
كتبت: أماندا أونج
عند احتلال “إسرائيل” لفلسطين في عام 1948، تم اقتلاع أكثر من 750 ألف فلسطيني من أراضيهم، وقتل الآلاف من الفلسطينيين، حيث تركوا وراءهم أنقاض 530 قرية وبلدة دمرتها الميليشيات الصهيونية و”الجيش الإسرائيلي”.
بعد خمسة وسبعين عامًا، أعادت قناة الجزيرة إحياء ذكرى إحدى تلك القرى وهي قرية بيت نبالا، وذلك بناءً على ذكريات الناجين وأحفادهم، والتاريخ الموثق عن القرية.
موسم الزيتون الأخير في القرية
كان ذلك في منتصف أكتوبر عام 1947، حين وصلت الأمطار إلى قرية بيت نبالا الفلسطينية مثل ضباب فضي اللون، بعد أن سئمت من الصيف الحارق، وبدت الأراضي وكأنها تحرك الحياة فيما حولها وهي تشرب من أمطار السماء.
في منازلهم الحجرية التي تقع على منحدر صخري، عرف أهل القرية أن الوقت قد حان للتحقق من بساتين الأشجار القديمة المتناثرة عبر التلال، حيث كان عليهم الاستعداد لاستقبال اَخر موسم زيتون.
كان سكان بيت نبالا فخورين بزيتونهم المشهور بنكهته المميزة حيث يتميز بتقوية المناعة، فكانوا يستخدمون جمالهم وبغالهم لقيادة مكابس الزيت المصنوعة من الأحجار الثقيلة عبر الزيتون الذي جمعوه، حيث أن عطر هذا الزيت يخبرهم من أين سقط الزيتون، فالزيتون الذي جاء من أعلى الشجرة يملأ الهواء برائحة عطرة، لكن موسم الزيتون في ذلك العام، جلب أيضًا مأساة لهذا المجتمع القروي الذي يضم أكثر من 2600 شخص، وقد كان التل الذي تقف عليه قرية بيت نبالا مختبئًا في الوديان- منطقة الشامي في الشمال، وكريكة ووادي سرار في الجنوب، حيث غمرت الوديان بالمياه، وتحولت إلى أنهار.
“حليمة السيد” هي فتاة دخلت للتو سن المراهقة، تقطف بعضًا من آخر الزيتون على الأشجار المنتشرة على جوانب طريق الشامي شديدة الانحدار حين وقعت وسقطت في الماء، وفي وقت لاحق من ذلك المساء، جُرف جسدها إلى قرية دير طريف المجاورة، حيث لم يعرفوا حينها أهل القرية بذلك، لكن الحادث سيتردد صداه في ذكريات أصدقاء حليمة لعقود، وهي خسارة تنذر بتمزق لا رجعة فيه في حياة قرية بيت نبالا.
في القرية كان الجميع يعرف بعضهم البعض، وكانت منتجات بيت نبالا الغنية بالحمضيات والخضروات والشعير والقمح والبقوليات هي العملة المستخدمة بناء على الثقة المتبادلة فيما بينهم، والتي تضمنت التجارة والأعمال والعلاقات.
يحتفظ المزارع الذي يزرع العدس بما تحتاجه عائلته ويتبادل الفائض منه مع أحد الجيران مقابل بعض الدجاج، ويستبدل مزارع اَخر عدة صناديق من البرتقال ليأخذها إلى ابنته مثلاً، كما يتم الدفع للحلاق الذي يدير صالونًا صغيرًا في وسط القرية بأكياس من القمح، ونظرًا لأن أقرب عيادة كبيرة كانت في اللد، وهي بلدة تبعد 6 كيلومترات (3.7 ميل)، كان الناس يذهبون أيضًا إلى الحلاق للحصول على المساعدة الطبية، حيث أنه كان يعالج تسوس الأسنان إلى جانب أمراض أخرى.
صُنعت المنازل من الحجر والطين، وكانت بجانب بعضها البعض على طرق واسعة غير معبدة، وعندما كان أهل القرية يزورون بعضهم البعض، كانوا يجلسون على أرضيات مغطاة بالسجاد والبسط، بينما يقدم أصحاب المنازل للضيوف الخبز المخبوز خارج المنزل على أفران الحطب، وقد كانت المراتب التي تنام عليها العائلات في الليل مطوية بعيدًا عن جدران المنزل.
عند بزوغ الفجر، كان الرجال والنساء يتوجهون إلى حقولهم، على أطراف القرية التي تبلغ مساحتها 12.156 دونمًا من الأراضي التابعة للقرية (حوالي 3.5 ضعف مساحة سنترال بارك في نيويورك)، حيث يتم الاستفادة من الأرض بكل الطرق، مثلا كانت المحاريث نفسها مصنوعة من جذور أشجار الزيتون في بيت نبالا. أما في المساء فكانوا يزرعون البذور، منتظرين بصبر ظهور البراعم الأولى بعد بضعة أسابيع .
كانت البيارا (وهي عبارة عن بستان مروي)، مليئة بأشجار الكلمنتينا والليمون والجريب فروت والبرتقال “غرب القرية” في أسفل التل، وكانت النساء يرتدين الثوب التقليدي (الفساتين المطرزة) باللون الأحمر والأسود والبيج، كانت النساء أيضاً يقطفن الفاكهة معًا، ويتشاركن الوجبات أثناء فترات الراحة ويقسمن الحصاد بين جميع العائلات.
أما الرجال فقد كانوا يمشون أسفل التل للعمل في معسكر أنشأه البريطانيون في عام 1940، حيث تولوا إدارة منطقة شرق الأردن وفلسطين بموجب تفويض من عصبة الأمم المتحدة في نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان يوجد بداخل المعسكر حمام سباحة كبير وقاعات طعام للجنود البريطانيين، وكان هناك أيضًا ورش عمل للنجارة والأعمال المعدنية حيث استغل سكان بيت نبالا مهارات البناء من هناك، واستخدموها لبناء وإصلاح منازلهم، بمساعدة الجيران.
كان بجوار المخيم بئر القرية القديم، عمقه 100 متر في الأرض، وكان أهل القرية يسيرون على المنحدرات لنحو نصف كيلومتر لملء المياه لمنازلهم.
مقابل المخيم، عبر الطريق الذي يؤدي إلى اللد، تم إنشاء مدرسة القرية في عام 1921، حيث تتكون من أربع غرف للصفوف من الأول إلى الرابع، وهي مصنوعة من الحجر الكريمي اللون، وكان بها مكتبة، كما كانت محمية من الشمس بواسطة المظلات الخضراء، وكان ثمانية معلمين يقومون بتدريس حوالي 230 طالبًا، بما في ذلك عدد قليل من الفتيات اللواتي يلتحقن بالفتيان في الفصل.
كان بعض الرجال الذين تعلموا القراءة في المدرسة وعددهم 700، يسافرون أحيانًا إلى يافا لشراء الصحف، لكن سكان القرية كانوا يتابعون معظم أخبارهم عبر راديو بيت نبالا الوحيد، حيث تم الاحتفاظ به في منزل مختار القرية “الحاج محمود حسين”، وتبث المحطة الوحيدة المتاحة – محطة إذاعة الشرق الأدنى.
لكن في أواخر عام 1947، أصبحت الأخبار على الراديو مشؤومة، ففي 29 نوفمبر من ذلك العام، تبنت الأمم المتحدة خطة لتقسيم فلسطين، وخصصت 55% من أراضي البلاد لـ “وطن قومي” للشعب اليهودي بعد أهوال الهولوكوست.
كان من المقرر أن تظل قرية بيت نبالا في الجزء الخاضع للسيطرة العربية من فلسطين بموجب الخطة، ولكن بحلول ذلك الوقت، كان من الواضح بشكل متزايد لأهالي القرية أن مستقبل بلادهم سيتحدد من خلال الأحداث التي تتكشف أمام أعينهم، وليس من خلال المراسيم الدبلوماسية الصادرة على بعد آلاف الأميال. لقد سمعوا بالفعل روايات عن كيفية قيام أعضاء جماعة صهيونية شبه عسكرية تسمى “الهاغاناه” بتفجير منازل ملاك الأراضي الفلسطينيين طوال عام 1947، الأخبار كانت سيئة للغاية.
النكبة (خطة التقسيم)
في 13 ديسمبر/كانون الأول، علموا سكان القرية أن الإرغون “وهو فرع من الهاغاناه” قاموا باقتحام العباسية، وهي قرية تقع خارج الحدود الغربية لبيت نبالا، في اليوم التالي، هاجم جنود من الفيلق العربي – المؤلف من الشرطة وجيش إمارة شرق الأردن، وقتلوا 13 رجلاً على متن قافلة غادرت “بن شمين”، وهي مستوطنة يهودية على بعد 7 كيلومترات (4.3 ميل) من القرية.
وتلى ذلك سلسلة من الاشتباكات: قتل شخص يعمل في المخيم البريطاني المجاور لبيت نبالا؛ مما جعل مقاتلو المقاومة الفلسطينية ينفذوا هجمات ردا على ذلك ؛ كما هاجموا قطارات ميليشيا صهيونية كانت تقل قوات بريطانية، حيث أن قرية بيت نبالا لم تعد تعلم بهذه الهجمات والضربات المضادة على الراديو ؛ فقد كان العنف على عتبة بابها.
وانضم بعض أهل القرية إلى قوات المقاومة، وذلك باستخدام القليل من الأموال التي كانت بحوزتهم، ومقتنيات النساء اللاتي قمن ببيع ذهبهن، حيث اشتروا أسلحة من غزة ومصر مقابل حوالي 100 جنيه فلسطيني لكل واحدة، كما قام رجال بيت نبالا بتخزين بعض الأسلحة التي خلفها البريطانيون في نهاية الحرب العالمية الثانية.
كل ذلك لم يكن متناسبًا مع قوة الميليشيات الصهيونية، التي تم تدريب العديد من أعضائها من قبل البريطانيين، وقاتلوا إلى جانبهم في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك كان لدى رجال بيت نبالا بعض الخبرة القتالية، لقد قاتلوا إلى جانب حسن سلامة، زعيم الثورة العربية 1936-1939 ضد الانتداب البريطاني، ونسفوا خطوط السكك الحديدية والأعمدة الكهربائية، وعطلوا خطوط الاتصال التي استخدمتها القوات البريطانية والصهاينة، وانطلق حوالي عشرة منهم مرة أخرى بترسانتهم المتواضعة من الذخيرة للمساعدة في الدفاع عن القرى المجاورة التي تعرضت للهجوم.
لقد خسروا معظم تلك المعارك، ثم في 8 أبريل، وقفوا حول الإذاعة الموثوقة التي كانت لفترة طويلة المصدر الرئيسي للأخبار، وقد سمع أهل القرية أن الهاغاناه قتلت عبد القادر الحسيني، أحد قادة النضال القومي الفلسطيني إلى جانب سلامة، فبكت النساء، وقام رجل غاضب وحزين بإلقاء الراديو خارج منزل المختار.
في اليوم التالي، اقتحم 130 عنصرًا من الإرغون واللحام (جماعة صهيونية شبه عسكرية أخرى) قرية دير ياسين، على بعد حوالي 40 كيلومترًا (25 ميلًا) من بيت نبالا، حيث يُعتقد أن أكثر من 100 من سكان القرية البالغ عددهم 600 قد قتلوا، على الرغم من أن المؤرخين يحاولون التوصل للرقم الدقيق.
مر اللاجئون الهاربون شرقا من القرى الأخرى التي استولت عليها الميليشيات الصهيونية عبر بيت نبالا، وقد أحضروا معهم قصصًا عن المجازر التي ارتكبت في دير ياسين، كيف اغتصب الصهاينة النساء، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا حتى أصغر الأطفال، ولم تبق العائلات طويلا في بيت نبالا وبدأت تمشي مباشرة إلى الشرق، على أمل العثور على مكان آمن للإقامة في القرى والبلدات المتواجدة في طريقها إلى رام الله، التي كانت تُعرف بأنها لا تزال معقلا للفيلق العربي.
لم يتأثر أطفال بيت نبالا نسبيًا بالتوترات المتصاعدة حولهم، حيث أنهم بعد المدرسة كانوا يندفعون إلى الشوارع للعب، بغض النظر عن الاختباء والبحث، فقد أحبوا لعبة تسمى”شورا- العلب الملقاة” وهي عبارة عن تناول علبة غازية فارغة، وضربها بأغصان الأشجار حتى يصل إلى أعلى نقطة.
في إحدى الأمسيات في تمام الساعة 5 مساءً، كان مجموعة من الأولاد الصغار يلعبون بالقرب من المدرسة، على بعد 200 متر خارج القرية، حين نظروا إلى أعلى وشعروا بالدهشة لرؤية العديد من الرجال الذين لم يتعرفوا عليهم، حيث كان الرجال يرتدون الكوفية الحمراء، وهي غطاء رأس تقليدي شائع في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكنه ارتبط بشكل خاص بالجنود الأردنيين.
عندما سُمع إطلاق النار في الهواء، ركض الأولاد عائدين إلى القرية، حيث سمع البعض قصصًا من والديهم حول كيفية تنكر المقاتلين الصهاينة بزي أعضاء الفيلق العربي، وكانوا يعلمون أنه يتعين عليهم تحذير عائلاتهم من الهجوم، كما أخبر مدرس بعض الطلاب الذين ما زالوا في الفصل أن يختبئوا تحت مكاتبهم.
في القرية، هرع الجميع إلى منازلهم للبحث عن ملجأ، ولكن في حوالي الساعة 7 مساءً، سمعت الطائرات التي كانت تحلق على ارتفاع منخفض والقنابل التي تصم الآذان في الوديان المجاورة مهما كانت آمال السلام التي لا يزال القرويون يحملونها.
جاءت النكبة إلى بيت نبالا
من بين 750.000 و 1.000.000 فلسطيني اَخر، اضطر سكان القرية إلى مغادرة منازلهم، حيث سيطرت العصابات الصهيونية و”الجيش الإسرائيلي” على أجزاء كبيرة من فلسطين، وقد دمرت “إسرائيل” أكثر من 530 قرية فلسطينية في محاولة ممنهجة لمنع عودة سكانها الأصليين.
في مايو، طلب الفيلق العربي من أهالي بيت نبالا إخلاء القرية حتى تتمكن من إنشاء قاعدة على قمة التل لمحاربة الصهاينة، وقد قام بالفعل معظم الناس بالمغادرة إلى أي مكان يستطيعون الذهاب إليه، وقد فقد الجيران الاتصال فيما بينهم وانفصلت العائلات الممتدة، في حين بقى البعض في القرية حتى 10 يوليو.
في اليوم السابق، قصفت الميليشيات الصهيونية “التي اجتمعت رسميًا في مايو 1948 لإنشاء الجيش الإسرائيلي” اللد للضغط على سكانها للمغادرة، ولكن عندما فشل ذلك، انطلقت سيارات الجيب الإسرائيلية بالبنادق والرشاشات، وأطلقت النار على سكان البلدة وألقت قنابل يدوية على المنازل، واحتجزت القوات الإسرائيلية آلاف المدنيين العزل في مسجد، ثم أطلقت عليهم صاروخا، فقُتل أكثر من 420 شخص، وكانت جدران المسجد ملطخة بدماء الرجال والنساء والأطفال.
واستُبعد أولئك الذين نجوا إلى المنفى، بعد أن صادر الجنود مقتنياتهم التي تشمل ساعاتهم وذهبهم ومحافظهم، كان ذلك في شهر رمضان من ذلك العام، وكان معظم الناس يصومون والجو شديد الحرارة، حيث كانت درجة الحرارة 37 (99 فهرنهايت)، وانهار الكثير منهم من التعب أو لقوا حتفهم على طول الطريق، أولئك الذين ماتوا – معظمهم من كبار السن والأطفال الصغار – دفنوا على الفور في حقول الذرة، وقد اعتبرت مذبحة اللد هي المذبحة الأكثر دموية في النكبة.
ويحلم آخر من تبقى من قرية بيت نبالا بعد خمسة وسبعين عامًا العودة إلى ديارهم، أما اليوم، فلا يمكن لأحد التعرف على بيت نبالا تقريبًا باستثناء أولئك الذين كانوا على دراية وثيقة بالقرية.
المشي الطويل
وبينما فر سكانها شرقا خلال النكبة، كانت هناك خطط لهدم منازلهم، ففي 13 سبتمبر 1948، قدم ديفيد بن غوريون “أول رئيس وزراء لإسرائيل” طلبًا رسميًا لتدمير بيت نبالا إلى اللجنة الوزارية المعنية بالممتلكات المهجورة، والتي ساعدت بشكل ممنهج في مصادرة الأراضي الفلسطينية لصالح “إسرائيل”، وبحلول اَخر الشهر، تم تدمير كل المباني في القرية.
كما استولى الإسرائيليون على 116 دونمًا (29 فدانًا) أقصى غرب القرية، إلى جانب 23546 دونمًا من تسع قرى أخرى في المنطقة المجاورة، وذلك من أجل توسيع مطار اللد.
قبل عام 1948، كان المطار عبارة عن مطار متواضع جداً، به أربعة مهابط طائرات فقط، وقد تم بناء مطار اللد القديم في عام 1934 من قبل البريطانيين، وكان يستخدم في الغالب للعمليات العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت قرية بيت نبالا بجانبه مباشرة، في ذلك الوقت كانت القرية أكبر 60 مرة من المطار، وكانت الفتيات والفتيان الصغار يشاهدون الطائرات وهي تهبط.
يعتبر الآن، المطار – الذي سمي على اسم بن غوريون في عام 1973 – أكبر 100 مرة مما كان عليه، ولم يعد مصدرا للدهشة بالنسبة للأطفال الفلسطينيين، وبدلاً من ذلك، فهو يذكر الفلسطينيون بالمعاناة التي يتحملونها اليوم وقيود السفر المفروضة عليهم والتي تعتبر الأكثر قسوة في العالم.
في عام 2022، سافر 19.2 مليون مسافر عبر المطار، وهو يعتبر نقطة الدخول الرئيسية لـ”إسرائيل” بأكملها، لكن لا يمكن للفلسطينيين السفر من مطار بن غوريون “مطار اللد” دون إذن خاص من مكتب التنسيق المحلي، الذي يراقب تحركاتهم داخل وخارج الضفة الغربية وغزة، وتكاد “السلطات الإسرائيلية” تجعل من المستحيل الحصول على هذا التصريح، والبديل الوحيد هو السفر برا إلى الأردن لاستخدام مطار عمان.
تمكن الفلسطينيون من الطيران من مطار قلنديا في القدس حتى عام 1967، لكن منذ ذلك الحين ومع السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الحدود الفلسطينية، لم يكن لديهم مطارهم الخاص.
إلى الشرق من مطار بن غوريون “اللد”، تم تحويل جزء كبير آخر من القرية إلى حديقة غابات، سميت على اسم المدينة شوهام، ويمكن الوصول إلى الحديقة بالدخول إلى طريق ترابي ينحرف بشكل مفاجئ قبالة طريق إسحاق رابين السريع، الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب، حيث أن العائلات الإسرائيلية تقود سياراتها إلى هناك والاستمتاع بحفلات الشواء في عطلة نهاية الأسبوع بين الأشجار الواسعة، كما يمكن في بعض الأحيان رؤية الأطفال وهم يركلون الكرة أو يلعبون ألعاب أخرى.
يدير الحديقة الصندوق القومي اليهودي، وهي منظمة لها تاريخ كبير في طرد الفلسطينيين قسراً من أراضيهم وإعادة استخدامها للاستيطان الإسرائيلي، حيث تعتبر شوهام هي واحدة من 46 حديقة بنيت على أنقاض 372 قرية فلسطينية منذ عام 1948.
على بقايا بساتين بيت نبالا، التي تمت تم الاستيلاء عليها خلال النكبة، زرعت المنظمات اليهودية أشجار زيتون ولوز جديدة، فيأتي الزوار لاستكشاف أجزاء من الحديقة، حيث تم وضع أسماء ترحيبية مثل “طريق البساتين”، ولكن لا يوجد شيء يدل على أن الأيدي الفلسطينية كانت ترعى هذه البساتين ذات مرة.
بعد تدمير بيت نبالا، تم استخدام الأرض الواقعة في نهايتها الجنوبية الغربية لبناء “موشاف” وهو عبارة عن تعاونية زراعية أنشأها الصهاينة في مطلع القرن وتسمى بيت نحميا، وهي حاليًا موطن لأكثر من 890 إسرائيلياً، وتزين الأعلام الإسرائيلية مداخل العديد من المنازل هناك.
على بعد أربعين كيلومترًا (25 ميلًا) في مخيم دير عمار للاجئين، يتذكر علي عبد الرحمن عساف البالغ من العمر 80 عامًا بيت نبالا وهي مختلفة تمامًا عن الوقت الحالي.
يرتدي علي معطفًا بنياً طويلًا فوق الثوب التقليدي داكن اللون، ويرتكز على عصا للتجول، والرؤية في عينه اليمنى ضبابية، يسحب ببطء كرسيًا بلاستيكيًا بنيًا للجلوس على ممر منزله المكون من طابقين، حيث الطلاء الأبيض على الجدران بالخارج يتقشر، وهناك باب معدني أزرق كبير للمنزل، إنه لطيف الكلام، وغالبًا ما يتوقف عند الحديث عن طفولته.
عندما كان يبلغ من العمر خمس سنوات، كان علي ضعيفًا وكان يعاني من مشاكل في الطحال، مما جعله يشعر بعدم الراحة باستمرار، وقد كان الزيتون الوفير حول القرية ينقذه، حيث كان والده عبد الرحمن يجمع الزيتون ويستخدم معصرة زيت لطحنها وأخذ اللب، يتذكر علي قائلاً: “في الليالي التي كانت باردة ورطبة، كان يغطيني ببقايا الزيت من اللب لإبقائي دافئًا”. يعتقد علي أن مرضه هو السبب في أنه ينسى أحيانًا الأحداث التي حدثت في وقت قريب من النكبة.
يقول علي عن الحالة التي أصابت طحاله: “قيل لوالدي أن العلاج هو المشي”، حيث كان الأب والابن يتجولان حول بساتين الزيتون على أطراف القرية، وفي الوديان المحيطة بها، لتقوية جسد علي، كما كان يأخذه والده معه في أربع أو خمس مهام في اليوم، حيث أن التحرك مفيدًا لصحة علي.
كانت هذه المهمات جزءًا مما فعله عبد الرحمن كعامل غريب في المعسكر البريطاني، حيث ساعد في حرف مختلفة منها البناء، خارج عمله في المخيم، كما كان عبد الرحمن يعمل أيضًا في الحقول من الصباح الباكر قبل أن تدفئ الشمس الأرض، حيث كان يمتلك قطعة أرض بجوار مطار اللد مباشرة، وكانت مزروعة بالشعير والبامية والقمح.
منعته حالة علي من الابتعاد كثيرًا عن المنزل، لكن والده كان يسافر إلى اللد أحيانًا ويشتري الفاكهة المفضلة لعلي وهي المشمش المسكاوي، الذي يأتي من مصر، يقول مبتسمًا على نطاق واسع: “كان بداخله نواة يمكن كسرها، وكنت آكل اللب الحلو”. ظل علي في دير عمار يأكل هذا المشمش، على الرغم من أن شهوته للمشمش دائمًا مرتبطة بطفولته.
كان علي صغير على الذهاب إلى المدرسة، وكان يرافق والده أحيانًا إلى الحقول التي كان يعمل فيها، دائما مبتهجاً لكونه قريبًا من السكك الحديدية الساحلية التي كانت تمر ببيت نبالا، وكان يستلقي على الأرض ويتصور أنها وحوش معدنية ضخمة، ويقول: “كان الصوت مرتفعًا وعندما يمر القطار عبر أرضنا كنت أصرخ”. “كان والدي يذكرنا دائمًا بالابتعاد عن القضبان كلما سمعنا صوت القطار يقترب، وأتذكر أنني كنت سعيدًا جدًا برؤية القطار يمر”، لقد كان حلم علي دائمًا ركوب القطار لكنه لم يكن.
خارج القرية، عاش جد علي، مسعود خالد صافي، في منزل على التلال المجاورة للبيارة، كان الرجل العجوز أعمى، لذلك عندما كان يزور أقاربه في القرية أو يزور أرضه الواقعة في البيارة، حيث كان يزرع التين واللوز والصبار، كان علي يساعده، فيتذكر علي: “عندما مشينا عبر وادي كريكة، كان يطلب مني مساعدته حتى لا يسقط على الأرض”.
في زياراته، كان مسعود يلتقي بأصدقائه، وكان الرجال المسنون يشربون القهوة في دار الضيافة وسط القرية، كان الطابق الثاني من المبنى الحجري، بسقفه المقبب، مثاليًا لاستضافة الزوار، بينما كان الطابق الأرضي يحمي حيواناتهم.
ويتذكر علي أن التبغ المحلي المزروع في بيت نبالا هو الأكثر اهتمامًا لمسعود وأصدقائه، فيقول: “كنا نحصد الأوراق ونجففها تحت أشعة الشمس ونطحنها وندخنها، وقد واصلنا زراعة هذا التبغ في المخيم”، وعندما جاءت النكبة، لم تتح الفرصة للرجل العجوز ولا لحفيده توديع أصدقائهم.
ذهبت عائلة علي أولاً إلى بودروس، على بعد 4 كيلومترات (2.5 ميل) إلى الجنوب الشرقي، حيث مكثوا هناك لمدة شهر، ثم ساروا لعدة أيام حتى وصلوا إلى قرية دير عمار المجاورة للمخيم، يتذكر علي قائلاً: “كانت هناك شجرة زيتون كبيرة في دير عمار، وجلسنا جميعًا تحتها لعدة أيام”.
ثم عرضت عليهم عائلة كانوا يعرفونها في قرية رنتيس، التي تقع على بعد 10 كيلومترات (6 أميال) من دير عمار، البقاء في “قبو كبير للأغنام والماشية” خاص بهم، يروي علي كيف توقفوا في طريقهم إلى رنتيس وقد كان الجو ربيعياً، حيث جلست والدته فاطمة مع بعض النساء النازحات الأخريات، وصلوا سويا من أجل عودة الأسرة إلى بيت نبالا، ومع مرور الوقت بدأت ابنتها حسنية البالغة من العمر 10 أشهر في المشي، وقد ابتسم علي ابتسامة صغيرة ساخرة وهو يتذكر ما قالته النساء الأخريات، اللاتي كن يضحكن على والدته، ويقولون لها: سنعود إلى مسقط رأسنا قبل بدء حسنية في المشي.
لكن علي وأقاربه عاشوا في قبو الأغنام المزدحم لمدة عامين ، كل عائلة تأخذ زاوية منه، على الرغم من أنه لم تكن هناك حواجز أو أي شيء لفصل مساحات معيشتهم، ثم في عام 1950، انتقلوا إلى مخيم دير عمار للاجئين مثل العديد من اللاجئين الفلسطينيين الاَخرين.
على مر السنين أصبح لدى علي 16 طفلاً ، ثمانية أبناء وثماني بنات، لا يزال معظمهم يعيشون معه أو بالقرب منه في دير عمار، ويروي علي كل تفاصيل حياته في بيت نبالا لأحفاده حتى لا تضيع هذه التجارب والقصص، لكنه متشائم بشأن استقرار أحفاده في القرية، بحلول عام 1967 وهو العام الذي احتلت فيه “إسرائيل” الضفة الغربية، أصبحت استحالة العودة حقيقية بالنسبة له، حيث أن التفكير في العودة أمر ميؤوس منه، فيشعر بالأسف على الأرض والكرامة التي أخذت منهم ولم تعد.
ومع ذلك، في عام 1968، في سن الخامسة والعشرون، انطلق علي مع صديق يدعى فخري، على أمل أن يرى بيت نبالا مرة أخرى، فيقول: “ذهبنا سيرًا على الأقدام”. لم يستطع رؤية أي شيء متبقي من بيت نبالا باستثناء الأرض نفسها، يقول: “أخذنا أنا وفخري علبة حلوى وجلسنا في وادي كريكة، حيث كنت أسير انا وجدي إلى المنزل.”
لم تكن العودة للوطن التي أرادها، لكن عاد علي إلى بيت نبالا حتى لو لبضع ساعات فقط، يأكل الحلويات كما فعل ذات مرة على الأرض التي كانت عالمه بأكمله حتى ربيع عام 1948.
روابط مكسورة
كان محمود عبد الله نخلة، البالغ من العمر ست سنوات أنذاك، من بين الأولاد الذين كانوا يلعبون خارج مدرسة القرية عندما مر المقاتلون الصهاينة، وأطلقوا النار في الهواء.
وفي ذلك المساء، بعد عشاء سريع كانت أحد مكوناته الباذنجان الذي كان يزرع في البيارة، هرع هو وإخوته الأربعة ووالديه من منزلهم إلى بستان الزيتون في أقصى شرق بيت نبالا، على بعد حوالي 1.5 كيلومتر (0.9 ميل).
وقد كانت الملابس الوحيدة لديهم هي التي حملوها على ظهورهم فقط، وكانوا يغسلون تلك الملابس في الآبار بالقرب من أشجار الزيتون، يتذكر محمود البالغ من العمر الآن 81 عامًا، “كنا نرتديها مرة أخرى عندما كانت لا تزال رطبة”.
يرتدي محمود سترة زرقاء فوق كنزة بنية اللون، ويجلس في ورشة أحد الجيران في الجلزون حيث يقع مخيم اللاجئين في رام الله، وهو أحد أكثر المخيمات كثافة سكانية في الضفة الغربية حيث يبلغ عدد سكانه أكثر من 17.000 نسمة داخل 0.253 كيلومتر مربع فقط، على النقيض من ذلك، كانت قرية بيت نبالا أكبر 60 مرة في الحجم من الجلزون، وكان ما يقارب ربع سكان بيت نبالا يقطنون هناك.
تتجعد الخطوط حول عينيه عندما يبتسم، وهو يتحدث عن الحياة في بيت نبالا قبل النكبة وكيف فقد ذلك إلى الأبد.
كان والدا محمود يمتلكان منزلاً من ثلاث غرف في القرية ويعيشان في راحة نسبية، حيث يقول: “كان كل شيء على ما يرام وطعامنا جيدًا في بيت نبالا”.
كان يحب ركوب الحمار والذهاب إلى البيارة، حيث ينتظر بصبر والدته وهي تقوم بحصد الخضار ثم العودة إلى المنزل، في بعض الأحيان يكون لديهم سلة مليئة بالطماطم، وأحيانًا أخرى تكون البامية، يقول محمود: “كانت والدتي تعود إلى القرية بسلة كبيرة على رأسها، تنادي الناس وتطلب منهم شراء خضرواتنا، كنت أصرخ بصوت عالٍ، لدينا باذنجان! لدينا طماطم!”.
كانت عائلته تقايض الخضار بالقمح أو الشعير من حين لآخر، كما كان محمود ووالدته يستقلان القطار إلى اللد، حيث يشترون الكعك.
لم يعد هناك داعٍ للصراخ بعد الآن حيث تبحث الأسرة عن الباذنجان والبازلاء ذات العيون السوداء والفاصوليا الخضراء التي يمكنهم العثور عليها على الأرض، كانوا يطبخون الخضار ويخبزون الخبز على نار تحت الأشجار.
انضمت عشرات العائلات إليهم في البستان، دوى طلقات نارية متفرقة من الطرف الغربي للقرية، ولكن في بعض الأحيان، كان الناس يحاولون العودة إلى منازلهم لاستعادة سندات الملكية أو الأموال، ولم ينجوا جميعًا، لكن أولئك الذين فعلوا ذلك عادوا بحكايات مروعة عن الموتى الملقون في الشوارع، وبعضهم كانت تلتهمهم الحيوانات الوحشية.
كما أحضر الأشخاص الذين مروا بجوار البستان أثناء فرارهم من قراهم معهم قصصًا أخرى، حيث يتذكر محمود كيف يسألون: “هل سمعت عن عمليات القتل الجماعي ؟”.
عندما أصبح من الواضح أن القتال لن يتوقف، توجهت عائلة محمود – مثل معظم سكان بيت نبالا – شرقًا، نحو القرى التي لم يتم الاستيلاء عليها وحيث كانت القوات العربية مهيمنة، لكنهم لم ينجحوا جميعًا، وانضم اثنان من أبناء عمومة محمود إلى المقاومة حيث أنه لم يرهم مرة أخرى، فيقول: “لقد قتلهم الصهاينة، كان أحمد شريف ومصطفى سعيد يبلغان من العمر حوالي 18 عامًا”.
لمدة عامين، ذهبت العائلة إلى الأماكن التي تستطيع أن تنام فيها ليلاً، مروراً بسلسلة من القرى والبلدات، مبتعدة عن بيت نبالا، حيث كانوا يقيمون مع عائلات زملاء والده السابقين في المعسكر البريطاني، أو مع معارف آخرين.
ثم في شتاء عام 1950، سمع والدا محمود أن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق (الأونروا) كانت تقدم خيام النسيج في الجلزون.
يتذكر محمود أنه كانت هناك عاصفة ثلجية عندما وصلوا لأول مرة إلى المخيم، حيث يقول: “كان ارتفاع الثلج حوالي متر، وخضنا نحن الأطفال معارك ثلجية”، بعد ذلك بعامين، تم نقل الأسرة من الخيمة إلى منزل من غرفة واحدة بدون مطبخ أو مراحيض، ومنذ ذلك الحين أصبح مخيم الجلزون منزل محمود.
لتوفير المال، أكلت عائلته في أغلب الأحيان لحوم الإبل، والتي كانت أرخص من لحم البقر أو لحم الضأن، كما فعلت العائلة أيضًا كل ما في وسعها لكسب المال، في بعض الأحيان، كانت الأونروا تقدم بطانيات للاجئين لا يحتاجونها، وكان والد محمود يقوم بجمع هذه البطانيات الإضافية لبيعها لأشخاص خارج المخيم في رام الله.
يقول محمود: “كنا نحمل حوالي 10 بطانيات لبيعها، وكنا نكسب حوالي خمسة قروش لكل بطانية أي حوالي 0.05 دينار أردني، أو 14 سنتًا في ذلك الوقت”، فكنا نشتري بأرباح البطانيات طعامًا، مما أبقى العائلة دافئة في الأيام الباردة، حيث يقول محمود “إن الجو يصبح باردًا جداً عندما تمطر في الجلزون”.
أراده والده أن يذهب إلى المدرسة، لكنه ترك الدراسة بعد الصف الرابع عندما كان عمره 10 أو 11 عامًا، فيقول: “لقد أصريت على العمل، أينما وجدت العمل أقوم به”، حيث كان يبيع الآيس كريم والصحف في الجلزون، وفي وقت لاحق، غامر بالخروج إلى مدينة رام الله، والتقى برجل أرمني عمل لديه في تنظيف المنزل، وكان أيضاً يقوم بفرز الأوراق في وكالات السفر للسلطات الأردنية، وساعد العملاء في استوديو التصوير الفوتوغرافي.
أخبرهم أحد أصدقاء والده الذين زاروا الجلزون أن أكثر من 40 شخصًا من قريته هاجروا إلى كولومبيا للعمل، واقترح عليه أيضًا إرسال أحد أبنائه، فيقول محمود: “بما أنني كنت الرجل الوحيد غير المتزوج في العائلة قرر والدي أن أذهب”. ساعده صديقه في الحصول على تأشيرة تبلغ حوالي 100 دينار، وغادر إلى بوغوتا عاصمة كولومبيا.
يقول محمود عن الفترة التي قضاها في كولومبيا: “انتقلت إلى قرية، على بعد ثلاث ساعات من العاصمة”، هناك افتتح محل بقالة صغير حيث التقى بزوجته ماريسا، ويكمل: “نحن متزوجون منذ 60 عامًا، ابني الآن يبلغ من العمر 56 عامًا”.
يقول محمود إنه اختار العودة إلى فلسطين مع عائلته عندما تقدم في السن، حيث أنه لم يشعر أبداً أن كولومبيا هي موطنه، وكان يتوق إلى العودة إلى بيت نبالا.
يقول: “ما زلت آمل أن أعود”، لكنه يعرف أن القليل من بقايا القرية خارج ذكرياته، قبل خمس سنوات، في زيارته الأخيرة لفلسطين، رأى أن منزله قد اختفى، سار محمود إلى المبنى الوحيد الذي لا يزال قائما وهي المدرسة.
كما كانت أصوات القرية مفقودة، تشويش العلب التي كان يضربها هو وأصدقاؤه بالفروع ؛ وضحك الرجال والنساء أثناء عملهم في الميادين ؛ وألحان الفرح التي ميزت الاحتفالات وجمعت الناس معًا.
الحب والخسارة
بينما تتأرجح ذهابًا وإيابًا برفق، تعود أجزاء من كلمات أغنية زفافها المفضلة منذ سبعة عقود، حيث تقول سعدة صافي: “أتمنى لو كنت خرزة على وشاح، دبوس شعر لأمسك الشعر..الخ”.
على بعد حوالي 10 كيلومترات (6 أميال) من الجلزون في دير عمار، تعتقد سعدة صافي أنها تبلغ من العمر حوالي 87 أو 88 عامًا – تجلس على سرير زهري في غرفة مبنية من الحجار، صغيرة الحجم وسريعة الضحك، وهي واحدة من 230 شخصًا من بيت نبالا الذين وجدوا طريقهم إلى المخيم.
تشير سعدة إلى كنوزها القيمة، حيث خزانتها المليئة بالصور على مر السنين، وثوبها المطرز والسجاد متعدد الألوان على الأرض، شعرها الأحمر المتدلي من تحت الحجاب الأبيض، وهي ترتدي سترة صوفية سوداء فوق ثوب كستنائي مع زهور صغيرة مطبوعة عليه، تتذكر الأحداث التي وقعت منذ سنوات عديدة، وصوتها يغني وهي تتحدث.
كانت حفلات الزفاف من أبرز الأحداث المهمة في حياة سعدة في بيت نبالا، وعادة ما تتم الحفلات بعد الحصاد، وتستمر ثلاثة أو أربعة أيام، وتضج القرية بالحياة والموسيقى والرقص، فيساعد القرويون عائلة العريس في طهي الطعام ومستلزمات العيد.
تقول سعدة: “اعتدنا الذهاب إلى حفلات الحناء”، في إشارة إلى عادة اجتماعية تعود إلى العصور القديمة، حيث أنه بعد غروب الشمس عشية الزفاف، كانت صديقات العروس وأقاربها يذهبون إلى منزلها حاملين أطباق من القش على رؤوسهم مع أكوام من الحناء، يرافق هذه المواكب أطفال كانوا يغمرون النساء بالأرز في منزل العروس، كانت النساء يغنين الأغاني العربية التقليدية، بينما يستخدمن صبغة طبيعية لوضع أنماط مزخرفة على أيديهن وأقدامهن، وكان للعديد من هذه الأغاني إشارات سياسية ولم تكن تتعلق فقط بالحب أو الزواج ؛ فكانوا يشيدون بالثوار من فلسطين والأردن ولبنان وسوريا.
كانت العروس تتلقى الكسوة، بينما كانت النساء من حولها يغنين ويرقصن، حيث أن الكسوة المكونة من ملابس جديدة ومجوهرات ذهبية كانت توضع في صندوق خشبي كبير، تحتفظ به العروس معها لبقية حياتها، تقول سعدة: “ظلت هذه العادة حتى بعد النكبة في مخيمات اللاجئين، ما زلت أمتلك صندوقي الخشبي الذي احتفظت به معي عندما غادرت منزل عائلتي إلى الجلزون.
بينما تكون النساء في منزل العروس قبيل حفل الزفاف، يحتفل الرجال على الملأ خارجا، فتقول سعدة: “كانوا يصطفون من أجل الدحية” وهي عبارة عن رقصة جماعية متزامنة مع خطوات متكررة.
اشتهر رجال بيت نبالا بنسخة فريدة من الرقص تسمى “سحجة النبالية”، كانوا يتجمعون في ساحة واسعة في القرية، مع وضع أواني كبيرة من الحليب على الأرض، ثم يقف الرجال في صفوف في مواجهة بعضهم البعض ويبدأون في التصفيق وترديد الشعر عن الشجاعة والإخلاص والحب والمغازلة، يرقص الرجال أيضًا الدبكة التقليدي.
في اليوم الكبير، كان العريس يرتدي قميصًا، وثوبًا يسمى قمباز وسترة وكوفية تقليدية، والعقال الأسود في حفلة صاخبة،كان يركب على حصان من القرية إلى منزل العروس ، برفقة ثلاثة أو أربعة رجال مسنين، وأحيانًا نساء من عائلته.
ثم يسأل الشيوخ والد العروس إذا أراد التخلي عنها، ومن ثم موافقته، يبدأ حفل الزفاف بعد غروب الشمس، الأقارب يقدمون الهدايا للعروس، بعد ذلك الرجال من عائلة العروس يرفعونها على الحصان، وكانت تركب خلف عائلتها الجديدة بينما كان العريس يمشي أمامها، كانت أيام الزفاف في بيت نبالا مليئة بالأحداث المذهلة، بما في ذلك سباق الخيل في الحقول خارج منازلهم، وقد كان حفل زفاف سعدة عام 1950 أكثر هدوءًا في ذلك الوقت، حيث كانت عائلتها في مخيم الجلزون، وأجبرت على الابتعاد عن منازلهم مثل أي شخص آخر من بيت نبالا، وقد أقيم الحفل في سقيفة صغيرة مبنية من الصخور، ولم تكن هناك سباقات خيل للاحتفال بالزواج.
في وقت النكبة، كانت تبلغ من العمر 13 أو 14 عامًا، ومثل محمود، عاشت وسط أشجار الزيتون لفترة وجيزة، ذاكرتها لتلك الأيام ضبابية نوعا ما، لكنها تتذكر أنه عندما بدأ شقيقاها وشقيقتاها وأمها المشي من بيت نبالا باتجاه بلدة شقبة، كانت الحقول خارج القرية لا تزال صفراء وجافة قليلاً، مما يشير إلى أنهم غادروا أيضًا في وقت ما في أوائل مايو، قبل موسم الحصاد تحول القمح إلى اللون الأخضر، وتقول سعدة: “قصفت الطائرات ضواحي القرية الواقعة بين قرية بيت نبالا ودير طريف، و كانت العائلات في دير طريف قد غادرت قبلنا بيوم، حيث أن الناس كانوا يخشون أن يكون مصيرهم مثل دير ياسين”.
تستذكر سعدة الناس وهم يبكون ويغادرون بعرباتهم وحيواناتهم، وتتذكر أن الأشواك أصابت قدميها أثناء سيرها لأكثر من ساعة للوصول إلى قرية شقبة، حيث أقامت في كهف واسع يمكن أن يستوعب العديد من العائلات.
أما في الليل فقد ناموا على الحجارة والتراب، لكن على الرغم من هذا، لم تعد سعدة تشعر بالخوف الذي شعرت به عندما سمعت لأول مرة صوت إطلاق نار في بيت نبالا ودير طريف، حيث لم تبقى أية عائلة هناك.
في دير عمار، حيث انتقلت سعدة مع زوجها بعد زفافها، رأت بعض الوجوه المألوفة مرة أخرى، تقول: ” كان هناك متجر يمتلكه شخص اسمه محمد موسى نشتري منه الأساسيات وكل ما نحتاجه، واستقر موسى بعد النكبة مع زوجته في دير عمار، انتهى الأمر به وزوجته كجيران لسعدة في المخيم، حيث عاشوا أيامهم هناك.
لكنها لم تعرف أبدًا ما حدث لأحد أصدقائها في بيت نبالا واسمه يوسف رباح، الذي كانت تشتري منه بكرات الخيوط لصنع فساتينها، كان يوسف يعيش بجانبها في وسط القرية، وتتنهد قائلة: “لقد كان رجلاً طويلًا ونحيفًا ولطيفًا”.
قبل أشهر فقط من النكبة، حزنت سعدة على وفاة صديقتها حلمية السيد، الفتاة التي جرفت في الفيضان الشامي – وهي حادثة كانت تتذكرها هي وعلي عبد الرحمن أثناء حديثها عن تلك الفترة، أيضا عندما فرت عائلة سعدة من القرية، فقدت الاتصال باثنين آخرين من أصدقاء طفولتها.
بالعودة إلى بيت نبالا، استمتعت سعدة بالركض عبر سهول جنداس الواقعة إلى الجنوب الغربي من القرية مع أقرب أصدقائها، آمنة سعيد جبينة، تمام العبد زبن وفاطمة عيسى، وقد كانت مشاهدة الطائرات وهي تهبط بالقرب من السهول التي تبدو لا نهاية لها أثناء توجهها نحو مطار اللد مشهدًا يستحق المشاهدة، فتقول مبتهجة: “اعتدنا أن نراهم يهبطون”.
إن سنوات النكبة الفلسطينية فصلت الأصدقاء، حيث تقول سعدة: “فاطمة هي الوحيدة التي قابلتها بعد زواجي وبعد انتقالي إلى دير عمار”، على مدى عقود، ظلوا قريبين، وكانوا يزورون بعضهم البعض في كثير من الأحيان في منازلهم، تضيف سعدة: “عندما أنجبت أطفالي، ساعدتني صديقتي فاطمة، وعندما أنجبت ساعدتها”، لكن ابن سعدة الأول ربحي، توفي من البرد بعد أشهر قليلة من ولادته، كما توفيت فاطمة في النهاية في المخيم.
لم يعد أي من الأشخاص المقربين منها في قرية بيت نبالا، بل انتهى بهم المطاف في دير عمار، تقول سعدة بابتسامة حزينة: “الآن أنا الوحيدة التي لا تزال على قيد الحياة”.
تمزح قائلة إنها لم تعد إلى بيت نبالا لأن ركوب السيارة يجعلها تشعر بالدوار، لكنها تعترف: “لا نشعر بسعادة حقيقية منذ مغادرتنا قريتنا، أريد أن أرى منزلي مرة أخرى “.
في الوقت الحالي، تحتفظ بجزء من حياتها من القرية، حيث تحضر إحدى بناتها الثلاث بابور ومطحنة حجرية أخذتها عائلتها من منزلهم عندما فروا إلى بستان الزيتون، بعد 75 عامًا، مايزالوا وكأنهم جدد وغير مستخدمين، حيث تقول سعدة: “أراد شخص ما شراء حجر الرحى مني لاحقًا، لكنني رفضت بيعه، قال أحد الجيران هنا في دير عمار إن الأشخاص الذين يمتلكون حجر رحى سيكون لديهم أشياء جيدة في منازلهم، لماذا تتخلص من ذلك أو تبيعه بألف شيكل ؟ ما زلنا نستخدمه!”.
تحولت عيناها المتلألئتان إلى خجل شديد عندما سئلت عما إذا كانت قد وقعت في حب أي صبي في القرية عندما كانت مراهقة صغيرة، تضحك قائلة: “لقد طاردوني طوال الوقت، لكنني كنت أقول لهم أن يرحلوا، لم أكن مهتمة”.
أما بالنسبة للآخرين، ازدهرت الرومانسية بين أشجار الزيتون في بيت نبالا، هذا هو المكان الذي وقع فيه بالحب والدا موسى صالح البالغ من العمر 72 عامًا، وهو جراح يعيش في الأردن منذ النكبة.
يقول موسى: “كانت مريم جميلة بشكل لافت للنظر، وكان العديد من الشباب في بيت نبالا تأسرهم عينيها الخضراء،كانت تحلم بالذهاب إلى المدرسة مثل بنات بعض أقاربها، وتحدثت دائمًا بمرارة عن حقيقة أن والدها رفض إرسالها”.
وكان مصطفى من بين أولئك الذين أحبوا مريم، يقول موسى: “كان والداي أبناء عمومة”، موضحًا أن جدته لأبيه وجده لأمه كانا أشقاء وقد كانا على علاقات سيئة للغاية مع بعضهما البعض، بسبب نزاع حول الميراث كانت جدته قد طالبت به، بعد جدال مع شقيقها، بحصص من أرض الأسرة لنفسها ولأخواتها، لكن الأرض كانت تنتقل تقليديًا إلى الأبناء الصبيان فقط.
غالبًا كان مصطفى يرى مريم تتجول في القرية مع والدها، وكان يحدق بها بشوق، فعلى الرغم من رفض والد مريم لذلك، فقد كانوا يسيرون بين الأشجار المحيطة بالقرية، ويجمعون الزيتون مع أشخاص آخرين من جميع الأعمار، يقول موسى: “إنه في ذلك الوقت، كان من الشائع جدًا أن يختلط الشباب بالجنس الآخر باحترام، ولم يكن هناك استياء من التعرف على بعضهم البعض بهذه الطريقة.
تحدى مصطفى غضب عمه لطلب الإذن بالزواج من مريم، حيث أن والد مريم وهو عمه كان لا يزال غاضبًا من استهزاء أخته بالتقاليد الاجتماعية عندما طلبت الأرض، ولهذا السبب رفض ابن أخيه عدة مرات.
أخيرًا، ظهر مصطفى في منزل عمه، وعُرض عليه الضيافة العربية التقليدية وقدم الطعام والشراب، لكنه رفض تناول أي شيء حتى يحصل على ما يطلبه، المرأة التي يريدها كزوجة له، يقول موسى: “كان عليه أن يدفع 500 جنيه فلسطيني كمهر لجدي، كان هذا عام 1944، وهو الوقت الذي كان فيه متوسط المهر حوالي 80 إلى 100 رطل، ولكن لأن جدي أراد أن يجعل من الصعب للغاية على هذا الزواج أن يتم، فقد رفع التكلفة إلى خمسة أضعاف تقريبًا، فقال والدي، “نعم، سأدفع”.
باع مصطفى قطعة أرض من أجل حفل الزفاف، حيث كان لوالده زوجتان، وباعتباره الابن الوحيد للزوجة الثانية، كان لدى مصطفى أرض أكثر قليلاً من إخوته الأربعة، كما كان عمر مريم ومصطفى عندما تزوجا حوالي 19 أو 20 عامًا، وعاشا 15 عامًا سعداء مع بعضهم البعض حتى وفاة مصطفى المفاجئة في حادث عام 1960.
فرت عائلة صالح من بيت نبالا في 10 يوليو 1948، مذعورة من أنباء مذبحة المسجد في اللد، حيث تقاسموا منزلاً في شقبة مع أحد أقاربهم لأكثر من عامين، ولد موسى عام 1950، وعندما كان عمره خمسة أشهر انتقل مع شقيقه وشقيقته ووالديه وجدته إلى منزل صغير من غرفتين في دير عمار، حيث قاموا بتربية الدجاج في إحدى الغرف، بينما في الغرفة الأخرى، كانت والدته مريم تطرز بدقة فساتين للسيدات، وعلى غير العادة، لم يكن والد موسى، مصطفى مزارعًا مثل الرجال الآخرين في بيت نبالا بل كان خياطاً، وبعد وفاته أصبحت مريم المعيل الوحيد لعائلتها، حيث استمرت في خياطة الملابس للنساء لإطعام أطفالها السبعة.
على الرغم من ذلك، كان موسى طالبًا متفوقاً في الامتحانات العامة في الضفة الغربية عام 1967، وحصل على منحة دراسية لدراسة الطب في مصر، وتخصص في الجراحة العامة أثناء دراسته في المملكة المتحدة، قبل أن يستقر في الأردن، وينشأ مستشفى في مدينة الزرقاء عام 1994، حيث أدارها حتى عام 2008 قبل أن ينتقل إلى العاصمة عمان، حيث لا يزال يعمل مستشارًا عامًا.
وهو الآن يشغل منصب رئيس جمعية الحنونة للثقافة الشعبية ومقرها عمان، حيث ينصب تركيزه في الحفاظ على ثقافة وتراث فلسطين وإحيائهما، كما قضى موسى سنوات عديدة في دراسة تاريخ بيت نبالا، ومنذ عام 1990 تقدم الجمعية بانتظام عروض رقص في جميع أنحاء العالم، من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة، ويقول موسى إن العديد من هذه الرقصات تكون مألوفة للأشخاص الذين من جيل والديه من بيت نبالا.
قال أحد السياسيين الإسرائيليين ذات مرة إن كبار السن سيموتون وسوف ينسى الصغار، وذلك في إشارة إلى بيان بن غوريون في عام 1949 الذي قال فيه: “أعتقد أن مهمتي، ومهمة الكثير من الفلسطينيين، هي أن آخذ من كبار السن قبل أن يموتوا ويعطوا للشباب، لذلك يتذكرون دائمًا ما هو لنا”.
“جدتك كانت تعيش في كوخ”
أجبرت النكبة الفلسطينيين على البحث عن منازل جديدة حول العالم، من لبنان والأردن ومصر إلى تشيلي وكولومبيا وحتى ولاية كانساس في الغرب الأوسط الأمريكي.
لم ير جين زيد واسمه سابقاً نجيب زيد، أراضي بيت نبالا في أيام مجدها، لكن هذا الرجل البالغ من العمر 72 عامًا، المولود في مخيم الجلزون عام 1951 ويدير الاَن شركة أدوية تسمى “جينزادا” في تكساس، قد نشأ وهو يسمع عن موسم حصاد السمسم من والده حسن، حيث يقول: “لقد كانت حياة مثالية حقًا”.
يقول جين: “كنا مزارعين مجدين ومجتهدين”، وقد كان والده حسن يخبره عن حصاد السمسم، والذي غالبًا كان يحدث في المساء، حيث كان والده واخوته يخرجون على البغال والحمير والجمال إلى الحقول ويحرثونها طوال الليل، حيث يسمع صدى الطقطقة اللطيفة لنباتات السمسم عندما تُزال عن بذورها في القرية، كان هذا هو صوت الحياة الطبيعية في القرية الفلسطينية.
لكن الأمر مختلفًا تمامًا بالنسبة لجيل جين، حيث القصص التي رويت لهم، عن الوديان الساحرة وشقائق النعمان الحمراء النابضة بالحياة، والبساتين التي تتدفق بالفواكه المليئة بالعصائر والمشي الممتع على أكثر الأراضي خصوبة في فلسطين.
وكانت إحدى ذكريات جين الأولى هي الوقوف في طابور للحصول على حصص غذائية في مخيم الجلزون، ويتذكر ذلك قائلاً: “كان لدى كل واحد وعاء من الحساء، وهذا ما تأكله طوال اليوم”، وإذا كان هناك القليل من الخبز، فسيتشاركه معك أفراد العائلة، وقد حصل والده على وظيفة بواب في دائرة الزراعة الأردنية، وكلف أيضًا بوظائف غريبة مختلفة من قبل صاحب العمل، وتمكن من نقل الأسرة من الجلزون إلى منزل صغير في القدس الشرقية، تحت السيطرة الأردنية في ذلك الوقت.
لقد كانت عائلته مكونة من عشرة أشخاص: أربعة أخوة، وثلاث أخوات ووالديهم، ينامون في غرفتين فقط، ولم تكن هناك كهرباء أو مياه أو مطبخ، وكان المرحاض في الهواء الطلق. ومع ذلك، لم يكن هناك تحسناً للحياة في المخيم فقد كانت حياة غير صحية والناس كافحوا من أجل العثور على عمل، وفي يوم من الأيام في زيارة لأحد أقربائهم داخل المخيم لم يكن لديهم طعام او مال”، حيث يقول جين: “لقد كانت حياة مروعة، حيث لا يمكنك التحدث عن طهي جدتك، أو الطبق الذي تحبه، لأن ذلك لم يحدث قط، كانت جدتك تعيش في كوخ محاطة بالأمراض “.
يقول جين إن الفقر منعه من الأداء بشكل أفضل في المدرسة، فيعرب عن ذلك: “عندما تكون معدتك تقرقر، لا يمكنك التركيز، أتذكر أنني كنت سأكون أذكى مما كنت عليه، لو لم أكن جائعًا. “
لقد كان جين جيدًا في الرياضيات، وكان دائمًا قريبا جداً من أوائل الفصل، فيقول: “لكنني لم أستطع شراء منقلة وباقي الأدوات الهندسية التي أحتاجها، لذلك عندما طُلب مني رسم دائرة من نصف قطر معين، كنت أرسمها يدويًا وأحصل على صفر”.
لم يذهب أي من والديه إلى المدرسة، ومنذ صغره كان عليه مساعدتهما في قراءة الأوراق المهمة، ولم يكن أشقاؤه الآخرون يميلون للعلم أيضًا، لكن ينسب الفضل إلى والديه في تشجيعه على مواصلة تعليمه، فيقول جين: “كان والدي يفضل أن نترك المدرسة ونذهب ونحصل على وظيفة، لأنه لم يكن هناك ما يكفي من المال، لكن والدي رأوا أنني كنت أقوم بعمل جيد في المدرسة، واعتقدوا أنه سيكون من الأفضل لي الاستمرار، وقد كان جين يقوم بواجبه المدرسي على ضوء مصباح الكيروسين، وكان يحلم بالنهار الذي سيتمكن فيه من المغادرة ومتابعة دراسته في الخارج.
في أوائل سن المراهقة، عمل جين ستة أيام في الأسبوع في مطعم في القدس، وقام بتنظيف وغسل الأرضيات. وفي نهاية الأسبوع، كان يحصل على دولار واحد فقط، وكان صاحب المطعم في ذلك الوقت قد وعد جين بالسماح له بتناول الطعام مجانًا كل يوم مقابل عمله، ولكنه بدلاً من ذلك،كان يأخذ بقايا الطعام من صحون الزبائن ويقدمها إلى جين. يقول جين أنه حتى يومنا هذا لا يلمس بقايا الطعام لأنهم يذكرونه بمدى سوء معاملته، كل هذه التجارب كانت بمثابة جرح لم يلتئم تمامًا، لكنه كان الدافع والطموح لجين مدى الحياة. فيقول: “حتى يومنا هذا، لا أنسى هذه الأشياء أبدًا لأنها تجعلني غاضبًا، وقررت أنني لن أكون فقيرًا مرة أخرى، بغض النظر عن المكان الذي أعيش فيه “.
في عام 1967، بعد الحرب العربية الإسرائيلية مباشرة، كان جين يبلغ من العمر 16 عامًا يسير بجوار حديقة “جثسيمان” في قاع جبل الزيتون بجوار البلدة القديمة في القدس، يقول جين: “كان هناك رجل يهودي يمر بجواري نظر إلي وقال لي بالعبرية:” هذه أرضنا “، قأجاب عليه رجل كان بجانبي: “لا، هذه أرضي”، فلوح اليهودي لسيارة دفع رباعي اسرائيلية كانت بالقرب منهم، وبدأ يتحدث بسرعة إلى الجنود بلغة عبرية أكثر تعقيدًا لم أفهمها، فطلب منه الجنود ركوب السيارة، واقتادوه إلى مكان بالقرب من جبل الزيتون وضربوه حتى أغمي عليه، يقول جين: “لكنني كنت مجرد طفل، كنت خائفًا حتى الموت”.
حفزه هذا الحادث على الدراسة بجدية أكبر حتى يتمكن من مغادرة فلسطين، وكسب ما يكفي لمساعدة عائلته على الهروب من إهانات الاحتلال الإسرائيلي قدر الإمكان، فيقول: “أنهيت دراستي وذهبت إلى الأردن للحصول على جواز سفري “، وذلك في إشارة إلى وثائق السفر المؤقتة التي كانت تصدرها الحكومة الأردنية للفلسطينيين الراغبين في السفر إلى الخارج لعدة أشهر، وقد كان جين يبحث في جامعات الولايات المتحدة، والتحق بجامعة كانساس الأمريكية لدراسة الكيمياء.
ساعده زملاء والده في العمل من كتابة الرسائل وبياناته الشخصية التي يحتاجها لتقديمها إلى الجامعة، وترجمة أوراقه الأكاديمية، وادخر للفصل الدراسي الأول للجامعة عن طريق بيع بطاقات بريدية للجنود الإسرائيليين كان يشتريها من مكتبة محلية.
انتهى الأمر بجين إلى كسب حوالي 1500 دولار من بيع تلك البطاقات البريدية، وفي نفس العام، استقل رحلة إلى الولايات المتحدة لبدء الجامعة، وكان أول من أكمل تعليمه العالي في عائلته، يقول: “أردت فقط الخروج من هناك”.
بدون منحة دراسية، قام بغسل الأطباق وتقديم الطعام في المطاعم، وتنظيف المكتبات والمراحيض لدفع الرسوم الدراسية ونفقات المعيشة، وبعد التخرج عمل في صناعات مختلفة من تعليب اللحوم إلى النفط والغاز حتى حصل أيضاً على درجة الدكتوراه في الكيمياء من جامعة ولاية ويتشيتا في كانساس، وعند الانتهاء من دراسته، استقر في كانساس، وأنشأ مختبرًا صغيرًا في الفناء الخلفي للمنزل الذي يعيش فيه، وصنع منتجًا لحقول النفط يمنع التآكل في آلات ومعدات الإنتاج، وبعد تسجيل براءة اختراع هذا المنتج بنجاح، أسس جين شركته الخاصة لتصنيع المواد الكيميائية في حقول النفط.
في عام 1980، تمكن أخيرًا من إحضار والديه إلى الولايات المتحدة، لكنهم لم يبقوا عنده قائلين له: “هذا ليس لنا، سنذهب للمنزل وللوطن”، لذلك انتهى الأمر بجين بشراء منازل لأفراد عائلته في القدس، حيث عاش والديه حتى وفاتهما؛ والده توفي في عام 2008، ووالدته بعده بعشر سنوات.
في عام 1994، غيَر اسمه رسميًا إلى “جين” مأخوذ من اسمه الحقيقي نجيب، بعد أن سئم من عدم تمكن الناس من نطقه بشكل صحيح. يقول: “على أي حال، أردت أن يركز الناس على عملي بدلاً من المكان الذي أتيت منه”.
بعد 30 عامًا من إدارة شركته، باعها واستثمر 75 مليون دولار في بناء شركته الصيدلانية الحالية Genzada””، التي تركز على إنشاء علاج للسرطان باستخدام النباتات الطبية الفلسطينية التقليدية.
على مر السنين، زار جين موطنه فلسطين مرارًا وتكرارًا لرؤية عائلته، حيث يرتج صوته عندما يتحدث عن رغبته في العودة إلى الأبد، ولكن ممكن أن يحدث ذلك فقط إذا كان حراً وليس تحت السيطرة الإسرائيلية، حيث يقول: “لقد فكرت في العودة كثيرًا ، لكن لا أريد أن أتعرض للضرب من قبل الجنود الإسرائيليين”.
هذه قريتي
تهيمن الأعلام واللافتات الإسرائيلية ، “من بيت نحميا موشاف إلى حديقة شوهام ومطار بن غوريون”، على المناظر الطبيعية التي كانت ذات يوم بيت نبالا.
ومع ذلك، هناك القليل من المعالم بالقرية التي مازالت موجودة، لأولئك الذين يعرفون كيفية العثور عليها وسط العشب المتضخم والشجيرات الشائكة.
فمثلا: على بعد ستة إلى ثمانية أمتار فقط غرب المدرسة، حيث كان محمود وأصدقاؤه يلعبون عندما تعرضت القرية للهجوم لأول مرة، تظهر القرية القديمة، كما يوجد شرق المدرسة المقبرة التي لا تزال محاطة بالصبار، يقول موسى صالح الذ يعمل جراحا في الأردن: “إن هذا الصبار يشهد على حقيقة أن الفلسطينيين كانوا يعيشون هنا، حيث أن الصبار لا ينمو بمفرده، يجب على شخص ما زراعته”، ومنذ عام 1948، تحول الصبار إلى رمز للمقاومة الفلسطينية حيث أنه قوي وينمو في أقسى البيئات.
في زياراته للقرية، يحب موسى قضاء الوقت بجوار شواهد القبور في المقبرة، على الرغم من تدميرها، إلا أنه يجد الراحة في حقيقة أن أجداده دفنوا هناك، فيقول: “على الأقل لم يعانوا من ألم فقدان منازلهم”.
لكن بيت نبالا ليس فقط لأولئك الذين يعيشون هناك، فعلى مدى السنوات 20 الماضية كان الشباب يحاولون استعادة قرية أجدادهم بطرقهم الخاصة، من خلال العودة بشكل متكرر لتعلم أكبر قدر ممكن عنها.
ذهبت حنين صالح، ابنة موسى البالغة من العمر 37 عامًا، إلى القرية عدة مرات منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، لكن في زيارتها الأولى، صُدمت بردة فعل والدها عندما تجول في مكان كان قد سمع عنه الكثير من القصص، لكن لم تتح له الفرصة للعيش فيه، حيث تقول: “كان يحاول بجد البحث عن شيء يعرفه أو سمع عنه، كان من المحزن رؤيته يبحث عن شيء يمكنه التواصل معه”، لكن على مر السنين وبعد رحلات متعددة مع أقارب آخرين عاشوا في بيت نبالا، تعتقد أن والدها وجد أخيرًا العلاقة مع الأرض التي كان يبحث عنها.
كانت حنين تحلم بعالم بديل حيث لا تزال تعيش في بيت نبالا، فتقول: “لقد أنشأت مدونة على موقع Facebook، وأنشأت أصدقاء خياليين من القرية، وكنت أكتب عنهم أشياء مختلفة”.
على الرغم من أن هذه المنشورات كانت تلقى دعم وردود ايجابية، إلا أن حنين توقفت في النهاية عن كتابتها، وتقول إنها غير متأكدة من السبب في ذلك، لكنها تشعر بأنه أصبح لديها تشتيت للواقع ولرسم الخيال، وأنها لن تتمكن من الذهاب والعيش في بيت نبالا، لكن في الآونة الأخيرة كانت تفكر في البدء من جديد مرة أخرى.
تقول ضاحكة: “أقول دائمًا إنني تربيت تربية فلسطينية وليست تربية مسلمة أو عربية، فبالنسبة لي كانت فلسطين مكانًا تعلمنا فيه كيفية العيش والتواصل الاجتماعي، كان والداي يقولان لي: “يدرس الفلسطينيون بجدية أكبر.. الفلسطينيون لا يكذبون، كما أننا محاطين طوال الوقت بالرقصات الفولكلورية والأغاني، وارتدت جدتي طوال حياتها الأثواب الفلسطينية حتى أصبحت كبيرة في السن، لذلك كنت أعرف دائما من أينأتيت “.
لكنها أدركت لاحقًا أن العديد من الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية لم ولن يشعروا بنفس الشعور تجاهها، وربما كانوا يعتقدون أنها تهرب من حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، فتقول: “في كل مرة أتحدث فيها عن فلسطين مع شخص يعيش هناك، كانوا يقولون نعم، ماذا تعرفي ؟ أنت لا تعيشين هنا لكي تعرفي”.
عاقدة العزم على إثبات علاقتها بالأرض، عاشت حنين في رام الله من عام 2013 حتى عام 2022، وغادرت في النهاية إلى دبي، بخيبة أمل من واقع حياتها تحت الاحتلال الإسرائيلي مع اعترافها بالامتيازات المقدمة لها خارج الوطن، حيث تقول: “كان علي أن أعطي الأولوية لنفسي وصحتي العقلية على أن أعيش في مكان أتذكر فيه كل يوم أن حياتي ليست مهمة، وأنني يمكن أن أموت في أي لحظة”.
لكن حنين تقول أثناء وجودها في رام الله: “عادة ما أشعر بالحاجة للذهاب إلى بيت نبالا”، وأقوم بذلك كل بضعة أشهر، وأتعجب من حقول القرية كيف تبدو وكأنها تنبض بالحياة بدرجات مختلفة من الألوان خلال الفصول الأربعة، لقد رأيت ذلك عندما تزهر الزهور، جميلة وصفراء في بداية الربيع، وذات مرة ذهبت إلى هناك وكان مليئًا بالخزامى، لقد قطفت بعضا منها لأخذها معي، وشعرت وكأنني أستعيد أرضي”.
مثل حنين تماماً، غالبًا ما تفكر رند صافي البالغة من العمر 31 عامًا، في شكل الحياة في بيت نبالا، حيث نشأ جدها لأبيها عبد الرحيم حسن صافي، حيث تعيش الاَن رند في رام الله وتعمل مع جمعية رواد أعمال التكنولوجيا الفلسطيينين.
كان جد رند متحفظاً جداً بشأن تجربته مع النكبة الفلسطينية والتهجير، حيث فر إلى الأردن في عام 1948، ولكنه لم يستطع تحمل ذلك لأنه كان بعيدا جداً عن قريته ثم عاد وعاش بقية حياته في دير عمار.
في زيارتها الأولى لبيت نبالا في عام 2018، ذهبت رند مع طارق بكري، الناشط والباحث الفلسطيني الذي كان لديه مبادرة بعنوان “كنا وما زلنا… هنا ” لما يقارب العشر سنوات، وذلك من خلال البحث في الصور الفوتوغرافية منذ عام 1948، والخرائط والرسومات البيانية من أطلس فلسطين للمؤرخ سلمان أبو ستة، إضافة إلى الحوارات الغير رسمية مع ناجيين من النكبة، ومجموعة انتقائية من الموارد الأخرى، حيث عمل طارق على ترتيب وتوثيق الرحلات إلى الوطن لمئات الفلسطينيين الراغبين في زيارة قراهم القديمة، وفي بيت نبالا سارا رند وطارق لساعات في محاولة لتصور كيف كانت تبدو المباني.
تقول رند: “كان الأمر صادماً بالنسبة لي، عندما تتخيل أنك ترتدي نظارات الواقع الافتراضي، وترى كل شيء مبني على أرض فارغة مليئة بالصبار والنباتات المختلفة، شعرت وكأنني دخلت إلى واقع آخر، بناءً على التاريخ والقصص التي سمعتها إلى جانب الكتب التي قرأتها”.
في العام الماضي، اصطحبت رند شقيقها الأصغر البالغ من العمر 13 عامًا إلى بيت نبالا لأول مرة، وتقول: لطالما أردت أن تكون تلك الرحلة والقرية جزءًا من حياة أخي، وفي نهاية الرحلة كانت تتوق إلى المزيد، حيث تقول : “لا يوجد شيء آخر يمكنك رؤيته، باستثناء المقبرة والمدرسة والمواقع المختلفة لأماكن وجود المنازل، أريد أن أرى المزيد، أريد أن أنام هنا! أريد أن أشعر أنني أستطيع العيش هنا”.
العودة للوطن كانت بمثابة رحلة معاناة مريرة لرند، فعلى بعد 40 كيلومترًا (25 ميلاً) فقط من رام الله، يتخللها فترات انتظار لساعات طويلة عند نقطة تفتيش نعلين، الواقعة على طول الجدار الفاصل الذي يفصل الضفة الغربية عن إسرائيل، لكن وعلى الرغم من ذلك في كل زيارة، عندما تقترب رند من نقطة التفتيش، لا تخفي أبدًا المجوهرات التي ترتديها، والتي تشمل سوارًا عليه شكل الصبار الفضي، وقلادة عليها صورة شخصية شهيرة تسمى حنظلة، ابتكرها رسام الكاريكاتير ناجي العلي عام 1969 الذي يمثل الشعب الفلسطيني، حيث أنه صبي يبلغ من العمر 10 سنوات لا يُرى وجهه أبدا ويداه مشبوكتان خلفه، مما يرمز إلى مقاومته للاحتلال الإسرائيلي.
أعادت رند الاتصال بصديق قديم لوالدها، كاتب القصة القصيرة والمعلم زياد خداش، الذي فاز بالجائزة الفلسطينية للأدب عام 2015 ويعيش في مخيم الجلزون، حيث أرادت العودة إلى بيت نبالا، فسمعت عن رحلة كان زياد ينظمها إلى بيت نبالا في عام 2021، مع حوالي 20 شخصًا آخرون، وانطلقوا معًا في حافلة إلى هناك.
يتحدث زياد البالغ من العمر 58 عامًا عبر رسائل صوتية على تطبيق الواتس اَب، عن كيفية نزوح جده من بيت نبالا وكيف أثر ذلك عليه، فيقول: “حتى عندما أكتب، أشعر أنني كاتب لاجئ، فالأمر لا يتعلق فقط بكيفية تجريدي من ثروتي، أو كيف أعيش الآن في مخيم بلا أرض، أو أن والدي يستخدم وعاء نباتي كلما أراد زراعة البقدونس أو أي شيء آخر، حيث أنني أشعر دائما أن جدي نقل شعور المعاناة وألم الطرد لي”.
في عام 2016، كان زياد يسير في أحد شوارع مخيم الجلزون عندما التقى بعمته حليمة خداش، التي كانت تبلغ من العمر أنذاك 78 عامًا، استقبلها قائلا “إن شاء الله سنكون في المنزل العام المقبل”، ولكنها ردت عليه بأنها لم تعد إلى بيت نبالا منذ عام 1948، فصُدم زياد واتصل بطارق البكري، وقرروا تنظيم رحلة إلى بيت نبالا لحليمة وامرأتان مسنتان أيضاً ترجع أصولهم إلى بيت نبالا.
وانطلق الخمسة من رام الله في سيارة طارق، جلست النساء الثلاث في الخلف يغنين الأغاني ويتحدثن بحماس، عندما وصلوا إلى القرية، يتذكر زياد ويقول: “صعدوا التل بسرعة لا تصدق، وهم يصرخون مثل الأطفال: بيت نبالا، بيت نبالا!” كانت حليمة التي حرصت على ارتداء ثوبها التقليدي، قليلة الحجم تشبه الطيور، تقفز وتغني، قالت لزياد: “أرشدنا إلى البساتين الثلاثة حتى أتمكن من أن أريكم منزلنا القديم”، وقادها طارق إلى البساتين فبدأت تصرخ: “هذا منزلي، هذا منزلي، هذا منزلي!”.
يضحك طارق وهو يتذكر كيف تمكنت حليمة من تحديد المكان الذي عاشت فيه بالضبط، فيقول: “كنا نقف على الأنقاض، لكنها تستطيع التعرف على كل شيء، وقضينا ساعتين هناك، حيث جلست النساء الثلاثة على الأرض، وقطفن الزيتون الذي سقط من الأشجار وملأن الأكياس البلاستيكية بها، لكن عندما حاول هو وزياد إخبارهم أن الوقت قد حان للمغادرة، قاموا بنشر بساط وجلسوا على الأرض، حيث قالت حليمة لزياد: “اتركني أريد أن أنام هنا، اذهب وأحضر لي خيمة لا أريد العودة إلى رام الله.. هذه قريتي”.
بعد ذلك، توجهوا إلى الساحل، يقول طارق: “وقفت حليمة بحذر شديد على رمال البحر وهي تحدق في اتجاه المياه الفيروزية، وتغمس أصابعها فيه بحذر”.
لا تزال قرية بيت نبالا تطارد زياد في كتاباته وفي أفكاره فيقول: “عندما ينطق أي شخص بكلمة بيت نبالا أشعر بأن قلبي يتشنج من الحزن ومن فرحة غامضة”، لقد فكر هو أيضًا فيما كان سيفعله إذا لم تحدث النكبة حيث يقول: “أتخيل أنني سأكون أستاذًا في جامعة يافا، على سبيل المثال – أستاذ الكتابة الإبداعية، ومعي سيارة صغيرة وزوجة وأطفال، نذهب إلى البحر في الإجازات والعطلات، كما أتخيل امتلاك أرض ولدي مصدر دخل آخر يكمل راتبي الجامعي، أتخيل السهر في الليل، والذهاب إلى المقاهي في يافا وفي اللد والرملة، والعودة إلى المنزل في وقت متأخر ولكن بأمان”.
في كثير من الأحيان، يبدو كابوس النزوح وكأنه مزحة كاميرا خفية له، حيث يتخيل أن شخصًا ما سيغلق الكاميرا في النهاية، ويغلق الكابوس الجماعي الذي يعيش فيه ملايين الأشخاص الفلسطينيين الذين هُجروا من بيت نبالا وقرى أخرى في ذلك الوقت 1948.
لكن في الوقت الحالي، لا يمكنه أن يحلم إلا بما سيفعله عندما يسترجع الأرض مرة أخرى، يقول: “سأسرع نحو التل، أعلى نقطة في بيت نبالا، وسأصرخ صرخة مجنونة من الحب والفرح تهز زوايا الأرض”.
لم يكن من الممكن سرد قصة قرية بيت نبالا إلا بذكريات ودعم علي عبد الرحمن عساف، محمود عبد الله نخلة، سعدة صافي، موسى صالح، طارق بكري، شرف دار زيد، جين زيد، حنين صالح واَخرون، والكتب الرائدة مثل أطلس فلسطين ؛ إضافة إلى توثيق الفترة من 1947 إلى 1950 من قبل المؤرخين والصحفيين.
نقلا عن وكاله وطن للأنباء