غزة القديمة تعيش في ألبومات الصور بعد الهجمات الإسرائيلية المدمرة

المسار الاخباري: في خضم الأنقاض التي أصبحت عليها غزة، قد يكون من الصعب تذكر كيف كانت الحياة تدب في القطاع قبل عام واحد فقط عند بدء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية والهجمات المدمرة المستمرة.

لا تشكل الصور الموجودة على هواتف النازحين الفلسطينيين إلا بوابة إلى أوقات أفضل نسبيا، وإن كانت لا تزال صعبة. وبالنسبة للبعض، فإن الصور مؤلمة للغاية بحيث لا يمكنهم العودة إليها ــ لحظات وذكريات من حياة سابقة.

يقول إيهاب المغربي (26 عاماً)، الذي نزح من منزله في مدينة غزة ويعيش الآن في خيمة في وسط دير البلح: “أكثر ما أكرهه في هذه الحرب هو النظر إلى الصور والذكريات من غزة. إنها تفتح جرحاً عميقاً وتسبب ألماً لا يطاق”.

ويضيف إيهاب أن غزة كانت “جنته” قبل أن يبدأ الجيش الإسرائيلي قصف القطاع.

كان منزل إيهاب، الذي يقع في الجزء الشمالي من مدينة غزة، ملاذه الآمن. كان يحب التصوير الفوتوغرافي، ويلتقط الجمال في اللحظات العادية من الحياة اليوميةـ الأصدقاء وهم يضحكون، والوجبات العائلية، والشوارع الصاخبة. كانت كل صورة تحكي قصة.

صور من حياة سابقة

يقول المغربي “عندما بدأت الحرب، نزحت مع عائلتي إلى جنوب غزة، تاركين وراءنا منزلنا وذكرياتنا وكل التفاصيل الصغيرة في حياتنا، والشيء الوحيد الذي بقي لي هو الصور الموجودة على هاتفي”.

بالنسبة لمحمد سفيان، 27 عامًا، فإن تدمير الأماكن المفضلة لديه أمر شخصي للغاية. لم يغادر مدينة غزة أبدًا، بل بقي في حي التفاح حيث تحول إلى أنقاض أمام عينيه وعدسة الكاميرا.

“لقد بقيت في شمال غزة ، ولهذا السبب أصبحت شاهداً على تدمير أجمل الأماكن في مدينتنا”، كما يقول.

ويضيف “ميدان الجندي، وحي الرمال، والميناء – الأماكن التي التقطنا فيها أفضل صورنا وقضينا أسعد أوقات حياتنا – أصبحت الآن مجرد ذكريات”.

في كل مرة يفتح فيها محمد معرض الصور على هاتفه، يشعر بألم شديد. يقول: “أشعر بألم شديد عند تصفح تلك الصور وتذكر أيامنا الجميلة ولحظاتنا السعيدة. معظم صوري من تجمعاتنا في الهواء الطلق، ومن منزلي، ومن عملي في السوق. والآن أصبحت مجرد ذكريات. وفي كل مرة أنظر إليها، أتمنى لو أستطيع العودة إلى تلك الأيام”.

ألم فراق النزوح

لقد نزح جزء من عائلة محمد إلى الجنوب، مع تسعة من كل عشرة من سكان غزة الذين نزحوا بسبب القصف وأوامر الإخلاء الإسرائيلية.

ويقول: “إن رؤية صورهم تقتلني في كل مرة. أشعر بحاجة عارمة إلى أن أكون معهم، وأن أحتضنهم، لكن الحقيقة هي أنني لا أستطيع ذلك. فالحرب تفرقنا”.

إن الألم يتضاعف عندما يعثر المرء على صور لأصدقائه وأفراد عائلته الذين لم يعودوا على قيد الحياة، والذين يعتبرون من بين أكثر من 41700 شهيدا منذ بداية الحرب.

وبالنسبة لحليمة محمد، 25 عاماً، فإن صور شقيقها تؤلمها أكثر من غيرها. تقول: “صوره تملأ هاتفي بالعديد من الذكريات واللحظات التي تقاسمناها. وفي كل مرة أنظر إليها، أتمنى لو كنت ذهبت معه بدلاً من البقاء لأحزن عليه”.

كان شقيق حليمة، الذي استشهد في غارة جوية إسرائيلية في ديسمبر/كانون الأول، مصدر سعادة دائم لعائلته، وكان يخرجهم دائمًا ولا يحرمهم من أي شيء.

تقول حليمة: “كل ليلة قبل أن أنام، أفتح صوره وأبكي. أتذكره بوضوح شديد، ويكسر قلبي في كل مرة”.

قبل الحرب، كانت حليمة معروفة بحبها للتصوير الفوتوغرافي. تقول: “كان الناس يطلقون علي لقب ملكة الكاميرا لأنني كنت أحب التقاط كل شيء بشكل جميل. حتى أنني اشتريت هاتف آيفون لالتقاط صور أفضل”. كان هاتفها مليئًا بصور النزهات العائلية، والأطعمة المفضلة لديها، وذكريات الحياة التي اعتقدت أنها ستدوم إلى الأبد.

وتقول “الآن، أفتقد صور الطعام أكثر من أي شيء آخر، خاصة وأننا نعيش في مجاعة منذ أشهر. فالاحتلال يمنع الإمدادات من الدخول، وقد حرمنا حتى من الأساسيات ــ الطعام والماء”.

كما أن معرض حليمة هو نافذة على منزلها السابق، بغرفة المعيشة المزينة بشكل جيد واللقاءات الدافئة التي كانت تملأه.

تقول حليمة: “هذه الصور عزيزة علي، لكنها تكسر قلبي. في كل مرة أنظر إليها، أشعر وكأنني أعيد فتح جرح لا يلتئم أبدًا”.

في البداية، تجنب إيهاب النظر إلى الوثائق التفصيلية لحياته القديمة، متمسكًا بأمل العودة السريعة. ولكن مع استمرار حرب الإبادة ازدادت حاجته إلى إعادة النظر في الماضي.

يقول “بدأت أتصفح الصور بشكل متكرر، وأحيانًا أظل أحدق فيها لساعات. شوارع حي الرمال، والمحلات التجارية، والمطاعم، والمقاهي – كل الأماكن التي لا وجود لها الآن إلا في ذكرياتي. كل تفصيلة تكسر قلبي”.

يحمل هاتف إيهاب أجزاء من حياته القديمة، لكنها تبدو بعيدة، وكأنها ملك لشخص آخر. منزله، غرفته، الليالي المتأخرة مع الأصدقاء ــ كل هذه الذكريات الآن تبدو وكأنها من المستحيل استعادتها. “كنت أرتدي ملابس أنيقة كل يوم، مكوية بعناية وجاهزة للعمل. أما الآن، فأنا أعيش في خيمة، وأرتدي نفس الملابس البالية مراراً وتكراراً. وهذا يجعلني أشعر برغبة في الانفجار ــ لم يتبق شيء من الحياة التي كنت أعرفها”.

وبالنسبة لإيهاب، الصور الموجودة في هاتفه ليست مجرد ذكريات، بل هي تذكير مرير بكل ما فقده.