النفاق الأخلاقي … لا “عدالة” مع العقلية الاستعمارية

مقتطفات من مقالة جورج كرزم

في كانون ثاني الماضي، طالبت محكمة العدل الدولية (في لاهاي) إسرائيل بوقف أعمال “الإبادة”. ولأول مرة منذ إنشائها عام 1948 وُضِعَت إسرائيل في خانة المتهم باقتراف “جريمة الإبادة الجماعية” في قطاع غزة والتحريض المباشر عليها؛ وذلك استنادا إلى ما أسمته هيئة المحكمة “معقولية” الأدلة المقدمة إليها من جنوب افريقيا، بخصوص تنفيذ إسرائيل جريمة “الإبادة الجماعية”.  وطالبت المحكمة إسرائيل باتخاذ إجراءات “لمنع الإبادة الجماعية” وضمان توفير الاحتلال للخدمات والمساعدات الملحة والإنسانية (غذاء، ماء، دواء، وقود…إلخ.).

لم تمض بضع ساعات على إعلان محكمة لاهاي قرارها، وبدلا من التحرك الغربي للضغط على إسرائيل كي تلتزم بالتدابير والإجراءات التي أقرتها المحكمة الدولية، مارست بعض الدول الغربية عملية عكسية، وتحديدا معاقبة الغزيين المحاصرين المجوعين؛ بذريعة مشاركة بعض موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في هجوم 7 أكتوبر(كما زعمت إسرائيل دون تقديم أي دليل قانوني، وقبل الشروع بالتحقيق)، فقررت بعض تلك الدول وقف تمويلها للوكالة التي توفر المعونات الأساسية والغذاء والدواء لنحو مليوني فلسطيني في القطاع.  أما دولة الاحتلال، ليس فقط أنها داست على قرار المحكمة الدولية، بل صعدت حربها البشعة ومجازرها البشرية اليومية، وواصلت تنفيذ نقيض ما أمرتها المحكمة بتنفيذه، وتحديدا وقف القتل والتدمير والحصار والتجويع والتهجير ومنع دخول المساعدات.

النفاق السياسي والأخلاقي تجسد كذلك في استنفار الاتحاد الأوروبي لاتخاذ قرار ضد اليمن، بدلا من ردع الاحتلال الإسرائيلي المتهم من قبل أعلى سلطة قضائية أممية بممارسة جريمة “الإبادة الجماعية” المتمثلة في قتله عشرات الآلاف خلال بضعة أسابيع، وتدميره مدنا وقرى وبلدات ومخيمات لاجئين عن بكرة أبيها، وقضائه على كل مقومات الحياة وتهجيره لمعظم أهالي القطاع واقتلاعهم من منازلهم وأماكن سكنهم. وفي المقابل، يعاقب اليمنيون الفقراء المجوعون أصلا، الذين لم يقتلوا أحدا؛ بينما قتل عشرات الآلاف والاقتلاع والتطهير العرقي وتفجير آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وتدمير المشافي والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والبنى التحتية، كل ذلك لا يتطلب أي قرار ضد الاحتلال!  هذا يذكرنا بقول الشاعر: “قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر”!

الاتحاد الأوروبي “غاضب” لأن اليمن قطع “سلاسل التوريد الدولية”.  المثير هنا، أن عشرات آلاف الفلسطينيين يذبحون، وآلاف الأطفال يعالجون جراحيا وتبتر أطرافهم دون تخدير، ومئات الآلاف يعانون المجاعة وأطفال يموتون من الجوع، وبعض الدول الغربية لا تتوقع ردا! ألم يقل أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه): “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”!  أو قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

للأسف، لا تزال بعض الحكومات الغربية تتعامل مع شعوب الجنوب بذات العقلية الاستعمارية القديمة التي تتميز بالغطرسة والغرور؛ تلك العقلية التي لا تجيد سوى لغة التهديد والوعيد والعقوبات والحصار ضد الشعوب والأنظمة السياسية “المتمردة” وغير الخانعة لإملاءات وأوامر الأنظمة الإمبريالية المهيمنة. العديد من الناشطين البيئيين والمناخيين والاجتماعيين في الدول الغربية يعبرون عن قلقهم بشأن “مستقبلنا” على الكرة الأرضية، وبالتالي ضرورة “الحفاظ على مستقبل مناخي آمِن ومستدام للأجيال القادمة”. فأي “مستقبل” ذاك الذي يتحدثون عنه؟ إذ أن أطفال قطاع غزة، تماما كما مئات ملايين الأطفال في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية ليس لديهم مستقبل أصلًا ولا حتى حاضر، وهم بالتأكيد ليسوا قلقين بشأن مستقبلهم، بل قلقين بشأن حاضرهم. القلق في بلدان الجنوب يجب أن يتركز أساسًا حول وضعها الراهن (الآن)، علمًا أن عدد الجوعى حاليًا، بلغ نحو المليار، أي حوالي 13% من سكان العالم، بل إن 2,7 مليار في العالم لا يجدون حاليًا طعامًا يوميًا يأكلوه. ورغم ذلك، عديد من نشطاء “العدالة المناخية” يَعِظون الناس بقولهم: “قلّلوا الاستهلاك”. ما معنى ذلك عند طفل فلسطيني جائع لم يأكل منذ أيام أو أسابيع؟ وما معنى ذلك عند الفلسطينيين بينما الحروب الإسرائيلية الهمجية تُشن ضدهم في غزة، مضافًا إلى ذلك سنين الحصار والتجويع والإذلال الطويلة “المستدامة” حتى يومنا هذا، تحت سمع وبصر منظرّي حقوق الإنسان والديمقراطية “والأمن الغذائي”؟ ما هو الموقف المتسم بـ”الإنسانية” و”الديمقراطية” و”العدالة” المفترض اتخاذه إزاء عملية حصار وحشر وتجويع أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة جغرافية صغيرة كثيفة السكان، وقصفهم المرعب والمكثف من الجو والبر والبحر بهدف سحقهم وتحويلهم إلى مختبر لفحص الأسلحة “المحرمة دوليًا؟