
احمد عزام .. عن العربي الجديد
المسار : هناك نوع من الحضارات يشبه الشجرة التي تمتدّ جذورها عميقاً في الأرض، تستمدّ منها القوة وتكبر بفعل الزمن. وهناك نوع آخر يشبه الخيمة التي تُنصب بسرعة، لكنّها لا تصمد أمام العواصف. كانت إسبرطة من النوع الثاني، وكذلك “إسرائيل”. الأولى بنتْ مجدها على القوة وحدها، حتى اكتشفت متأخّرةً أن العالم لا يُدار بالسيوف فقط، والثانية، رغم كلّ ما تدّعيه من حداثة وتقدّم، وبأنها القلعة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تبدو عالقةً في الدوّامة نفسها: دولة لا ترى في نفسها إلا محارباً، ولا في العالم من حولها إلا ساحةَ معركة. لكنّها ليست وحدها في هذا الطريق، فقد سارت قبلاً مشاريع استيطانية عديدة في الدرب ذاته، وواجهت جميعها المصير نفسه، حين اكتشفت أن البندقية لا تستطيع حمل المشاريع الاستيطانية إلى الأبد.
حين أُنشئت إسرائيل، لم تكن كغيرها من الدول التي ترسم حدودها، بل نشأت على أساس أن البقاء نفسه معركة دائمة. إنها ليست مجرّد كيان سياسي، بل مشروع استيطاني لا يستطيع التوقّف عند حدودٍ معينة، لأن لحظة التوقّف تعني بداية النهاية. وهنا المعضلة الكبرى: ماذا بعد؟ هل يمكن تحويل دولة تأسّست على الحرب والتطهير العرقي إلى كيان عادي؟ هل يمكن لشعب جُبِل على الخوف من الإبادة أن يتحرّر من عقيدة الطوارئ؟ أم أن البقاء ذاته مرهون بالحفاظ على النزاع، حتى لو أصبح عبئاً؟
حاولت الإمبراطوريات الاستيطانية الكبرى أن تبني مشروعها على القوة المطلقة، لكنّها اكتشفت متأخّرةً أن العنف، حين يتحوّل غايةً في ذاته، يصبح لعنة. فرنسا في الجزائر، بريطانيا في روديسيا، نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا… كلّها عاشت اللحظة ذاتها، حين تحوّلت من قوةٍ لا تُقهر إلى مشروعٍ مُكلِف لا يمكن الاستمرار فيه. ليس لأن جيوشها ضعفت، بل لأن المجتمع نفسه بدأ يتساءل: لماذا نحارب؟ وعندما يصبح السؤال مسموحاً، تكون النهاية أقرب ممّا يتخيّل الجميع.
لا تنهار المشاريع الاستيطانية فجأة، بل تتآكل ببطء من الداخل. كما سقط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا عندما لم يعد الفصل العنصري مستداماً
تكرّر إسرائيل اليوم الخطأ نفسه. تبنّت منذ 7 أكتوبر (2023) عقيدة جديدة: اضرب، دمّر الحجر والبشر، ثمّ اضرب أكثر حتى تصمّ آذان العالم. ليس لأن العنف المفرط سيحلّ المشكلة، بل لأن العنف أصبح إدماناً وجودياً. لكنّها لم تتعلّم من أسلافها أن القوة العسكرية، مهما بلغت، لا يمكنها إلغاء حقيقة تاريخية: لا يمكن لجيشٍ أن يقضي على فكرة، ولا يمكن لدولةٍ أن تستمرّ إلى الأبد على حساب شعب آخر. وليس السؤال هنا في قدرتها على القتل، بل في قدرتها على تقديم رؤية غير مبنية عليه. وتساعدها في رؤيتها تلك طبيعة المشروع الإسرائيلي نفسه. أولاً، تقوم إسرائيل على سردية أنها محاطة بأعداء يريدون إبادتها، وليست هذه السردية مجرّد دعاية سياسية، بل هي جزء من الهُويَّة الإسرائيلية ذاتها، وأي محاولة لتغيير هذه العقيدة تعني زعزعة الأساس الذي تقوم عليه الدولة، وهذا خطير لمن نشأوا على فكرة أن القوة المطلقة الوسيلة الوحيدة للبقاء.
ثانيًا، تعتمد إسرائيل على الدعم الغربي، لكنّه ليس أبدياً، وتدرك ذلك. لذا، تحاول استغلال اللحظة الراهنة بأقصى قوة ممكنة، لأنها تعرف أن الزمن قد لا يكون في صالحها على المدى الطويل. وهذا يفسّر اندفاعها الشرس ضدّ كلّ محيطها بعد “7 أكتوبر”، وكأنّها تحاول فرض واقع جديد قبل أن تتغيّر المعادلات الدولية. ويتضح لنا هنا لماذا كان سقوط النظام السوري مرعباً لإسرائيل أكثر ممّا نتخيّل، وأن مجرّد استقرار سورية كابوس يومي لتلّ أبيب.
يقول المنطق إن الدول تتعلّم من أخطائها وأخطاء غيرها، لكن إسرائيل تبدو رافضة لذلك بشكل غريزي، لماذا؟… لأن التعلّم يتطلّب الاعتراف بإمكانية الخطأ، وإسرائيل لا تستطيع أن تعترف بأن مشروعها نفسه يحمل بذور انهياره. عندما تنظر إسرائيل إلى المشاريع الاستيطانية التي سبقتها لا ترى نهايتها، بل ترى نجاحاتها المؤقتة فقط. لم تتعلّم من فرنسا في الجزائر، لأنها لا تعتقد أنها استعمار. لم تتعلّم من جنوب أفريقيا، لأنها تعتقد أن نظامها الديمقراطي يختلف عن الأبارتهايد. ولم تتعلّم من إسبرطة، لأنها لا ترى نفسها دولةَ محاربين، بل مجتمعاً “متحضّراً” يدافع عن نفسه. بعبارة أخرى، ليست إسرائيل غافلة عن النهاية المحتملة، لكنّها عالقة في منظومة فكرية وسياسية تجعلها غير قادرة على اختيار طريق آخر.
إسرائيل مثل إسبرطة التي سقطت لأنها لم تستطع أن تقدّم لمواطنيها أيّ شيء سوى الحرب
حين كانت فرنسا تحتلّ الجزائر، كان الفرنسي العادي مقتنعاً بأن الجزائر جزءٌ من فرنسا. ومع الوقت، أصبح الاحتلال مكلفاً إلى درجة أن السؤال لم يعد “كيف نبقى؟”، بل “لماذا نبقى؟”، وحين سُمح بهذا السؤال، بدأ المشروع بالانهيار من الداخل قبل أن تسقطه مقاومة الخارج. إسرائيل، مثل فرنسا في الجزائر، تحتاج إلى إبقاء مجتمعها مقتنعاً بأن كلّ انسحاب هو انتحار، وكلّ تساهل يعني زوالها. لهذا، هي تعيد إنتاج الخوف بلا توقّف، سواء عبر سياسات الترهيب، أو عبر اختراع أعداء جدد كلّما اختفى الأعداء القدامى. لكنّها، مثل أيّ مشروع استيطاني آخر، ستواجه يوماً اللحظة التي يبدأ فيها السؤال المحظور بالتسلّل إلى عقول الإسرائيليين: هل يستحقّ الأمر هذا العنف كلّه؟
لم تسقط إسبرطة لأن جيشها كان ضعيفاً، بل لأنها لم تستطع أن تقدّم لمواطنيها أيّ شيء سوى الحرب. وعندما ظهرت قوى أخرى أكثر قدرة على إدارة الحياة، لم يكن لدى الإسبرطيين ما يدافعون عنه، سوى ماضٍ لم يعد يعني أحداً. لا تنهار المشاريع الاستيطانية فجأة، بل تتآكل ببطء من الداخل. كما سقط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا عندما لم يعد الفصل العنصري مستداماً، وكما سقط الاستعمار الفرنسي في الجزائر عندما أصبح الاحتلال عبئاً، ستجد إسرائيل نفسها أمام معضلة لا حلّ لها: هي لا تستطيع الاستمرار من دون العنف، لكنها أيضاً لا تستطيع البقاء بالعنف وحده، ويمكننا اعتبار أن إسرائيل المنفلتة من عدالة المنطق والفطرة البشرية اليوم هي في المرحلة قبل الأخيرة من السقوط.
ليست إسرائيل اليوم دولةً عادية، بل كيان يعيش بحالة طوارئ دائمة، ويعرف أن رفع حالة الطوارئ يعني الاعتراف بأن هناك خطأ ما في أساس الفكرة. ومثل إسبرطة التي ظنّت أن الحرب ستُبقيها إلى الأبد، ستكتشف إسرائيل يوماً أن العالم لا يسير وفق منطقها، وأن القوة التي بنتها بعناية ونيات متوحّشة قد تصبح (في النهاية) أثقل من أن تُحمل.