المسار : أولاً، لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الحديث عن حركات التضامن العالمية، والأوروبية منها تحديدًا، يحملُ مخاطرة التعميم الضارّ برسم ملامح حقيقية لوضع هذه الحركات ومواقفها وردود فعلها إزاء التطورات الميدانية المتلاحقة، إذ لن نستطيع معه تكوين معرفة حقيقية بما يجري في أوساط هذه الحركات، وذلك لتعقّد الصورة الإجمالية، واختلاف شروط وآليات بروز هذه الحركات وفقًا لسياقاتها المحلية.
ففي القطاعات المُسَيَّسة في حركات التضامن مع فلسطين، جاء فهم وتقييم قرار وقف الحرب، وتوقّف عمليات الإبادة خطوةً تهدف أولًا إلى تعزيز صورة “المنقذ” الأميركي، الذي وعد بإطلاق سراح الرهائن، في الوقت الذي سيمنح فيه بنيامين نتنياهو فرصةً للخروج من هذه الإبادة الجماعية، التي بدأت تُشكّل مصاعب خطيرة لدولة إسرائيل ومكانتها الدولية، وللعودة إلى الحرب لاستكمال الأهداف الصهيونية المعروفة.
أمّا في الأوساط المتضامنة مع فلسطين ممن التحقوا حديثًا بهذه الحركات العارمة، وممّن لا يمتلكون خبرةً سياسيةً أو ارتباطًا بأحزاب أو نقابات عمالية، فقد كان وقف إطلاق النار خاتمةً قد تكون نهائية لهذه الحرب، ما جعلهم يتنفسون الصعداء، ويفرحون من القلب لانتهاء هذه المجزرة، بعكس الصنف الأول، الذي يُعبّر بوضوح عن شكوكه في وقف الحرب، رغم توقف الإبادة مؤقتًا.
لا يتناقض كون المسيرة عملًا مدنيًا بامتياز مع طابعها السياسي البارز، حتّى مع تأكيد المنظمين: “نحن لا نمثّل حزبًا، ولا أيديولوجيةً، ولا دينًا. نحن نمثّل الشعب بكلّ تنوعه وإنسانيته”
التمييز بين هاتين الفئتين ضروري للغاية، كي نستطيع تكوين فكرة إجمالية عمّا يمكن أن يلحق بحركة التضامن من تغيّرات لاحقة: فهل ستفتر عزيمة المتضامنين في المرحلة القادمة؟ أم ستتوفر عوامل التنظيم والتحشيد لهذه القوّة الجماهيرية كي تواكب النضال الفلسطيني في كلّ المراحل، لا في مرحلة واحدة كحرب الإبادة؟
هنا، قد يكون استحضار تجربة الكاتب الشخصية إنارةً لبعض جوانب هذا السؤال المركّب، إذ عايش تجربة تنظيم المسيرة الدولية إلى “رفح”، للمطالبة بفكّ الحصار عن قطاع غزّة، وذلك في 2025/6/15. تتعلق الملاحظة الأولى بهذا الحراك التضامني الشعبي بامتياز، فمعظم من قابلتهم (في القاهرة، عند الحاجز الثاني، الذي وضع حدًّا لمشروع المسيرة، عندما قامت قوى الأمن المصرية باحتجاز جوازات سفرنا، ومنعنا من التقدّم على الطريق الصحراوي باتجاه “العريش”، نقطة تجمع آلاف المتضامنين الدوليين)، كانوا يمثلون حركةً شعبيةً بامتياز، غير نخبوية، حركة مواطَنة بلا انتماء سياسي. لقد كانت، وبوضوح، حركةً فريدةً من نوعها، ما يمكن وصفه بنوع جديد من الحركات الأممية. لا يُشبه أعضاؤها أمميي الحرب الأهلية الإسبانية، ولا مؤيدي الأممية الشيوعية الكلاسيكية، إذ إنّهم لا يدّعون الانتماء إلى أيديولوجية محددة، ولا يملكون تصوّرات مسبقة تتعدى اتّفاقهم على تأييد الحقّ الفلسطيني، ورفضهم لما يتعرض له فلسطينيو قطاع غزّة. فهم يختلفون في الكثير من نقاشاتهم، لكنهم يتفقون على ضرورة اتّحاد البشر جميعًا، متجاوزين الحدود القومية أو السياسية أو الثقافية أو العرقية، للدفاع عن مصالح الإنسانية والعدالة المشتركة. لقد كانت فلسطين لهم بمثابة رمزٍ عالميٍ للعدالة الشمولية، هذا ما يوحّدهم رغم اختلافاتهم وتمايزهم.
الأمميون الذين التقيتهم في القاهرة أشخاص رائعون، ثمّ عند الحاجزين الأول والثاني، حيث اعتدت علينا قوات الأمن المصرية بالعنف والاعتقال والترحيل القسري، لمنعنا من مواصلة طريقنا إلى الإسماعيلية وصولًا إلى العريش، وكانوا من عشرات البلدان. لقد شهدتُ لديهم حماسةً عارمةً وشجاعةً صادقةً، لكنني سمعتُ أيضًا تعليقاتٍ غير مسؤولة من بعضهم، ولاحظتُ افتقارًا للتنظيم والانضباط، والأهمّ من ذلك، عدم فهمٍ للواقع المصري الذي كان علينا عبوره.
لقد أعلن منظمو المسيرة أنّ: “المسيرة العالمية إلى غزّة حركةٌ مدنية، غير سياسية، ومستقلة”. ولكن هل يمكننا حقًا الهروب من السياسة وحساباتها؟ وكيف يمكن أن نجرؤ على وصف حركةٍ سياسيةٍ في جوهرها، حركةٍ تطالب بإنهاء الإبادة الجماعية، وانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزّة، ورفع الحصار الذي فرضته كلٌّ من إسرائيل ومصر عليه بـ “حركة مدنية غير سياسية”؟
لا يتناقض كون المسيرة عملًا مدنيًا بامتياز مع طابعها السياسي البارز، حتّى مع تأكيد المنظمين: “نحن لا نمثّل حزبًا، ولا أيديولوجيةً، ولا دينًا. نحن نمثّل الشعب بكلّ تنوعه وإنسانيته”. في الواقع، نحن نعمل في الساحة السياسية، رغم هذه الادعاءات التبسيطية والساذجة. وقد كشف موقف السلطات المصرية عن مدى عمق بعد المسيرة السياسي، حيث مُنعت، واعتُقل المشاركون فيها، واعتُدي عليهم، ورُحّلوا، رغم سلميتهم المطلقة.
ففي القطاعات المُسَيَّسة في حركات التضامن مع فلسطين، جاء فهم وتقييم قرار وقف الحرب، وتوقّف عمليات الإبادة خطوةً تهدف أولًا إلى تعزيز صورة “المنقذ” الأميركي
حجبت السذاجة التّي تبنّاها المنظمون الحقائق السياسية الراهنة، وعندما اتضّحت الحقائق فجأة، صُدم العديد من المشاركين و”هبطت” معنويات بعضهم. سأل أحد المشاركين الكاتب: كيف لدولة عربية وإسلامية شقيقةٍ لفلسطين “مصر” أن تتصرف بهذه الطريقة؟ وقد نجحتُ في إقناع شاب بعدم تعريض حياته للخطر عندما أعلن عزمه استئجار دراجة نارية لعبور نقاط التفتيش، مقتنعًا بأنّ رجال الدرك المصريين الشباب لن يجرؤوا أبدًا على إطلاق النار على الأوروبيين المتضامنين مع فلسطين. وفي مناسباتٍ عديدة، عندما شرحتُ لهم الواقع على الأرض، شعرتُ بخيبة أملٍ وانعدام ثقة. عندما قلتُ إن مصر الشعب ليست مصر النظام، ولذا فنحن لسنا في بلدٍ “صديق” من حيث نظامه السياسي الحاكم، احتجّ بعضُهم بصوتٍ عالٍ، لكن مداهمات الشرطة القسرية لفنادقنا وشققنا في القاهرة كانت كافيّةً لتوضيح الصورة التّي كانوا عاجزين عن تصورها.
هذه العيّنة الأوروبية من المتضامنين، التي عايشها الكاتب عن قرب لمدّة أسبوعين، هي وقود التظاهرات وجمهورها في عدد من البلدان الأوروبية، وهي الجمهور الأكبر مقارنةً بما يمكن أنّ تحشده الأحزاب اليسارية المتضامنة مع فلسطين، وهي ما تستحق الاهتمام بالفعل على ضوء هذا المعطى.
في فرنسا، وبعد عودتنا من القاهرة، حافظ الكاتب على علاقاتٍ متينة وواسعة مع هؤلاء المتضامنين، إذ شاركنا معًا في العديد من النشاطات والتظاهرات، وقد شهد في واحدةٍ منها موقفًا جديرًا بالذكر لدلالاته العميقة. عندما عَبَرَت التظاهرة حيًّا باريسيًا يسكنه الكثير من اليهود الفرنسيين، قام أحدهم بإلقاء “بيضة دجاج” على المتظاهرين، ولم تُصب أحدًا، ولكن، بانفعالٍ عالٍ، قامت سيدة كانت ممن لعبن دورًا كبيرًا في تنظيم المسيرة إلى رفح، برفع يديها باتجاه سكان البناية التي أُلقيت البيضة من أحد نوافذها، وهي تصرخ بهستيرية: “عرقٌ وسخ!” (sale race)، تعبيرٌ شنيع وعنصري، ضارٌّ بالقضية الفلسطينية ككلّ. طلب الكاتب منها التوقف لكنها لم تكترث، بل واصلت صراخها الهستيري، ولحسن الحظ لم يصورها أحد، إذ كان ذلك من شأنه تعزيز الخطاب الصهيوني في محاولاته تصوير التضامن مع فلسطين على اعتباره نوعًا جديدًا من “معاداة السامية”.
بالطبع، لم يكن لأيٍّ من المتضامنين من الأحزاب اليسارية أن يقوم بردّة الفعل هذه، وذلك لتوفر الوعي السياسي لديهم. المشكلة هنا، أن أغلبيةً واضحةً في صفوف المتضامنين تتكوّن بالدرجة الأولى من الفئة التي تنتمي إليها هذه السيدة المخلصة في حب فلسطين، والمؤمنة بعدالة قضيتها، لكنها، في الوقت نفسه، تشكّل خطرًا سياسيًا على قضية فلسطين. إن الحاجة إلى عملٍ فلسطينيٍّ موحَّدٍ ومنظَّمٍ باتجاه هذه الشريحة الواسعة من المتضامنين هي ضرورةٌ ملحّةٌ وعاجلة.
المصدر .. العربي الجديد

