نيويورك تايمز تتساءل : رغم مرور شهرين على الهدنة .. فلماذا قُتل مئات الغزيين؟

المسار: لندن-  عن“القدس العربي”

مرّ أكثر من شهرين على بدء الهدنة في غزة. ومع ذلك، لم تتوقف عمليات قتل الفلسطينيين إلا ليوم أو يومين، في أحسن الأحوال.

قد يأتي الموت لمجرد تجاوز “الخط الأصفر”، وهو خط حدودي غير واضح يفصل بين شرق غزة، حيث رسّخ الجيش الإسرائيلي وجوده، وغربها، حيث تسعى حركة حماس إلى إعادة بسط سيطرتها على أكثر من مليوني نسمة، بحسب مقال في نيويورك تايمز للكتّاب ديفيد إم. هالفينغر، وبلال شبير، وآرون بوكسرمان، وساهر الغُرّة.

وقال الكتّاب في المقال: “عشرات المرات منذ بدء الهدنة في 10 أكتوبر، قُتل فلسطينيون بسبب عبورهم إلى الشرق، سواء فعلوا ذلك عن قصد أو من دون إدراك”.

يقول فلسطينيون إن استمرار إراقة الدماء يثبت أن إسرائيل لا تحترم وقف إطلاق النار، ولا تبالي بأرواح المدنيين في غزة

يقول فلسطينيون إن استمرار إراقة الدماء يثبت أن إسرائيل لا تحترم وقف إطلاق النار، وأنها -في أفضل الأحوال- لا تبالي بأرواح المدنيين في غزة. في المقابل، يؤكد الجيش الإسرائيلي أنه لا يطلق النار إلا ردًا على خروقات للهدنة، وأن قواعد الاشتباك لا تجيز استهداف أحد إلا إذا اعتُبر تهديدًا.

وقد يأتي الموت بسبب “القرابة الخطأ”، كما حدث لكثيرين من عائلة أبو دلال في النصيرات. ففي 29 أكتوبر، استهدفت إسرائيل اثنين من أبناء العمومة -وقالت إنهما قياديان محليان في فصائل مسلحة- فدمّرت ضربات صاروخية ليلية منزليهما. قُتل أحد الرجلين، ومعه 18 فردًا من العائلة الممتدة، بينهم طفلان في الثالثة من العمر.

وبالنسبة لميساء العطار (30 عامًا)، وهي طالبة صيدلة، جاء الموت من الوجود في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. أصيبت برصاصة في بطنها بينما كانت نائمة في خيمة والديها شمال غرب غزة صباح 14 نوفمبر. وكانت العائلة قد نصبت الخيمة قبل ثلاثة أسابيع فوق أنقاض منزلها المدمر.

أما علي الحشاش (32 عامًا)، فجاءه الموت قرابة الثامنة صباحًا في 6 نوفمبر، أثناء بحثه عن حطب شرق الخط الأصفر ليطهو الطعام لزوجته الحامل التي كان موعد ولادتها بعد أيام، وابنهما البالغ أربع سنوات. لم يكن هناك غاز للطهي في مخيم البريج للاجئين حيث كانوا يقيمون، بحسب والده حسن الحشاش.

إنه خطر بات كثيرون في غزة يتحمّلونه مع اشتداد البرد. ففي 18 ديسمبر، أُصيب صديق علي، سعيد العواودة (66 عامًا)، برصاصة أثناء جمعه الحطب في المنطقة نفسها، بحسب الحشاش. وأضاف: فقد يده. وأنا لا أكفّ عن التفكير: ليت ابني فقد يده فقط، لا حياته.

وقال المقدم نداف شوشاني، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إن إجراءات الجيش مصممة لتجنب سقوط ضحايا مدنيين. وأوضح أنه عندما يعبر فلسطينيون غير مسلحين بوضوح إلى الجانب الإسرائيلي من الخط الأصفر، يُؤمر الجنود بتحذيرهم للعودة، وإذا لزم الأمر كملاذ أخير، يُطلب منهم إطلاق النار على أسفل أرجلهم لإيقافهم.

وأضاف أن مسلحي حماس، الذين يرتدون أحيانًا ملابس مدنية ويخفون أسلحتهم، يقومون بعمليات استطلاع قرب الخط الأصفر، ما يجعل أي شخص يقترب من المواقع الإسرائيلية يبدو تهديدًا محتملًا.

يقول مسؤولون فلسطينيون إن 406 أشخاص قُتلوا منذ بدء الهدنة، بينهم 157 طفلًا

وقال شوشاني: “في غالبية الحالات، تكون الخروقات من جانب حماس. وفي معظم الحالات التي لا تكون كذلك، نتمكن من تحذير الناس فيعودون أدراجهم”.

وقال الجيش الإسرائيلي إنه غير قادر على التعليق على مقتل ميساء العطار، لأنه لم يكن على علم بالحادثة.

ويقول مسؤولون فلسطينيون إن 406 أشخاص قُتلوا منذ بدء الهدنة، بينهم 157 طفلًا. ولا يقارن ذلك بالمجازر التي شهدتها الحرب خلال العامين الماضيين، والتي بدأت بهجوم قادته حماس في 7 أكتوبر 2023 وأسفر عن مقتل 1200 شخص، ثم الغزو الإسرائيلي لغزة الذي تقول السلطات الصحية المحلية إنه أودى بحياة 70 ألف شخص، بمعدل مئات أسبوعيًا.

لكن ارتفاع عدد القتلى يسلّط الضوء على هشاشة الهدنة، في ظل خط حدودي يصعب تمييزه، وأعداء لدودين متجاورين، وظهور مسلحين فلسطينيين أحيانًا من أنفاق في مناطق يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، وإطلاقهم النار على جنوده.

كما يعكس الخلل الكبير في أعداد القتلى بين الجانبين، استمرار ممارسات عسكرية إسرائيلية قاسية، حتى في ظل الهدنة: ردّ بقوة مفرطة، واستهداف مسلحين حتى عندما يكون ذلك على حساب أرواح أعداد كبيرة من المدنيين.

نزهة عائلية بلا عودة

في 17 أكتوبر، بعد أسبوع من بدء الهدنة، استقلّ نحو اثني عشر فردًا من عائلتي شعبان وأبو شعبان شاحنة صغيرة في مدينة غزة في نزهة قصيرة. وبثقة نسبية في أمان الهدنة، غادروا مخيم الخيام الضيق الذي كانوا يعيشون فيه لزيارة منزليهم في حي الزيتون جنوب شرق المدينة، حيث كان أحد المنزلين قريبًا بشكل خطير من الخط الأصفر الذي لم يكن محددًا بعد.

كان عثمان شعبان (14 عامًا) معهم. وقال إن العائلة وصلت إلى أحد المنزلين لتفقد ما تبقى منه. ثم، كما يروي: قال أبي: لنذهب لنفحص منزلنا الآخر. كنا مستمتعين ونحن نغادر. وأضاف أن والده كان قد جمع الحطب سيرًا على الأقدام في المنطقة نفسها عدة مرات مؤخرًا، فاعتقدوا أنها آمنة. قال عثمان إن الشاحنة واجهت ركامًا يسد الطريق، فنزل من السيارة وأزاح الحجارة عن المسار. ذلك أنقذه. فعندما تقدّم والده بالشاحنة لالتقاطه مجددًا، يقول عثمان: فجأة سمعت دوي انفجار.

أُصيب عثمان بجروح في الرقبة والساقين. أما بقية من كانوا في الشاحنة فقُتلوا جميعًا: والداه، وثلاثة من أشقائه — شقيقته نِسمة (16 عامًا)، وشقيقاه أنس (12 عامًا) وكرم (10 أعوام) — إضافة إلى شقيقة السيد أبو شعبان وزوجها، وابنتهما جمانة (9 أعوام)، وأبناؤهما ناصر (12 عامًا) وإبراهيم (6 أعوام) ومحمد (4 أعوام).

أُصيب عثمان بجروح في الرقبة والساقين. أما بقية من كانوا في الشاحنة فقُتلوا جميعًا: والداه، وثلاثة من أشقائه — شقيقته نِسمة، وشقيقاه أنس وكرم، إضافة إلى شقيقة السيد أبو شعبان وزوجها، وابنتهما جمانة، وأبناؤهما ناصر وإبراهيم ومحمد

وقال قريب لهم بقي في الخلف، محمد أبو شعبان، إنه يعتقد أن والد عثمان ربما قاد الشاحنة من دون قصد باتجاه الخط الأصفر. وقد وضع الجيش الإسرائيلي لاحقًا كتلًا إسمنتية مطلية باللون الأصفر لتحديده.

وأضاف: “غزة مدمّرة إلى درجة يسهل معها أن يضلّ الإنسان طريقه”.

وقال الجيش الإسرائيلي في بيان، إن قواته أطلقت طلقات تحذيرية على مركبة مشبوهة تجاوزت الخط غير المحدد، لكنها واصلت التقدم بطريقة شكّلت تهديدًا وشيكًا، ما دفع الجنود إلى إطلاق النار لإزالة التهديد.

وأضاف شوشاني أن المسافة من الخط الأصفر إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل لا تتجاوز دقيقتي قيادة في كثير من المناطق.

لكن عثمان قال إنه لم تكن هناك طلقات تحذيرية، بل انفجار واحد فقط أودى بحياة عائلته.

كما أن وصف عثمان لمكان الهجوم على شارع صلاح الدين، وهو طريق رئيسي في غزة، على بُعد مئات الأمتار غرب الخط الأصفر، يتناقض مع رواية الجيش الإسرائيلي. فبحسب روايته، لم تكن الشاحنة قريبة إلى حد يسمح باعتبارها تهديدًا لعبور الحدود.

ويقول الجيش إنه لم يحدث أي هجوم في الموقع الذي وصفه عثمان.

وأضاف أبو شعبان أن فرق الدفاع المدني انتظرت قرابة يوم كامل للحصول على إذن إسرائيلي لجمع الجثث من المركبة المحترقة. ولم يعثروا إلا على تسع جثث، أو ثمانٍ ونصف، كما قال بدقة قاتمة.

استهداف شخصين ومقتل 18 آخرين

رغم الهدنة، أطلق مسلحون في غزة النار بشكل متقطع على جنود إسرائيليين. وفي كل مرة، ردّت إسرائيل بقوة ساحقة، مستهدفة نطاقًا واسعًا من المواقع بعيدًا عن مكان الهجوم.

في 28 أكتوبر، قتل قناص جنديًا إسرائيليًا في رفح، وهو ثالث جندي إسرائيلي يُقتل منذ بدء الهدنة، وآخر قتيل إسرائيلي في هذه الحرب حتى الآن. وفي تلك الليلة، شنّت إسرائيل هجومًا ردًا على ذلك قُتل فيه ما لا يقل عن 100 شخص في أنحاء غزة.

كان الوقت منتصف الليل في النصيرات، على بُعد نحو 16 ميلًا شمال رفح، عندما ضربت صواريخ أول منزلين تابعين لعائلة أبو دلال الممتدة.

وفي اليوم التالي، قال الجيش الإسرائيلي إنه استهدف 25 “إرهابيًا” في غزة، بينهم يحيى أبو دلال ونظمي أبو دلال، وقال إنهما قياديان في حركة الجهاد الإسلامي.

ولم يذكر الجيش شيئًا عن الضحايا المدنيين.

قال عمرو الصبخي (20 عامًا) إنه كان في منزله المقابل عندما أصاب صاروخان منزل عمته هالة، زوجة يحيى أبو دلال (50 عامًا). هرع للمساعدة فوجد ابنة عمه بيان (15 عامًا) قتيلة، وقد انشطر جسدها نصفين. قُتل يحيى وهالة، كما قُتل إخوة بيان الثلاثة، بينهم مصطفى (11 عامًا)، إضافة إلى أفراد آخرين من العائلة، بينهم توأمان في الثالثة من العمر.

وقال جار آخر، محمد قاسم (41 عامًا)، إن والدته أُصيبت بجرح عميق في فروة الرأس جراء الانفجار. وأضاف: “كنت دائمًا أخشى أن يُستهدف ذلك المنزل”، مشيرًا إلى احتمال استهداف يحيى أبو دلال. لكنه تابع: “كنت أعتقد على الأقل أنه سيكون هناك إنذار مسبق كي لا يتأذى الجيران. لم يكن هناك أي إنذار”، بحسب قوله.

وقال شوشاني إن الضربات الجوية المخطط لها تمر بعملية مصادقة صارمة. وأضاف أن إسرائيل تحذّر المدنيين قبل استهداف المباني أو البنى التحتية، لكنها لا تفعل ذلك عندما تسعى إلى تصفية أهداف محددة، خشية فرارهم، ولا يوجد جيش في العالم يفعل ذلك، على حد تعبيره.

ولم يوضح ما إذا كانت إسرائيل تجهل وجود هذا العدد الكبير من المدنيين، أم أنها رأت أن الأهداف تبرر المخاطرة بقتلهم.

هرع أفراد آخرون من عائلة أبو دلال للمساعدة بعد الغارة، بينهم نزار أبو دلال (48 عامًا)، الذي كان يسكن قرب المنزل المستهدف.

وقالت زوجته، إيمان أبو دلال، إنه عاد إلى منزله بعد ساعات قليلة.

وأضافت ابنتهما دارين (23 عامًا) أنها ووالدتها ناقشتا مغادرة المنزل، لكنهما قررتا البقاء لعدم وجود مكان أكثر أمانًا.

وبعد الثالثة والنصف فجرًا بقليل، قالت إيمان: “سمعت صفير صاروخ”، ثم شعرت بأنها تُقذف وتدور بعنف قبل أن تفقد الوعي.

نجت دارين وشقيقان لها وابنتها الرضيعة شذى. لكن والدها نزار قُتل، وكذلك شقيقها ماجد (24 عامًا)، الذي كان من المقرر أن يتزوج في نوفمبر. وعُثر على جثمانه بعد أيام، مسحوقًا بين ألواح إسمنتية.

دافع الجيش الإسرائيلي عن استهداف المنزلين، قائلًا إن الهدفين، يحيى ونظمي أبو دلال، كانا لسنوات منخرطين في توجيه وقيادة أنشطة “إرهابية” ضد إسرائيل.

وفي الطابق العلوي من منزل نزار، حيث كان يسكن نظمي، كان الدمار أشد. أُصيب نظمي، الهدف الثاني للغارة، لكنه نجا. ولم ينجُ أحد من أفراد أسرته المباشرين. قُتلت زوجته، وأطفالهم السبعة، الذين تراوحت أعمارهم بين براء (21 عامًا) وزينب (8 أعوام). وكانت براء قد طلت أظافرها في ذلك العصر، كما روت ابنة عمها دارين.

وعندما أُعلنت نتائج امتحان التوجيهي بعد أسابيع، كانت إحدى بنات نظمي، دعاء (18 عامًا)، قد حصلت على معدل 96.7 في المئة.

Share This Article