بهلعٍ وخوفٍ تبلغُ فيه القلوبُ الحناجر، ومشاهد أشبه بـ “النكبة”، حمل 70% من سكّان قطاع غزّة ما يُمكن حمله من أمتعةٍ بسيطة، وفرّوا تحت سماءٍ مُلبّدةٍ باستطلاعِ وطيرانِ الاحتلال الإسرائيلي، نحو مراكز الإيواء، ليتقاسموا ويّلات الموت قصفًا أو جوعًا.
غادروا منازلهم قسرًا إما بعد قصفها وفُقدانها أو بعد تهديدهم من قبل الاحتلال بضرورة إخلائها؛ في ظلِ العدوان الذي يستهدف شتّى أصناف الحياة في غزّة، منذ السابع من أكتوبر الجاري.
ويعاني النازحون إلى مراكز الإيواء، من ظروفٍ مأساوية صعبة، تفوقُ الوصف، في ظلِ عدم قدرتها على استيعابِ هذا العدد الكبير، وعدم أهلِيتها للعيش لأيامٍ طويلة، في أوضاعٍ صحيةٍ وإنسانية تزدادُ قسوةً مع مرور كلّ ساعة.
وتشير الإحصائيات الرسمية، لنزوحِ نحو مليون ونصف ألف مواطن، في 223 مركز إيواء وتجمّعات مستضيفة بالمستشفيات ومرافق عامة ومنازل أقرباء وأصدقاء.
“ظروفٌ مأساوية”..
بين ممراتِ المدارس وصفوفها وباحاتها، تفترشُ آلاف العائلات الأرض في أماكن تفتقر لأدنى مقومات الحياة، من ماء وغذاء وكهرباء، أو حتى مرافق صحية نظيفة، ويأكلُ القلق قلوبهم خشيةً من اقتراب فصل الشتاء وبرده القارسْ.
عائلة السيّدة “أم هاني”، المكوّنة من 13 فردًا، واحدة من العائلات التي اضطرّت قسرًا للنزوح من منزلها في منطقة الشجاعية شرق قطاع غزّة، إلى مركزِ النزوح في “مدرسة غزة الجديدة” التابعة للأونروا، بحيّ النصر.
تقول “أم هاني” إنّها نزحت مع أطفالها منذ اليوم الأول من الحرب، خوفًا من قصفِ الاحتلال العنيف بغاراتٍ مُباغتة دون إنذارٍ مُسبق، ونظرًا لخطورة مكان سكنها على الحدود الشرقية.
وتُكملُ بنبرةٍ يشوبها الألم: “خرجنا من منزلنا في ظروفٍ قاسية لا يعلم بها إلا الله حتى وصلنا إلى هنا؛ لكنّنا الآن نعيش ظروفًا أقسى، في أماكن لا تصلح للعيشِ الآدمي”.
وتصفُ حالهم: “نعيشُ منذ 20 يومًا دون كمية مياه كافية تروي ظمأ الأطفال، أو طعامٍ يسدّ جوعهم.. لا يوجد حليب أو حفاضات، ونتقاسمُ مع عائلاتٍ أخرى غرفةً صفيّة لا تتجاوز مساحتها ستة أمتار”.
وتلفتُ بقلقٍ وخوف، أنها مُصابة بمرضيْ الضغط والسكري، ولم تحصل على أيّ علاج منذ بدء العدوان، مُردّدة: “وضعنا صعب جدًا، والأونروا لا تستطيع أن تُوفّر لنا أيّ شيء”.
“لا متّسع في المراكز
عائلة السيّدة هيام أبو عودة، المكوّنة من ثمانية أفراد، هي الأخرى غادرت منزلها في بلدة بيت حانون، فجر اليوم الثاني من العدوان الإسرائيلي؛ جرّاء رسائل الاحتلال وتهديده بإخلاء المنطقة الشمالية من قطاع غزّة.
تقول “أبو عودة” في حديثها مع “وكالة سند للأنباء” إنّ عائلتها رفضت بدايةً مغادرة المنزل وفضّلت البقاء فيه؛ لكن بعد رحيلِ جميع أهالي المنطقة، اضطرّوا مُرغمين للنزوح برفقة عائلات أشقاء زوجها البالغ عددهم نحو 35 شخصًا.
وسط عتمة الليل، سارت العائلات لأكثر من ساعتين ونصف مشيًا على الأقدام، تجاه مدارس بيت لاهيا، تحت غارات الاحتلال العنيفةالتي لم تتوقف بتاتًا، رغم “مطالبات الاحتلال لهم بالإخلاء”، وفق ضيفتنا.
وتروي لنا بغصّة: “خلال الطريق أُصبنا بالتعب والتشنجات العضلية.. كان برفقتنا أطفال، ولم يتوفّر معنا أيّ قطرة ماء، سوى ما قدّمه لنا ساكني الطُرقات الذين ارتقوا شهداء بعد أيامٍ قليلة”.
وتُبيّن “أبو عودة” أنهم دخلوا ثلاث مدارس في بيت لاهيا “مدرسة حمد ومدرسة الكويت ومدرسة حلب”، دون أن يجدوا أيّ متّسعٍ يأويهم، بعد ما قطعوه من مسافاتٍ طويلة أنهكت أجسادهم.
وتشرح: “المدارس ثلاثتها كانت مُكتظة بالنازحين في كل زاويةٍ من زواياها، وصولًا إلى الأرصفة المجاورة لها؛ ما اضطرّنا للرحيل والتنقّل في 4 مناطق مختلفة من القطاع، نحو منازل الأقرباء”.
وتصفُ لنا حال المنزل الذي نزحت إليه كمحطتها الأخيرة في المحافظة الوسطى، أنّه يحوي 40 شخصًا معظمهم أطفال ونساء، دون أساسيات الحياة من مياه وطحين وكهرباء وإنترنت.
وتتابع: “الوضع كارثي يفوق الوصف؛ الشبّان يضطرّون للانتظار لساعاتٍ طويلة جدًا حتى يحصلون على دلو مياهٍ واحد من البئر أو ربطة خبز في حال توفّر ذلك.. أما الأهالي الذين يوزعون الطحين فقد هدّدهم الاحتلال بالقصف”.
وتلفتُ ضيفتنا بقلبٍ مكلوم، أنّ منزلها تضرّر بفعل القصف وأصبح غير صالح للسكن، مستطردة: “دُمر منزلنا ومكان ذكرياتنا.. لا يوجد أيّ مكانٍ نعود إليه بعد الحرب”.
“مساعداتٌ هزيلة”..
من جهته، يقول رئيس مكتب الإعلام الحكومي سلامة معروف، إن “النازحين إلى مراكز الإيواء يفتقرون إلى الحاجات الحياتية الأساسية ويعانون ظروفًا معيشية كارثية؛ جرّاء انسحاب “أونروا” ووقف خدماتها بمناطق شمال غزة”.
وينوّه “معروف” في تصريحاتٍ إعلامية سابقة، تابعتها “وكالة سند للأنباء”، أنّ الاحتلال دمر نصف الوحدات السكنية في القطاع، وعشرات المرافق والمنشآت الخدماتية والعامة، كما قصف 189 مدرسة، منها 35 مدرسة خرجت عن الخدمة.
ويُشدّد معروف، على أنّ آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة “هزيلة ولا تتناسب مع الحاجات الهائلة للقطاع، والمساعدات التي دخلت لا تكفي مركز إيواء واحد لـ24 ساعة”.
ويُردف: “إسرائيل تُطبق تهديدها بإعادة قطاع غزّة 50 سنة إلى الوراء؛فهي تستخدم ذخيرة تُسبب دمارًا هائلًا في البنية التحتية”.
#غزة تحت القصف