فن وثقافةفلسطيني

ابتسام عازم في “حديث الألف”: رواية فلسطينية للأزرق والترابي

المسار الاخباري: في روايتين صدرتا خلال ثلاثة أعوام تقريباً، تتناول الروائية الفلسطينية ابتسام عازم موضوع الهوية المركّبة، والذاكرة المنهوبة، وانعكاس سلطات الاستعمار على أرض فلسطين واستباحة الوعي. تتخذ عازم من هذه المواضيع مجالاً سردياً، حيث تكتب شخصياتها التي طبعت ذاتها على ورق روائي، أو تكتبها هي بعد أخذ الإذن من أشخاص من لحم ودم.

في كلا الحالين، نحن نعاين مسارات شخصيات في مكانها الفلسطيني، ونتعرّف إليها من خلال روايتها القصيرة عام 2011 بعنوان “سارق النوم: غريب الحيفاوي”، ثم “سفر الاختفاء” عام 2014. إلى جانب عمل عازم في الصحافة، وهي سردية أخرى مشتبكة، كانا مدار الحوار الذي استضافته ندوة “حديث الألف”، مساء الأربعاء، في مقرّ مكتبة ألف التابعة لمجموعة فضاءات ميديا.

منذ البداية، سيكون “سارق النوم” هو فلسطيني “باقٍ في حيفا” مثل إميل حبيبي، لكنه مطرود من التاريخ الرسمي. أما الثاني، فهم الفلسطينيون الجماعة حين يختفون عن بكرة أبيهم، ويفاجأ المستعمر الصهيوني إذ أمسى بلا شعب يستعمره.

ونالت “سفر الاختفاء” بالطبع الحظوة الكبرى، لأن المناسبة التي حفزت هذا الحدث الثقافي هي إعلان لجنة تحكيم “جائزة البوكر الدولية” القائمة الطويلة لسنة 2025، ومن بينها “سفر الاختفاء” التي صدرت ترجمتها بالإنكليزية عن “دار آند أذر ستوريز” في المملكة المتحدة عام 2024.

عودة إلى التاريخ الشخصي والجماعي لتذكر كل شيء وقع

طرحت الروائية اللبنانية هالة كوثراني، مدير الندوة، الكثير من الأسئلة حول سياقات السرد الروائي والفعل الثقافي وما فيهما من حمولات سياسية، كأن تقع المقارنة بين اختفاء الفلسطينيين في يافا، المكان الذي تدور فيه “سفر الاختفاء”، وبين بث حي نحدق فيه على شاشات التلفزة، حيث الإبادة في غزة تحقق نظرية الفناء البيولوجي لكائنات يراها المستعمر أقل من أن تستحق العيش.

من سوء حظ المؤلف أن الخيال هو الواقعي على خشبات المسارح”، كما يذهب الشاعر محمود درويش. وما بين قراءات مقاطع من الرواية بصوت أبان الحكيم، الإعلامي في “التلفزيون العربي”، كانت ابتسام عازم تتناول كل مرة المعاني المركبة للنكبة، دون أن تدّعي القدرة على تنبؤ مأساة غزة.

كل ما فعلته الكاتبة أنها قرأت واتخذت موقفاً وهي تقرأ، وقرأت، ثم قررت أن تكتب لتجيب قدر ما أمكن عن سؤال “ماذا سيفعل المستعمر إذا ما اختفى من يعتبره عدوه؟”. الحال هنا تشير إلى ملاحقة الكاتبة أول نقطة أفاضت الكأس، لا لتبدأ من الصفر، بل لتعود إلى تاريخها الشخصي والجماعي وتتذكر فجأة كل شيء وقع أو لا بد أن يقع.

في مناسبات سابقة، استحضرت الكاتبة مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين (1922-1995)، عام 1992، الذي تمنّى أن يبتلع البحر مدينة غزة، وموقف المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس (1948)، الذي أعلن أن تهجير الفلسطينيين في النكبة كان ينبغي أن يتواصل حتى يرتاح المجتمع الإسرائيلي وتضمن الدولة طابعها اليهودي. كما تروي أنها كانت في زيارة إلى نيويورك حين شاهدت على الشاشة كماً هائلاً من التلفيق بلسان مسؤول إسرائيلي، بينما لم يفكّر الصحافي بطرح أي أسئلة نقدية تستفهم أو تستوضح أو تفعل أي شيء أمام سردية الإسرائيلي.

في العادة، يحتاج كل مبدع إلى شاغل يشغله إلى الأبد، بل يجوز القول إلى جمرة يقبض عليها. وهنا كانت الكاتبة تفكر بتركيز أكبر على وجود الفلسطيني، الوجود ذي الطاقة الشعرية النابضة باللحم والدم والتاريخ، وأن تواصل في نيويورك عملها الصحافي من مقر الأمم المتحدة مراسلة لـ”العربي الجديد” منذ عشر سنوات، لتفحص كل ساعة كيف تعجن السياسة أكاذيبها وتزور الدم المهرق على الهواء.

في إجابتها عن سؤال، قالت إن كل فلسطيني اختبر في حياته فصلاً من الإذلال الذي يمارسه المستعمر، هذا إذا كان على قيد الحياة حتى يخبرنا عن سجنه، سواء الرسمي أو المفتوح بين نقاط التفتيش والحواجز، مع اختلاف أشكال السرد بين مناطق قسمت في فلسطين التاريخية، من القدس إلى الضفة إلى غزة إلى الداخل الذي خبر منذ عام 1948 حتى 1966، أي حتى نكسة 1967، الظروف ذاتها التي يعرفها الفلسطيني في أراضي ما بات يعرف بالـ67.

بيد أن الإذلال الذي وعاه الفلسطيني وأنتج مضادات وجودية، لا يتعلق فقط بوقوع طرد 750 ألفاً بحسب أرقام الأمم المتحدة عام 1948، وإنما كما توضح ضيفة الندوة بسبب تدمير البنية الاجتماعية الفلسطينية. لم يعد الناس في جغرافيا واحدة. تشظت الأرض بهم وتكسرت لهجاتهم، ولم تعد ذاتهم الجمعية سوى رمزية تبحث عن بيت تأوي إليه في أرض غريبة، وبيت شعر على مقام الصبا يحنّ إلى أول منزل.

سرد يكتبه شخوص من لحم ودم طبعوا ذواتهم على ورق روائي

فرضية الاختفاء لا تنوي منذ التفكير الأولي بها إلا في الحديث عن الضحية. إنها تنتبه إلى وجودها من خلال غيابها وترك المستعمر بلا جريمة جديدة منتظرة، وترك المكان لأشباح الناس، و”لخيالات الشجر”، كما يقول الملك (أنطوان كرباج) في مسرحية “ناطورة المفاتيح”، حين قرر الشعب كله ترك المملكة الظالمة ليجد الملك ذاته وحيداً ليس لديه من شعب سوى الراوية (فيروز).

بهذا يمكن استذكار الكثير من الأعمال الأدبية التي تراكم معالجات لثيمة الاختفاء بغية استنطاق موضوعات شائكة، كالهوية والوجود، والذاكرة، ومن ذلك السؤال الذي طرحه الباحث والناقد إسماعيل ناشف حول أعمال أدبية فلسطينية عنيت بالمدينة والاختفاء، مثل رواية إميل حبيبي الشهيرة “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”.

وقالت ابتسام عازم إن روايتها الأولى “سارق النوم: غريب حيفاوي” ذكرت في أحد مقاطعها تقاطعها مع رواية “المتشائل” التي كتبت بحس ساخر، وكان الاختفاء في نهاية الرواية جزءاً من بنية السخرية التي قامت عليها الرواية. في الوقت ذاته، استذكرت شكلاً آخر من مقاربة الاختفاء في “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، إذ جاءت العودة إلى الأرض الأم خالية من أي حضور للذاكرة الباقية، ولا للحلم طويل المدى.

وفي غير مرة، أكدت ابتسام عازم انتماءها إلى عالم الشعر، لا لتكتب به سرداً، بل لأنّه قادر على استلهام أبعد مدى من اللغة السماوية التي يمكن رؤيتها من على الأرض، فيجتمع في آن واحد الأزرق والترابي، وهما معاً نص الحياة.