كتب مصطفى بلقيس: الطنطورة: من المجزرة إلى الشاطئ – نموذج مصغّر “لإسرائيل” الكبرى

مصطفى بلقيس/ قيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

المسار : في عمق المشهد الفلسطيني الذي تحكمه الذاكرة الجريحة، تبرز الطنطورة كعلامة دامغة على النكبة المستمرة، لا بصفتها مجرد قرية هُجّرت عام 1948 وارتكبت بحق اهلها مجزرة بشعة كغيرها من القرى الفلسطينية، بل بصفتها مرآة مكشوفة لمشروع استيطاني استعماري ما زال قائماً حتى اليوم. الطنطورة، تلك القرية الساحلية الجميلة جنوب مدينة حيفا، كانت شاهدة على واحدة من أكثر المجازر دموية في تاريخ النكبة، حيث ارتكبت العصابات الصهيونية مجزرة راح ضحيتها ما لا يقل عن 200 فلسطيني أعزل من سكان القرية، تم إعدامهم بدم بارد. لم تكن تلك المجزرة مجرد عمل عسكري عابر، بل كانت تطبيقاً مباشراً للعقيدة الصهيونية القائمة على التهجير القسري، واستجابة حرفية لمعادلة التطهير العرقي القائمة على السيطرة على الارض وقتل او تهجير اصحابها.

بعد ارتكاب المجزرة، تم دفن الشهداء في مقبرة جماعية على أطراف القرية من جهة البحر، ثم مُسحت الطنطورة عن الخارطة، كواحدة من بين 500 قرية فلسطينية تم تدميرها خلال النكبة. عقود طويلة مضت دون اعتراف رسمي، إلى أن ظهر المؤرخ الإسرائيلي تيدي كاتس ببحث جامعي كشف فيه تفاصيل الجريمة، مستندا إلى مقابلات مسجلة مع جنود سابقين في لواء “ألكسندروني” الصهيوني الذين أقروا بوقوع المجزرة، بل وتباهى بعضهم بدورهم فيها. لكن الحقيقة لم تمر في مجتمع أُسس على إنكار الجريمة؛ وبدلاً من أن يُحاسب المجرمون، تمت ملاحقة الباحث ذاته، وتم الضغط عليه للتراجع عن شهادته.

ومع مرور الوقت، ومع محاولات الطمس الممنهج، لم تكتف المؤسسة الإسرائيلية بإسكات الشهادات، بل ذهبت نحو الخطوة التالية في مشروع محو الذاكرة: تحويل أرض المجزرة إلى مساحة ترفيهية وسياحية. اليوم، يقف على أنقاض المقبرة الجماعية موقف للسيارات تابع لشاطئ “دور”، الوجهة السياحية الراقية التي يقصدها الإسرائيليون في الصيف، حيث الموسيقى، والبحر، ومطاعم الأسماك، وغروب الشمس الخلاب. ولا شيء في المكان يوحي للزائر أن تحت هذه الأرض ترقد جماجم أطفال ونساء وشيوخ وأبرياء قُتلوا بغير ذنب سوى أنهم فلسطينيون.

حين نقول إن الطنطورة نموذج مصغر لـ”إسرائيل”، فنحن لا نقصد فقط أنها قرية فلسطينية تم احتلالها بالقوة، بل لأنها تحمل في طيّاتها كافة مستويات وعناوين المشروع الصهيوني: من الفكرة، إلى التنفيذ، إلى تزييف الحاضر وإعادة تشكيل الذاكرة. إنها تمثل، على مساحة صغيرة، خلاصة المنهج الذي اعتمدته “إسرائيل” منذ نشأتها، والذي يقوم على أربع مراحل رئيسية: الإبادة، الطمس، الإحلال، ثم التجميل.

المجزرة التي وقعت في الطنطورة لم تكن حادثا فرديا، بل جزءا من خطة ممنهجة لطرد الفلسطينيين من قراهم ومدنهم عبر الترويع. مثلها مثل دير ياسين واللد وكفر قاسم، كانت الطنطورة واحدة من المحطات التي استخدمت فيها إسرائيل القوة المفرطة لبث الرعب ودفع السكان للفرار. بعد المجزرة، لم تُترك القرية لتشهد على الجريمة، بل مُحيت بالكامل، أُزيلت بيوتها، جُرفت أراضيها، وأعيد رسم معالمها بطريقة تجعل من الصعب حتى على أهلها التعرف إليها. يُمارس الطمس هنا ليس فقط على الحجر، بل على الرواية، في محاولة لقتل التاريخ ذاته.

في مرحلة لاحقة، تبدأ عملية الإحلال: يُجلب المستوطنون الجدد، تُبنى مرافق سياحية، يُعاد تعريف الأرض بوصفها “ملكا إسرائيليا”، بينما يُحظر على أصحاب الأرض الأصليين حتى مجرد زيارتها. في حالة الطنطورة، أُقيمت على الأرض المغتصبة منطقة شاطئية ومنتجع، وأصبح الإسرائيليون يمرحون ويسترخون فوق رفات الضحايا. هذه الخطوة ليست عشوائية، بل تهدف إلى “تطبيع” السيطرة على الأرض وخلق صلة جديدة بينها وبين المستعمر، بينما تُقطع صلة الفلسطيني بها، تمامًا.

ثم تأتي المرحلة الأكثر خطورة، وهي مرحلة التجميل، حيث يُعاد تعريف المكان بالكامل: لا ذكرى، لا شاهد، لا لافتة. يُقدَّم الشاطئ كمكان للاسترخاء، وتُغسل الدماء من المشهد عبر ترويج صورة حضارية وسياحية زائفة. هذه المرحلة لا تستهدف فقط المكان، بل تستهدف وعي الأجيال القادمة، وتسعى إلى تثبيت الرواية الاستعمارية بوصفها الواقع الوحيد.

وهكذا، حين ننظر إلى الطنطورة، فنحن لا نرى مجرد قرية محتلة أو أرض مسروقة، بل نرى خريطة إسرائيل الأيديولوجية مصغّرة: دولة قامت على المجازر، طمست معالم الضحايا، واستبدلتهم بمستعمرين، ثم قدمت نفسها للعالم على أنها “بقعة للديمقراطية والسياحة”. كل قرية فلسطينية تم تهجيرها تتحول في نهاية المطاف إلى “طنطورة”: إما غابة، أو منتجعا، أو شارعا يحمل اسما عبريا، أو موقعا عسكريا مغلقا.

الفارق في الطنطورة أنها اليوم تشكّل جرحا مكشوفا. هناك شهادات، هناك تسجيلات، وهناك أبحاث أكاديمية تؤكد أن مجزرة قد وقعت، وهناك ناجون ما زالوا أحياء يتذكرون وجوه القتلة والموقع الذي سُحقت فيه إنسانيتهم. ولكن رغم كل هذا، لا يوجد حتى نصب تذكاري واحد، ولا حتى حجر صغير يعلن أن هنا كانت قرية، وأن هنا قُتل بشر.

الطنطورة ليست فقط قصة عن الماضي، بل هي تحذير حي من المستقبل. ما حدث هناك مستمر في أماكن أخرى: في الشيخ جراح، في سلوان، في غزة وفي كل شبر من ارض فلسطين. الطنطورة لم تنتهِ، ففكرتها مازالت مستمرة. والطريق لفهم “إسرائيل” حقا، ليس فقط من خلال قراراتها السياسية أو تصريحات قادتها، بل من خلال قراءة الجغرافيا المُغتصبة… وأفضل مكان للبدء منه هو الطنطورة.

Share This Article