فلسطينيمقالات

كتب فارس بدر … الوجود مقاومةٌ: تفكيكُ ثنائية التابع والمقاوم في السياق الفلسطيني

المسار : العلاقة بين مفهومي “التابع” و”المقاوم” ليست علاقة تناقُض بسيطة، بل هي إشكالية معقدة تلامس صميمَ النظرية النقدية والسياسية في سياق الصراعات الاستعمارية والتحررية. فالفلسطيني، كمثال حي، يُجسِّد هذا التعقيد: فهو من ناحية موضوعٌ لقوة استعمارية تسعى إلى إسكاته وإفقاده وكالته، ومن ناحية أخرى فاعلٌ يمارس أشكالًا متعددة من المقاومة اليومية، حتى في أكثر الظروف قسوة. هذه الثنائية المُفترَضة بين التبعية والمقاومة تُختزلُ غالبًا في خطاباتٍ تبسيطية، لكن الواقع يكشف أن الهويات في السياقات المضطهدة لا تنقسم إلى أقطاب متعارضة، بل تتفاعل فيها عناصرُ الخضوع والتمرد بطريقةٍ لا تُختزلُ في منطق “إما/أو”.

في النظرية النقدية، يُعرَّف “التابع” – كما صاغته مدرسة دراسات التابع – بأنه ذلك الكيان المُهمَّش الذي لا صوتَ له في الخطاب الرسمي، والذي تُحدِدُ هويتَه علاقاتُ القوة المهيمنة. هذا التعريف يستمد جذوره من تحليل غرامشي للطبقات الدنيا التي تفتقر إلى الوعي الطبقي المستقل. لكن غاياتري سبيفاك، في نقاشها الشهير “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟”، تذهب إلى أبعد من ذلك لتبيّن أن التابع ليس مجرد ضحية سلبية، بل هو كيانٌ تُنتِجُه آلياتُ القمع ذاتُها، والتي تحرص على إخفاء أي إمكانية لخطاب مقاومة مستقل. هنا تبرز المفارقة: التابع يُعرَّفُ من خلال غياب صوته، لكن هذا الغياب نفسه قد يصبح أرضيةً لخطاب مضاد.

من جهة أخرى، يُقدَّم “المقاوم” – في الخطابات التحررية – كفاعل واعٍ وملتزم بتفكيك الهياكل الاستعمارية. هذا التصوّر يستند إلى نموذج فرانتز فانون عن العنف الثوري كأداة تحرر، أو إلى نموذج إدوارد سعيد عن المقاومة الثقافية التي تعيد كتابة السرديات المهيمنة. لكن هذه النماذج، رغم أهميتها، قد تقع في فخ المثالية عندما تفصل بين “المقاومة” و”التبعية” كحالتين منفصلتين. فالواقع يشي بأن الفرد أو الجماعة قد تحمل سمات الاثنين معًا: يُقهَرون كـ”تابعين”، لكنهم يمارسون مقاومةً حتى ضمن شروط القهر ذاتها.

في السياق الفلسطيني، يمكن رؤية هذا التداخل بوضوح. فالفلسطيني في القدس المحتلة، مثلًا، يعيش تحت نظام تصنيف عنصري (بطاقات الهوية، قيود الحركة، التهديد الدائم بالتهجير)، مما يجعله – نظريًا – تابعًا خاضعًا لآلة استعمارية ضخمة. لكن في الممارسة اليومية، يُعاد تعريف هذه التبعية نفسها كفضاء للمقاومة: فتثبيت الوجود في المنزل المهدد بالمصادرة، أو زراعة شجرة زيتون على أرضٍ مصنّفة “عسكرية”، أو حتى ترديد أغنية شعبية في شارعٍ مُحتل – كلها أفعالٌ تدمج بين البقاء كشكل من أشكال الخضوع والبقاء كشكل من أشكال التحدي. هنا، لا ينفصل التابع عن المقاوم، بل يصبح الوجود ذاته فعلًا مقاومًا.

هذه الديناميكية تطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن أن تكون التبعية نفسها أداةً للمقاومة؟ الإجابة تكمن في فهم “المقاومة” لا كحدث استثنائي، بل كممارسة يومية متجذرة في التفاصيل الحياتية. ففي مخيمات اللاجئين، مثلًا، يُعاد إنتاج الذاكرة الفلسطينية عبر حكايات الجدّات، وطقوس الزفاف، وحتى نكهة الأكلات التقليدية – كل هذه الممارسات، رغم أنها قد تبدو “عادية”، تُشكِّلُ مقاومةً ثقافيةً ضد محو الهوية. هذا النوع من المقاومة لا يحتاج إلى أسلحة أو خطابات ثورية، بل يعيد تعريف التبعية كمساحة للصمود.

لكن هذا لا يعني أن كل أشكال التبعية مقاومة. فالاستعمار الاستيطاني، في فلسطين وغيرها، يفرض علاقاتٍ قائمةً على الإذلال اليومي، كالحواجز العسكرية، والاعتقالات التعسفية، وتقييد الوصول إلى الموارد الأساسية. في هذه الحالات، قد تتحول التبعية إلى أداةٍ لتحطيم الإرادة الفردية والجماعية. هنا يبرز تناقضٌ مركزي: كيف يمكن للتابع أن يقاوم وهو مُجبرٌ على التعامل مع أدوات القمع نفسها؟ الإجابة قد تكمن في مفهوم “الهجينة” (Hybridity) الذي قدمه هومي بهابها، حيث تصبح الهوية نتاجًا لتفاعلٍ دائم بين القوة المهيمنة والمقاومة الخفية. فالفلسطيني الذي يعمل في إسرائيل، مثلًا، قد يُضطر إلى تعلم العبرية والتفاعل مع المجتمع الإسرائيلي، لكنه في الوقت نفسه يحوّل هذه “الهجنة” إلى أداةٍ لفهم العدو ونقده.

في الأدب الفلسطيني، نجد أمثلةً صارخةً على هذا التعقيد. فشعر محمود درويش، مثلاً، لا ينفصل عن كونه نتاجًا لصدمة النكبة (تبعية)، لكنه أيضًا خطابٌ يرفض الاستسلام (مقاومة). في قصيدته “بطاقة هوية”، يصرخ الشاعر: “أنا عربي… رقم بطاقتي خمسون ألف”، مُحوِّلًا وثيقةَ القمع (البطاقة) إلى شهادة وجود. هذه المفارقة تُظهر أن التبعية والمقاومة ليسا نقيضين، بل وجهين لعملة واحدة: الوجود الفلسطيني نفسه.

غير أن هذا لا يلغي وجود تناقضات حادة. فبعض أشكال المقاومة، مثل العمل المسلح، قد تتعارض مع أشكال أخرى، مثل الدبلوماسية الدولية أو المقاومة الشعبية السلمية. هنا، يصبح السؤال: هل كل من يرفض المقاومة المسلحة يُعتبر “تابعًا”؟ الإجابة تتطلب تفكيكًا لخطاب “المقاومة” ذاته، الذي قد يُستخدَم أحيانًا لتهميش أصواتٍ فلسطينيةٍ تتبنى استراتيجيات مختلفة. فالنضال من أجل الحقوق عبر القضاء الدولي، مثلًا، قد يُنظر إليه من قبل بعض الفصائل كشكل من أشكال التبعية للأنظمة الدولية، بينما يراه آخرون ضرورةً واقعية في ظل اختلال موازين القوة.