هل سنقف مكتوفي الأيدي حيال ما يحدث في قطاع غزة؟.. استهلت فريدة الكرماني، الطالبة بقسم التشييد بالجامعة الأميركية بالقاهرة، حوارها مع بعض من زملائها بهذا السؤال، فكانت الإجابة التي اتفقوا عليها هي أن يكون مشروع تخرجهم في الجامعة عن “إعادة إعمار قطاع غزة”.
تقول الكرماني : “اتفقنا جميعا على أن نكون عمليين، وبدلا من أن نردد السؤال السائد لإراحة الضمائر وما الذي نستطيع أن نفعله لهم سوى الدعاء، رأينا أننا نملك وسيلة أخرى للمساعدة، وهي العلم”.
ويقوم مشروع التخرج -الذي أجري تحت إشراف الدكتور محمد نجيب أبو زيد والدكتورة مرام سعودي الأستاذان بقسم التشييد بالجامعة وكُرّم المشاركون به مؤخرا من نقابة المهندسين المصرية- على الاستفادة من ركام المباني والمخلفات ومياه البحر في مشروع متكامل لإعادة الإعمار، ويضم مباني ورصف طرق.
وقدر مسؤول فلسطيني في أبريل/نيسان الماضي حجم ركام المباني في محافظات قطاع غزة الخمس، بما يزيد على 20 مليون طن، وهو ما يمكن أن يملأ مساحة القطاع أكثر من 30 مرة. واعتبر هذا المسؤول الذي لم تكشف عن هويته “وكالة أنباء العالم العربي” التي نقلت تصريحاته، أن التخلص من هذا الركام يضع صعوبات هائلة أمام عمليات إعادة الإعمار.
وتقول الكرماني: “نعلم أن إزالة الركام يمثل عبئا كبيرا في عملية إعادة الإعمار، لذلك سعى مشروعنا إلى توظيفه مع مياه البحر كبديلين للخامات المستخدمة في عملية البناء”.
ويعتمد إعداد خرسانة البناء على مكونات الزلط والرمل والأسمنت والمياه اللازمة في عملية الخلط. وفي المشروع الذي قدمه الطلاب، كان الركام بديلا عن الزلط، واستُخدمت مياه البحر بعد إضافة مواد مضادة للأملاح في الخرسانة، ومعالجة الحديد المستخدم في البناء بطبقة عازلة لمنع تفاعل الأملاح مع الحديد.
مواد تحاكي الواقع
وحتى يكون المشروع محاكيا للواقع، يقول الطالب عبد الله الشناوي أحد المشاركين بالمشروع : “سافرنا لأحد الشواطئ وجلبنا كميات من مياه البحر، كما زرنا مبنى صدر له قرار إزالة في محافظة القاهرة، وقمنا بتجميع كميات كبيرة من الركام التي ستستخدم في المشروع”.
وأعد الطلاب ستة نماذج صغيرة للخرسانة أُعد بعضها بخامات تقليدية والأخرى بالخامات الجديدة، وذلك لاكتشاف الفوارق بينها عبر اختبارات هندسية في مجال البناء.
واستُخدم في أحد النماذج مياه عذبة وزلط تقليدي، وفي الثاني مياه عذبة وركام نقي جدا، وفي الثالث مياه عذبة وركام مواقع (أي مما جُمع من موقع المنزل الذي صدر له قرار إزالة)، وفي الرابع مياه مالحة وزلط تقليدي، وفي الخامس مياه مالحة وركام نقي جدا، وفي السادس مياه مالحة وركام مواقع.
ويوضح الشناوي: “وجدنا من خلال المقارنات بين النماذج الستة، أن النموذجين المرشحين للاستخدام في قطاع غزة، وهما اللذان يتكونان من المياه المالحة مع ركام المواقع والآخر وهو المياه العذبة مع ركام المواقع؛ يعطيان نتائج مقبولة في الاختبارات الهندسية، مثل:
- قوة الضغط: وهو مقياس لقدرة المادة على تحمل الأحمال المحورية، وهي إحدى الخصائص الميكانيكية الرئيسية للمواد، خاصة في مجالات البناء والهندسة، حيث تواجه المواد غالبا ضغوطا ضاغطة.
- ونفاذية الكلوريد السريع الذي يقيس مقاومة الخرسانة لاختراق أيون الكلوريد، وهو السبب الرئيسي للتآكل في الهياكل الخرسانية المسلحة.
- وقوة الانحناء الذي يقيس القدرة على مقاومة الكسر تحت الحمل”.
وفي مقياس قوة الضغط، أعطى نموذج “المياه مالحة وركام المواقع” قيمة 23.6 ميغا باسكالا، مقابل 36.1 ميغا باسكالا لنموذج “المياه العذبة وركام المواقع”.
أما في مقياس قوة الانحناء فكانت النتيجة 3.2 ميغا باسكالات لصالح الأول، و3.6 ميغا باسكالات للثاني.
وأخيرا في مقياس نفاذية الكلوريد السريع، كانت النتيجة 6234 كولوما لصالح الأول، و2661 كولوما لصالح الثاني.
تصميم مقترح للمباني
وتقول الطالبة نادين داود -إحدى المشاركات بالمشروع: إنه “وفقا لهذه النتائج، فإن نموذج المياه المالحة وركام المواقع قد يكون مناسبا للمباني متوسطة الارتفاع، فيما يصلح النموذج الثاني -المياه العذبة وركام المواقع- لأي ارتفاعات. وباستخدام برنامج ريفيت (Revit) أتحنا تصميما للمبني الذي تدخل في بنائه مكونات النموذج الأول”.
وتضيف: “نعلم أن البناء باستخدام مياه البحر سيكون أكثر كلفة، لأنه سيقتضي إضافة مواد مضادة للأملاح في الخرسانة، ومعالجة الحديد المستخدم في البناء بطبقة عازلة لمنع تفاعل الأملاح مع الحديد، إلا أننا رأينا أن نضع تحت أيدي سكان قطاع غزة كافة الحلول، لا سيما وأن القطاع يعاني من أزمة مياه عذبة، وقد لا يملك رفاهية استخدام تلك المياه في البناء”.
مخلفات في خليط الأسفلت
وعن الجزء الثاني من المشروع والمتعلق برصف الطرق، قدّم الطلاب مقترحا باستخدام ركام المباني بديلا عن الزلط، بالإضافة إلى استخدام بعض المخلفات بعد طحنها.
يقول الطالب أيمن سعيد المشارك بالمشروع: إن “مادة الأسفلت المستخدمة في رصف الطريق تتكون من الزلط والرمل والبيتومين، وقد وجدنا أن استخدام الركام بديلا عن الزلط بالإضافة إلى إدخال مخلفات أكياس البلاستيك وإطارات السيارات بعد طحنهما بنسبة 6% (3% لكل منهما) إلى البيتومين، يمكن أن يعطي فوائد بيئية ووظيفية للمادة”.
ويوضح سعيد أن النماذج المعملية التي أُعدت للوصول إلى هذه النتيجة شملت إعداد مادة رصف تقليدية من البيتومين بمفرده، وأخرى من تلك المادة مضاف لها إطارات السيارات المحطونة، وثالثة مضاف لها مطحون أكياس البلاستيك، والرابعة شملت البيتومين مع مطحون أكياس البلاستيك وإطارات السيارات، وكانت أفضل النتائج في الاختبارات لصالح النموذج الأخير.
وخضعت النماذج الأربعة لعدة اختبارات كان أبرزها “اختبار قوة الشد غير المباشر”، وهو مؤشر للقوة والالتصاق ضد الإجهاد والتشقق الناتج عن درجات الحرارة والتخدد، واختبار “الانحناء شبه الدائري” لحساب طاقة الكسر لمخاليط الأسفلت.
5 تحديات للتطبيق العملي
ومن جانبه، يشيد الاستشاري الهندسي خالد عبد الباسط مدير إحدى الشركات الخاصة، بالمشروع الذي قدمه الطلاب، والذي ينقسم في تقديره إلى جانبين: أولهما عملي ويتعلق بتقديم مقترح للاستفادة من الركام الذي يمثل عبئا بيئيا، والثاني معنوي يعكس اهتماما بقضايا الأمة العربية والإسلامية بما يملكه الطلاب من أدوات، وهي العلم.
وإذا كان الجانب الثاني لا خلاف عليه، إلا أن الجانب العملي سيواجهه في رأيه بعض التحديات، وهي :
- أولا: كيفية استيعاب المواد غير التقليدية ضمن قوانين ومعايير البناء الحالية؟
- ثانيا: قدرة المواد الجديدة على الصمود أمام الظروف البيئية المحددة لقطاع غزة، مثل الملوحة العالية والنشاط الزلزالي المحتمل؟
- ثالثا: الحاجة إلى عمالة مدربة بالمهارات اللازمة لتنفيذ تقنيات البناء الجديدة.
- رابعا: مدى كفاءة المواد الجديدة مع المتطلبات الهيكلية لأنواع المباني المختلفة؟
- خامسا: مدى تأثير استخدام مياه البحر، حتى مع الإضافات المضادة للملح، على متانة الخرسانة على المدى الطويل.
وكانت هذا التحديات التي أشار إليها عبد الباسط حاضرة في أذهان الطلاب ومشرفيهم، إذ تقول الكرماني: “الاختبارات المعملية شملت تعريض العينات لضغوط مشابهة لما تتعرض له المباني على مدى سنوات طويلة، وكان هناك اطمئنان على السلامة الهيكلية دفعتنا للخروج بتوصيات تتعلق باستخدام الركام مع مياه البحر، وأخرى باستخدام الركام مع المياه العذبة”.
ولا ترى الكرماني أنه ستكون هناك صعوبة في تدريب عمال البناء على التقنيات الجديدة، ولا في إدراج المواد الجديدة ضمن معايير البناء، وتقول: “نحن نقدم حلولا مثبتٌ كفاءتها بالعلم، فضلا عن أن الأوضاع الصعبة التي يعيشها القطاع تقتضي الاستفادة من كل حل متاح، وما يشجعنا على ذلك أن أهل قطاع غزة قد تعودوا على الابتكار في كل شيء لمواجهة الحصار الإسرائيلي على مدى سنوات طويلة، حتى قبل الحرب الحالية”.