هآرتس: إذا واصلت إسرائيل رفض الدولة الفلسطينية، فإن “النهر حتى البحر” سيغرقها

شاؤول أريئيلي

منذ الحرب العالمية الثانية تقريبا لم يرافق أي حرب بين الدول انكار حقوق دولة في وجودها، أو انكار حقوق شعب في تقرير المصير. المذبحة التي نفذتها حماس في بلدات النقب الغربي في 7 اكتوبر وخطتها لاقامة دولة فلسطين على انقاض اسرائيل، الى جانب استبعاد أي اتفاق سياسي من قبل حكومة نتنياهو – كل ذلك يعكس المقاربة السائدة في اوساط الاصوليين الحمساويين من جهة وفي اوساط المسيحانيين المتطرفين الاسرائيليين من جهة اخرى.كل طرف ينفي بشكل مطلق حقوق الطرف الثاني.

هذه المقاربة اصبحت سائدة في الحوار السياسي والجماهيري لدى الطرفين. حماس ومؤيدوها يطالبون بدولة واحدة ويرفضون حق اسرائيل في الوجود وحق الشعب اليهودي في تقرير المصير في وطنه؛ اسرائيل ترفض اقامة الدولة الفلسطينية بجانبها وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

هذان الموقفان مناقضان للقانون الدولي وقرارات المجتمع الدولي. موقف حماس المبدئي تحت شعار “من البحر الى النهر” ينضم اليه بشكل غير مسبوق كثيرون جدا في العالم. والسؤال هو لماذا؟ هل الحديث يدور عن اللاسامية التقليدية؟ عن الجهل؟ مناهضة اسرائيل؟ أو ربما فشل الاعلام في اسرائيل؟ أو أن هناك تفسير آخر لذلك؟.

يبدو أنه مثلما في اسئلة كثيرة معقدة فان الاجابة تكمن في عناصر مختلفة من بينها العناصر التي تم ذكرها أعلاه. مع ذلك، في المجتمع الدولي هناك من لا يعتبرون مع اللاساميين التقليديين وغير جاهلين، مع ذلك هم غير مستعدين لقبول رواية اسرائيل كرواية عادلة. موقفهم يرتكز الى مبررات منطقية حسب رأيهم، تتناول جذور النزاع الذي بدأ عند اعلان بلفور في تشرين الثاني 1917. يجب علينا نحن الاسرائيليين أن نعرف جيدا المنطق من وراء موقفهم اذا اردنا فهم الواقع واتخاذ قرارات حاسمة حيوية لمستقبلنا.

عند انتهاء الحرب العالمية الاولى وتأسيس عصبة الامم في 1919 حل مبدأ تقرير المصير محل المبدأ الامبريالي في المنظومة الدولية. العدوان والاحتلال كطريقة للحصول على السيادة على مناطق تم رفضهما، وترسخ الاعتراف بأنه يوجد لكل شعب لديه اغلبية في اوساط سكان البلاد حق طبيعي لتقرير مستقبله السياسي والاجتماعي. بكلمات اخرى، “البلاد تعود لسكانها وليس لمحتليها”.

ما هو الوضع الذي كان سائدا في ارض فلسطين الانتدابية بعد انتهاء تلك الحرب؟ من بين السكان الذين كان عددهم اقل بقليل من 750 ألف نسمة، 90 في المئة منهم عرب و10 في المئة يهود، وأكثر من 93 في المئة من الاراضي الخاصة كانت بملكية العرب.على خلفية هذا الواقع طلب عرب البلاد في كانون الاول 1920 في المؤتمر العربي الوطني الثالث الذي عقد في حيفا تطبيق حقهم في تقرير المصير و”تشكيل حكومة من ابناء البلاد تكون مسؤولة امام مجلس تمثيلي منتخب من قبل الشعب الذي يتحدث اللغة العربية والذي كان يعيش في فلسطين حتى بداية الحرب (بما في ذلك اليهود)، كما حدث في العراق وفي شرق الاردن”.

الدول العظمى المنتصرة، بريطانيا وفرنسا وامريكا، تجاهلت الواقع في فلسطين ولم تستجيب لطلب العرب في تقرير المصير رغم أنهم يشكلون اغلبية السكان في البلاد. في مؤتمر سان ريمو في العام 1920 قررت الدول الاوروبية العظمى أن يتم تضمين وعد بلفور في صك الانتداب الذي اعطي لبريطانيا، وفي العام 1922 صادقة عصبة الامم على صك الانتداب. وبعد مرور 25 سنة اعترفت لجنة التقسيم التابعة للامم المتحدة بأن “مبدأ تقرير المصير لم يتم تطبيقه على فلسطين في الوقت الذي اوجد فيه الانتداب في 1922 بسبب التطلع الى التمكين من اقامة الوطن القومي لليهود”.

استثناء فلسطين من مبدأ تقرير المصير كان أمر غير مسبوق. البروفيسور ادوارد سعيد، العضو في المجلس الوطني الفلسطيني، كتب في 1979 عن وعد بلفور ما يلي: “اهمية التصريح تكمن أولا وقبل أي شيء آخر بكونه الاساس القانوني لمطالبة الصهيونية بفلسطين. الامر الثاني والاكثر اهمية، أن هذا التصريح يمكن فهم مدى شذوذه فقط اذا فهمنا بشكل جيد الوضع الديمغرافي أو الانساني في فلسطين (من خلال “قضية فلسطين”).

البريطانيون ارفقوا مع هذا الشذوذ شرط. فقد اشترطوا اقامة الوطن اليهودي بـ “أن لا يتم فعل شيء يمكن أن يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية”، وبناء على طلب اليهود “أن لا يكون مس ايضا بالحقوق والمكانة السياسية لليهود في أي دولة اخرى”. في صك الانتداب الذي تضمن وعد بلفور واصل وكرر المجتمع الدولي هذا الشرط، وكتب بأنه سيقام وطن قومي لليهود مع الحفاظ على الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بدون تمييز في العرق والدين. أي أنه مقابل استثناء فلسطين والحفاظ على حقوق اليهود في ارجاء العالم فان الوطن القومي لليهود سيكون ديمقراطي ويحافظ على المساواة في الحقوق لكل سكانه.

في العام 1947 سلم المجتمع الدولي بعدم امكانية وجود دولة واحدة، بذريعة أنه “يوجد الآن في فلسطين حوالي 650 ألف يهودي وحوالي مليون و200 ألف عربي، يختلفون عن بعضهم في نمط الحياة والمصالح السياسية” (قرار التقسيم من العام 1947). وأكد المجتمع الدولي على أن “الدعاوى على فلسطين هي للعرب واليهود، وكلها سارية المفعول ولا يمكن التوفيق فيما بينها. لذلك تقرر بأن “من بين جميع الاقتراحات المطروحة فان تقسيم (البلاد) هو الاقتراح العملي أكثر”. الصفقة، استثناء فلسطين/ ارض اسرائيل من مبدأ تقرير المصير بشرط واضح وهو اقامة في البلاد ديمقراطية، كانت واضحة جدا بالنسبة للقيادة الصهيونية من البداية.

دافيد بن غوريون قرر في العام 1918 بأنه “من غير المرغوب فيه ولا يمكن طرد من البلاد السكان الحاليين. هذه ليست هوية الصهيونية. لو أن الصهيونية كانت تطمح لوراثة مكانة سكان البلاد الحاليين فان هذا لن يكون إلا يوتوبيا خطيرة ووهم ضار ورجعي”. زئيف جابوتنسكي جاء بعده وتعهد في العام 1923 بالقول: “أنا اعتبر أن ابعاد العرب من ارض اسرائيل غير مقبول على الاطلاق، في ارض اسرائيل دائما عاش شعبين، وأنا مستعد لأن اقسم باسمنا واسم احفادنا بأننا لن ننتهك في أي يوم المساواة في الحقوق، ولن نقوم بأي محاولة لابعاد أي أحد”.

ايضا مناحيم بيغن أكد مرة اخرى على الشرط الحاسم المذكور اعلاه للحصول على الشرعية الدولية لاقامة دولة اسرائيل. وقد كتب في 1972: “الصهيونية… هذه هي أسسها في ارض اسرائيل، التي حقوقنا فيها لا يمكن التشكيك فيها، أنه ستكون اكثرية يهودية واقلية عربية ومساواة في الحقوق للجميع. نحن لم ننحرف ولن ننحرف عن هذه العقيدة، التي تتضمنها عدالة قضيتنا”. بعد ذلك، في العام 1978 عرض خطة الحكم الذاتي التي في نهايتها المناطق المحتلة سيتم ضمها لاسرائيل، والفلسطينيون يمكنهم أن يحصلوا على الجنسية الاسرائيلية.

عودة الى هذه الايام. حكومة اسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو ترفض كل الاحتمالات. فهي ترفض حل الدولتين، وترفض اعطاء المواطنة والمساواة في الحقوق بعد ضم المناطق. هذه السياسة تنتهك تعهد الصهيونية الاساسي لعملية الاستثناء، التي بواسطتها اقيمت دولة اسرائيل. رفض الفلسطينيين لتقسيم البلاد في 1948 كف عن أن يكون عامل ذا صلة، بعد أن وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم رقم 181 والقرارات التي تعترف باسرائيل في حدود حزيران 1967. وكرروا ذلك بالاعتراف المتبادل مع اسرائيل في ايلول 1993. “م.ت.ف تعترف بحق اسرائيل في الوجود بسلام وأمن، وتعترف بقرارات مجلس الامن رقم 242 ورقم 338”.

الرأي العام العالمي، الذي ينفي وجود اسرائيل حتى في حدود 1967، يدعي أنه اذا لم تنفذ اسرائيل المطلوب منها في الصفقة التاريخية، عندها يجب الموافقة على مطالبة الفلسطينيين بدولة واحدة (بروحية اقوال جونثان ايلان، نائب السفير البريطاني في الامم المتحدة، في تشرين الثاني 2017، الذي قال في خطابه في الامم المتحدة بمناسبة مرور مئة سنة على تصريح بلفور: “تعالوا نتذكر بأنه كان قسمين في التصريح، القسم الثاني لم يتم تطبيقه”).

القصد ليس تحقيق “حلم” حماس بـ “دولة شريعة من البحر وحتى النهر”، بل القصد هو الدعوى التي قدمها محمود عباس في خطابه في الامم المتحدة في 2017: “حل الدولة الواحدة هو حل محتمل، لكن ليس بالشكل الذي تسوقه حكومة اسرائيل، بل حسب مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق. اذا تم تحطيم حل الدولتين بسبب خلق واقع الدولة الواحدة مع نظامي قوانين، ابرتهايد، هذا سيكون فشل، ولن يكون لكم أو لنا أي خيار عدا عن مواصلة النضال والمطالبة بالحقوق المتساوية لجميع سكان فلسطين التاريخية. هذا لا يعتبر تهديد، بل هو تحذير نابع من أن سياسة اسرائيل تعمل بشكل خطير على تقويض حل الدولتين”.

اللاساميون توسعوا في ذلك وقالوا بأنه اذا كانت اسرائيل تقوم بانتهاك دورها في صفقة الرزمة وتمس بحقوق الفلسطينيين الموجودين تحت احتلالها فانه يمكن ايضا انتهاك الجزء الذي يضمن عدم المس بـ “حقوق اليهود ومكانتهم السياسية في أي دولة في العالم”.

لا يمكن صد أي دعوى من خلال وصفها كلاسامية أو أنها تنبع عن الجهل، حتى لو كان عدد كبير من هذه الدعاوى هو كذلك. يتبين أنه رغم وجود من يحاولون ضعضعة النظام الدولي القائم، الذي يرتكز الى مبدأ تقرير المصير ورفض الاحتلال، مثل الرئيس الروسي فلادمير بوتين في اوكرانيا، فان المجتمع الدولي ما زال يتمسك بالنظام القائم.

اسرائيل يجب عليها التقرير، هل ستختار حل الدولتين الذي يتناسب مع القرارات الدولية منذ العام 1937 (لجنة بيل) أو أنها ستختار دولة واحدة فيها مساواة في الحقوق، حسب تعهد الحركة الصهيونية في المؤتمر الصهيوني الاول في بازل في 1897 وهو أن “الصهيونية تطمح الى اقامة للشعب اليهودي وطن في ارض اسرائيل، يضمنه قانون الشعوب”. أي انحراف عن هذا التعهد من قبل حكومة اسرائيل الحالية يلغي “عدالة قضيتنا” ويفتح المجال امام المجتمع الدولي لتأسيس نظام جديد في فلسطين/ ارض اسرائيل الانتدابية، بما في ذلك دولة واحدة، التي خلال فترة قصيرة ستكون فيها أكثرية عربية.