؤدي إلى قلقٍ مزمن وتسارع في النضج النفسي، أو إلى توقّف النمو الانفعالي عند مراحل طفولية سابقة
وتشير نجوى ناجي إلى أن اليافعين يواجهون خلال النزوح خوفًا دائمًا من الموت أو فقدان الوالدين، وحزنًا معقّدًا نتيجة الفقد المتكرر، وشعورًا بعدم الانتماء وغضبًا مكبوتًا وضعفًا في الثقة بالآخرين. كما تختلف الاستجابات بين الجنسين؛ فالأولاد يميلون إلى التعبير الخارجي كالانسحاب أو السلوك العدواني، بينما تميل البنات إلى التعبير الداخلي كالقلق والاكتئاب ولوم الذات، فضلًا عن أعباء اجتماعية إضافية.
وحول تحمّل المسؤوليات المبكرة، تؤكد أن الشعور بالقيمة قد يترافق مع حرمانٍ من اللعب والتجربة، ما يخلق هوية قائمة على الواجب لا الاختيار، وكبتًا للاحتياجات النفسية وإنهاكًا داخليًا. وتصبح هذه الخبرة إيجابية فقط إذا توافر الدعم النفسي والأسري، مع الاعتراف بالمشاعر وعدم تمجيد تحمّل الأعباء.
أما فقدان التعليم، فتصفه بأنه فقدان للإطار المنظّم والأمل بالمستقبل، يولّد ضياعًا وضعف تقدير الذات. وتختم بالتأكيد على أن مستقبل اليافعين بعد الحرب يتوقف على الاستجابة الحالية لاحتياجاتهم النفسية: إما جيل أكثر وعيًا وصلابة، أو جيل مثقل بالصدمات… والفارق تصنعه الحماية اليوم لا غدًا.
طفولة تنتظر العودة
تبقى حكايات أطفال غزة شاهدًا لا يمكن تجاهله على الثمن الباهظ الذي تدفعه الطفولة في زمن الحرب. تتبدّل الأدوار، وتتغيّر الملامح، لكن وميض الأمل لا ينطفئ. بين الركام، يحلمون بكتاب يُفتح من جديد، وغرفة تستعيد ضحكاتهم، وحياةٍ طبيعية تعيد إليهم ما خُطف منهم. وفي آخر الطريق، أمنية واحدة: أن يعودوا يومًا إلى طفولتهم.

