المسار : لبس بكري ثوب المتشائل، كما لبسناه نحن ردحًا من الزمن، ثمّ خرج منه واثقًا من حقيقته الفلسطينيّة. لقد جسّد، في مقاومة الإسكات والإخضاع، قضيّة الإنسان الفلسطينيّ الذي يُقرّ بشرطه وسياقه، لكنّه يرفض أن يرفع راية بيضاء، وأن ينسى اسمه…
كثيرة هي النقاط الفاصلة في مسيرة الفنّان محمد بكري، ولعلّ أحد أهمّ هذه النقاط هو فيلم “جنين جنين”، الذي يُشكّل في نظري كتاب الطلاق بين بكري والمجتمع الإسرائيليّ. هناك، في هذا المخيّم كما صوّر معركته الفيلم، انشطرت حياة بكري شطريْن: ما قبل الفيلم وما بعد الفيلم. فقد شكّل الفيلم، بما فيه من توثيق لتوحّش جيش الاحتلال في تدمير المخيّم على رؤوس أهله في الانتفاضة الثانية، حربًا كلاميّة بين رواية المُقيم الفلسطينيّ المُدافع عن نفسه، وبين مجتمع الثكنة الوافد الراغب في إخضاع فلسطين شعبًا وقضيّة. وفي حالة بكري، جرى ذلك من خلال “قتل الرسول” و”تدمير” صورته الإنسانيّة، وتفنيد الصورة ودلالاتها كما ظهرت في الفيلم. لقد أرادوها حربًا على كلّ ما يمتّ بصلة إلى الفيلم وبكري، كجزء من الحرب لطمس الحقيقة التي جسّدها الفيلم. ومن يومها تغيّرت حياة بكري الشخصيّة أيضًا. فقد تعرّض إلى سلسلة من الدعاوى المدنيّة الماليّة بدعوى القذف والتشهير، ضدّ جنود الوحدة التي دمّرت المخيّم وقتلت الكثيرين من أهله. وتعرّض هو شخصيًّا، عشية كلّ جلسة للمحكمة، إلى محاكمات ميدانيّة أهدرت دمه، ومحاولات متكرّرة لصلبه المرّة تلو الأخرى، للانتقام منه باعتباره الشاهد والشهادة، الراوي والرواية. (عاد بكري قبل حوالي السنتيْن إلى المخيّم في فيلم ثانٍ، ليرصد ماذا حصل فيه منذ الفيلم الأوّل).
كان عليه أن يصمد مرّتيْن. في الأولى، كمخرج وصانع سينما، أرادوا في البداية شطب فيلمه، الأمر الذي رفضته المحكمة العليا في حينه (تحوّلت هذه المسألة يومها إلى كورس ضمن كلّيات القانون اخترته من ضمن الكورسات الاختياريّة)، فتحوّلوا إلى كسره ماليًّا، حتى لا يستطيع إعادة الكرّة. في الثانية، كفلسطينيّ صاحب موقف ورأي ومقولة، يعتمد لائحة الاتّهام التي يرفعها شعبه في وجه المحتلّين وماكنتهم العسكريّة والعالم من ورائها. لقد أراد مجتمع الثكنة أن يقمعه ويُحطّمه من خلال القانون، كما حُطّم الأكاديميّ تيدي كاتس، الذي وضع دراسة أكاديميّة حول مجزرة الطنطورة في أيّار من العام 1948. لكنّه، خلافًا لكاتس، فإنّ بكري، رغم كلّ الضغوط والتكاليف، لم يرفع الراية البيضاء ولم يُسلّم عنقه لمجتمع الثكنة.
هذا الفصل من حياة بكري يُغذّي فيلمًا كاملًا يحكي قصّة صموده وبقائه على العهد: على عهده لشعبه ولنفسه، كفنّان يعرف أمرًا أو أمرين عن واقعه، وعن واجبه ودوره في سياق الحرب المفروضة على شعبه منذ الأربعينيّات. هكذا ألفيته قبل أكثر من عام، عندما التقيته تحضيرًا لتصوير حلقة تلفزيونيّة معه، وشاهدت المقابلة معه عبر شاشات غُرفة التحرير. لقد بدا بكري، كما أعرفه، مصرًّا على القول باللغة العبريّة ما يقوله باللغة العربيّة. كان صريحًا في تنبّؤاته وطروحاته بخصوص مجتمع الثكنة الإسرائيليّ والاحتلال وحرب الإبادة في غزّة. وكان صريحًا جدًّا في نقده لزملاء وأصدقاء يهود أداروا له ظهرهم، ومضوا مع قبيلتهم في شوط جديد من التوحّش، عندما استهدفته المؤسّسة نفسها والمجتمع. صحيح أنّه بدا مُتعبًا وبغير أمل، إلّا أنّه كان مرتاحًا في قول حقيقته بالعبريّة للمجتمع اليهوديّ. إنّه الفنّان الفلسطينيّ في عنفوانه وتنوّره، وليس في ركضه خلف السُترة والكلام الفضفاض عن “سلام” و”حياة مُشتركة”، بحثًا عن “منصّة” أو رضا. هذا، علمًا بأنّ بكري نفسه كان، في زمن مضى، من بين رموز “الشراكة” والمشاريع المُشتركة، حينما كان للشراكة معنى، وكان في السياسة وعد وأمل. بل إنّ تجربته هذه، بالتحديد، هي التي جعلته أكثر صرامة في تقييم المرحلة، وفي نقد شركائه السابقين من المجتمع اليهوديّ، وفي مواقفه الأخيرة التي ظلّت، في جوهرها، إنسانيّة وأخلاقيّة.
لقد أبدع بكري في أداء مسرحيّة المتشائل كمونودراما ظلّت شغّالة منذ أوائل الثمانينيّات. كان في بكري، الفنّان والشخص، بوصفه من الجيل الثاني بعد النكبة، قدر مرئيّ من التشاؤل ومن الأمل. كانت مسيرته قد تغذّت ردحًا من الزمن من هذا التشاؤل، وقامت عليه، مع وضوح الشقّ الفلسطينيّ في الشخصيّة والهويّة، حتى الخروج النهائيّ منه في أوائل التسعينيّات، أو قبل بقليل. مع الوقت، وعلى غرار جيل كامل، اتّضحت هويّته الفلسطينيّة، وأخذت معالمها في السياسة، وفي الفنّ، وسائر حقول الحياة. في هذه المرحلة، صار بإمكاننا أن نلحظ وضوح صفة الفلسطينيّ مقرونة باسم الفنّان محمّد بكري. صرنا نلحظ انخراطه المتزايد في مشاريع فنّية فلسطينيّة واضحة الهويّة. في هذه المرحلة، وحتى السنة الأخيرة، عُرضت عليه مشاريع عديدة عربيّة وعالميّة تناقض هويّته ومواقفه، فرفضها بشمم، رغم الإغراء الماليّ الكبير في خواتيمها. مرّة أخرى، اتّضح أنّ الفنّ عند بكري هويّة وموقف وسياسة، وليس شيئًا خارجيًّا عنه وعن شخصه. غابت المسافة بين الفنّان وفنّه، بين الفنّان وأعماله، بين الفنّان ومهنته. هذه هي الصورة الأخيرة لبكري. هذه هي الهويّة الأخيرة التي يرحل معها. خاض التجارب الفنّية الكثيرة ليصل إلى هذا الموضع الرفيع من التكامل بين الفنّ والفنّان.
لبس بكري ثوب المتشائل، كما لبسناه نحن ردحًا من الزمن، ثمّ خرج منه واثقًا من حقيقته الفلسطينيّة. لقد جسّد، في مقاومة الإسكات والإخضاع، قضيّة الإنسان الفلسطينيّ الذي يُقرّ بشرطه وسياقه، لكنّه يرفض أن يرفع راية بيضاء، وأن ينسى اسمه. لقد اختار بكري أن يذهب بمواقفه حتى النهاية، مختارًا نهاية فلسطينيّة وإنسانيّة مُشرّفة — نهاية رجل شجاع.

