المسار : من نافل القول إن التحالف بين الغرب وإسرائيل لا يزال استراتيجياً في خطوطه الكبرى، على الرغم من المنعطف التراجيدي الذي شكّلته حرب الإبادة في غزّة في مسار الصراع ومنعرجاته. غير أن هذا التحالف لم يعد المؤشّر الوحيد في قياس علاقة الطرفَيْن، أمام التحوّل البادي الذي أحدثته الحرب في الرأي العام الغربي؛ فقد كانت الكلفة البشرية للحرب باهظةً جدّاً، بل وغير محتملة بالنسبة إلى شعوب ومجتمعات يُفترض أن احترام حقوق الإنسان يمثّل جزءاً من نمط حياتها. كما أن حجم الدمار في قطاع غزّة كان مرعباً غير مسبوق في تاريخ الحروب المعاصرة. تُضاف إلى ذلك البراغماتية الفجّة التي تعاطت بها معظم الحكومات الغربية مع ما حدث في غزّة من تقتيل وتشريد وتهجير وتجويع لأكثر من سنتَيْن. أصابت هذه البراغماتية منظومة القيم الغربية الكبرى في مقتل، وأشاعت حالة من التشكيك الشعبي في مصداقيتها والجدوى الأخلاقية والحقوقية منها.
نجحت الاحتجاجات الغربية في تشكيل وعي جديد، تبدّى في انصراف طيف عريض من الرأي العام عن الرواية الإسرائيلية، ونزوعه إلى مساءلة شرعية دولة الاحتلال، وإعادة تركيب الصراع في وعي الأجيال الجديدة بما يتسق مع حقائق التاريخ والجغرافيا. بالطبع، لم تنجح الاحتجاجات في وقف آلة القتل الإسرائيلية في غزّة ومحاكمة قادة دولة الاحتلال أمام القضاء الدولي، لكنّها نجحت، إلى حدّ كبير، في كشف الحقيقة الاستيطانية والاستعمارية لدولة الاحتلال.
هكذا بدأ ينحسر تأثير خطاب معاداة السامية في المجال العام الغربي، أمام الجرائم الوحشية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة. وللمرّة الأولى منذ عقود، يفقد هذا الخطاب فعّاليته المعلومة في التصدّي لكل من سوّلت له نفسه إبداء قدر من التعاطف مع القضية الفلسطينية. كان من مؤشّرات ذلك تراجع منسوب الشعور بالأمن لدى قطاع واسع من اليهود في المجتمعات الغربية. ففي فرنسا أقرّ المجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهودية في فرنسا (CRIF) بتصاعد مظاهر معاداة السامية منذ اندلاع حرب غزّة (2023)، بنسبة تصل إلى 62% من مجموع “جرائم الكراهية الدينية” في فرنسا. ويزداد الأمر دلالةً في بلد مثل ألمانيا، إذ كشفت دراسة عليها “مفوضية مكافحة التمييز” التابعة للحكومة الاتحادية تنامي مشاعر العزلة لدى اليهود الألمان، وانحسار مؤشّر التعاطف الاجتماعي معهم، وتصاعد مظاهر التمييز والإقصاء نحوهم في الحياة اليومية. هذا التحوّل، يُعدُّ تحدّياً دالّاً بالنسبة إلى الحكومة التي يشكّل الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال المفتاح الرئيس في تعاطيها مع الصراع. وفي المنحى نفسه، حذّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأسبوع الماضي، من “تنامي مظاهر معاداة السامية في السياسة الأميركية، خاصّةً في الكونغرس”. وحين يأتي التحذير من رئيس دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة، فذلك يعني كثيراً لدولة الاحتلال التي يُعتبر التحالف مع واشنطن، بالنسبة إليها، بمثابة العمق الاستراتيجي لشبكة تحالفاتها الدولية.
هناك شعور يكاد يكون عاماً في الغرب بأن الحكومات الغربية فقدت مصداقيتها، بعد أن سخّرت إعلامها للاصطفاف خلف إسرائيل، ومحاولة تبييض سجلّها الوحشي رغم فظاعة ما ارتكبته من جرائم مروّعة بحقّ المدنيين الفلسطينيين العزّل في قطاع غزّة. وهو ما أصبح تحدّياً للدعاية الصهيونية على أكثر من صعيد. إن بداية فقدان هذه الدعاية لجزء من الرأي العام الغربي تحولٌ لا ينبغي التقليل من أهميته في المنظور البعيد، سيّما إذا قُيّض له أن يترافق مع جهود فلسطينية تُحوّله مورداً سياسياً يغذّي الرواية الفلسطينية، ويفتح أمامها آفاقاً جديدة، على الرغم من صعوبة ذلك.
انصراف جزء من الرأي العام الغربي عن مغالطات الدعاية الصهيونية يفرض على دولة الاحتلال تحدّيات غير مسبوقة. ويأخذ الأمرُ أبعاداً أخرى أمام تنامي قوة الحركات الاجتماعية الداعية لمقاطعة السلع والمنتجات الإسرائيلية، وفضح ارتباط السياسات الإمبريالية الجديدة بالمشروع الصهيوني، باعتباره، أولاً وأخيراً، الحلقة الأكثر عنصريةً ووحشيةً في هذه السياسات.

