المسار الإخباري :نصت المادة العاشرة من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية على أن «يكون للفلسطينيين ثلاثة شعارات: الوحدة الوطنية، والتعبئة القومية، والتحرير».
هذا الشعار الثلاثي مترابط الأبعاد مثير للجدل، وفي إطاره كان مقالي السابق عن شعار الوحدة الوطنية كمفهوم إشكالي في المجتمع الفلسطيني، ويثير الشعار الثاني جدلاً يفوق الأول، فأين منا الآن مقولة التعبئة القومية؟. في ظل هذا التشرذم والصمت المريب والتخاذل العربي أمام ما يحدث في الضفة الغربية وقطاع غزة من إبادة جماعية وتهجير جماعي.
في هذا الموضوع ترتبط المادة العاشرة «الشعار الثاني تحديداً» بالمادة الخامسة عشرة من الميثاق التي جاء فيها: «تحرير فلسطين من ناحية عربية هو واجب قومي، لرد الغزوة الصهيونية والإمبريالية عن الوطن العربي الكبير، ولتصفية الوجود الصهيوني في فلسطين، تقع مسؤولياته كاملة على الأمة العربية شعوباً وحكومات وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني، ومن أجل ذلك، فإن على الأمة العربية أن تعبئ جميع طاقاتها العسكرية والبشرية والمادية والروحية، للمساهمة مساهمة فعالة مع الشعب الفلسطيني في تحرير فلسطين، وعليها بصورة خاصة في مرحلة الثورة الفلسطينية المسلحة القائمة الآن أن تبذل وتقدم للشعب الفلسطيني كل العون وكل التأييد المادي والبشري، وتوفر له كل الوسائل والفرص الكفيلة بتمكينه من الاستمرار للقيام بدوره الطليعي في متابعة ثورته المسلحة حتى تحرير وطنه».
شكّلت حرب تشرين نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الدور العربي في تحرير الأرض المحتلة، لقد نجحت مصر وسوريا بالتعاون الوثيق بينهما في إثبات مدى قدرة الحالة العربية على العمل والتأثير والمزج بين النشاط والفعل السياسي وبين العمل العسكري المؤثر بكل تداعياته المعروفة تاريخياً، كما نجح البلدان العربيان في جذب الحالة العربية كلها دون استثناء إلى المساهمة في رد العدوان وتحرير الأرض، وبقيت حرب تشرين ماثلة في تاريخ المنطقة العربية تفيض بالدروس الداعية إلى لملمة الصف العربي بما يخدم القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. لكن بعد اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، يرى البعض أن شعار التعبئة القومية أصبح مجرد شعار فارغ من مضمونه، أو أنه سقط بالتقادم والهرولة نحو التطبيع، وأن القضية الفلسطينية لم تعد القضية المركزية للعرب، وهذا يخالف الحقائق وطبيعة العدو التوسعية ووظيفته الاستعمارية في المنطقة، حيث لا تستثني العدوانية الصهيونية أحداً وخاصة دول الجوار، وفق ما جاء في المادة (14) من الميثاق: «مصير الأمة العربية، بل الوجود العربي بذاته رهن بمصير القضية الفلسطينية، ومن الترابط ينطلق سعي الأمة العربية وجهدها لتحرير فلسطين، ويقوم شعب فلسطين بدوره الطليعي لتحقيق هذا الهدف القومي المقدس».
انتقل الجهد العربي في التعبئة القومية من إطار التنسيق بين الأنظمة العربية وجيوشها إلى تنسيق التعبئة الوطنية الفلسطينية مع الحركات والمنظمات الشعبية العربية، إلا أن صعوبات برزت في تدابير التعبئة المحكومة بقدرات هذه المنظمات الني تشير إلى ضعف بنيوي، يترافق مع غياب الأجواء الديمقراطية التي لا تسمح لها بحرية التحرك، تخشى الأنظمة على نفسها من تطور أنشطتها، وتضيق عليها فبقيت التعبئة محدودة ومقتصرة على الدعم المعنوي والسياسي والإعلامي من قبل أحزاب قومية باستثناء ظروف جيدة تهيأت للحركة الوطنية اللبنانية، ولاسيما في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
بلغت الاستعدادات الفلسطينية لحرب العام 1982 مستوى مقبولاً بحسب إمكانات منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة معها، دون حسابات للدعوة إلى التعبئة القومية الشاملة، لتحقيق الهدف المتمثل في الشعار الثالث في المادة العاشرة من الميثاق الوطني «التحرير».
قامت منظمة التحرير بتدابير للتعبئة العامة أواخر سنة 1981، تحسباً لتوقعات قيام إسرائيل بشن حرب عدوانية على المخيمات الفلسطينية في لبنان وعلى قواعد الثورة هناك، ومالت إلى الاعتماد على الذات، وتراجعت حسابات دعم عربي جدي وواسع، لم يكن في حساباتها إسناداً عربياً، هيأت الاستعدادات الفعلية، والخطط، واستخلصت إلى تقدير أثر هذه المعطيات في الجهوزية الفلسطينية وفي الأداء القتالي الفعلي قبيل بدء الحرب، وقد تفاوتت نتائج الاستراتيجية لهذه الجهوزية من حيث الاستعداد والكفاءة وأداء الوظائف بشكل يتسق مع تنظيم القوات الفلسطينية المسلحة وإدارة الموارد والعمل كفريق أثناء القتال، إذ كما أن التعبئة تحتاج إلى تنظيم عالي المستوى، شملت عملية التعبئة، جمع الطاقات، وتنسيق الجهود، وإعداد الأشخاص وتنظيمهم، وتوفير الموارد والعناصر الضرورية، فكانت التعبئة عملية منظمة تأتي في سياق التخطيط الاستراتيجي للصمود والتصدي للعدوان وإفشال مخططه بالقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وتوقيع اتفاقية سلام مع الحكومة اللبنانية وضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة عام 1948. تضمنت عملية التعبئة الاستشراف وفهم الأهداف ورسم مسار لتحقيقها، بتحضير الإمكانات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية.
في مقال بعنوان «بين الجهوزية والمفاجأة: الاستعدادات الفلسطينية لحرب 1982»، مجلة الدراسات الفلسطينية العدد «11» من الموقع الكتروني لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، تساءل الكاتب «يزيد صايغ» عدة أسئلة عن الجاهزية هذه: إلى أي حد كانت القيادة اللبنانية الفلسطينية المشتركة وقيادة منظمة التحرير جاهزة يوم اندلعت الحرب؟. وإلى أي مدى يمكن لانهيار الدفاعات في معظم أنحاء الجنوب اللبناني أن يعزى إلى سوء التخطيط ؟. وإلى أي مدى كانت المقاومة في عين الحلوة وخلدة مثلاً نتيجة لحسن التخطيط وبعد النظر؟ .
لا تقتصر عملية التعبئة على تجميع المكونات المطلوبة للبدء بتنفيذ المهام والخطط لتحقيق هدف صد العدوان، لا بد من الانتقال إلى التنظيم، وهيكلة هذه الموارد وترتيبها بطريقة تعمل على تحسين فعاليتها، وضمان تشغيل سلس وفعّال قادر على الرد على التهديدات والصمود في هذه الحروب، وقد افتقدت الاستعدادات التنسيق مع قوات الردع العربية المتواجدة عسكرياً في لبنان في نطاق مهمتها لوقف الحرب الأهلية اللبنانية.
أجرت منظمة التحرير الفلسطينية تدابير ضرورية جوهرية مثل: توفير مراكز قيادة بديلة، لحماية القيادة المركزية وتأمين شبكة اتصالاتها، وتخزين العتاد العسكري، وتكديس المؤن، والأغذية في القطاعات جميعاً، وتم إعادة انتشار الوحدات المقاتلة والأسلحة الثقيلة، وإعداد خطط القتال التكتيكية. دعت للخدمة الثورية قصيرة الأجل للطلاّب الفلسطينيين، نظمت الموارد المتاحة على نحو يحدِّد المهمات والتوقعات تحديداً معقولاً. ويساوي ذلك أهمية أن هذه التدابير قد احتوت قدراً كبيراً من خطط الطوارئ، والتمتع بالمرونة والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، بعد أن سقطت خطوط الدفاع جنوب الليطاني تطلب نقل الاستعدادات إلى شماله. ثم في مرحلة لاحقة من الحرب تنظيم الاستعدادات في بيروت وضواحيها. وفي كل مرحلة كانت تتصاعد أصوات تطالب بتدخل عربي حتى وصل فقدان الأمل من الإسناد العربي إلى صرخة «يا وحدنا» كنقيض لشعار التعبئة القومية.
في معركة «طوفان الأقصى» 7/10/2023، انتقلت النداءات من التعبئة القومية إلى محاولة التعبئة الاسلامية، كانت المقاومة الفلسطينية في غزة قد أتمت الجاهزية العسكرية لمواجهة هجوم متوقع من قبل جيش الاحتلال الصهيوني، وأهم عناصرها شبكة الانفاق، لتسهيل الاتصالات، وتخزين الذخيرة والعتاد والصواريخ تحت الأرض، بعيداً عن متناول طائرات الاحتلال، هذه الجاهزية مكنت المقاومة من الصمود في حرب طويلة امتدت حتى الآن لما يزيد عن 14 شهراً؟. لكن ما هي توقعات قيادة المقاومة حول استجابة الجماهير العربية والإسلامية لنداء حركة حماس بالتعبئة والدفاع عن القدس والمسجد الأقصى المبارك؟. أصدرت حركة حماس، بتاريخ 10 أكتوبر 2023 بياناً لا يتضمن أي عبارة تتوجه إلى الأنظمة والجيوش العربية لإسناد الشعب الفلسطيني في المعركة، بل وجهت دعوتها إلى جماهير أمتنا العربية والإسلامية، حددت حركة حماس يوم الجمعة 13 أكتوبر 2023، يوماً للتعبئة العامة لعمليات نصرة القدس والأقصى المبارك وغزة. دعت الشباب الفلسطيني في كافة أنحاء الضفة الغربية، في مدنها وقراها ومخيمات الانتفاضة، في شوارع وأحياء القدس، وفي ساحات المسجد الأقصى المبارك، إلى الانتفاض والتظاهر.
وحثت في البيان شعبنا الفلسطيني في أراضي الـ«48» على المشاركة في مسيرات واسعة النطاق ومواجهة الجنود الإسرائيليين في كل فرصة، والمشاركة في حراسة المسجد الأقصى «حفاظاً عليه وعلى تراثه الإسلامي ورسالته الإلهية، ولمنع عصابات المستوطنين من تدنيسه وإفشال عمليات التهجير، ومخططات الاحتلال الفاشي الهادفة إلى تقسيمه وتهويده وبناء معبدهم المزعوم، والتوحد مع أبناء شعبك في غزة والضفة الغربية».
كما دعا البيان اللاجئين الفلسطينيين إلى الالتقاء في تجمعات حاشدة بالقرب من حدود فلسطين، لإظهار تضامنهم الثابت مع فلسطين والقدس والأقصى. وتم حث أولئك الذين يعيشون بعيداً عن القدس على التجمع في أقرب نقطة تؤدي إلى المدينة.
لم تقتصر الدعوة للتحشيد على الجبهة الداخلية في الحرب، بل وسعت حماس دعوتها لتصل إلى جماهير العالم العربي والإسلامي، والأحرار في العالم. وحثتهم على كسب شرف المشاركة في الدفاع عن المسجد الأقصى وتقديم الدعم الثابت «لفضح الاحتلال».
لا شك أن الجماهير الشعبية العربية والإسلامية مؤيدة للقضية الفلسطينية لكن التعبير عن مواقفها وإسناد المقاومة لم يكن بالمستوى المطلوب، بل إن التظاهر في الغرب ضد حرب الإبادة تقدم على التضامن الشعبي العربي الذي لم يشكل حالة فاعلة وضاغطة على الأنظمة العربية لترتقي بدورها إلى مستوى التحديات ونتائج هذا العدوان على الحالة الفلسطينية والتي سيكون لها تداعياتها الخطيرة على الحالة العربية.