نظمت جمعية الفنادق العربية ونقابة الأدلاء السياحيين بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار في بيت لحم، جولة سجلت انطباعات عميقة، برفقة رئيس التجمع السياحي المقدسي رائد سعادة، والدليل السياحي سعيد رابي، وعضو جمعية الفنادق العربية رشيد نشاشيبي.
المسار : بين الأزقة الضيقة والحجارة العتيقة في البلدة القديمة، تبدأ رحلة استكشاف القدس في أحد أكثر المواقع قداسة وعمقا حضاريا في العالم، حيث تتداخل الأديان وتتشابك الحضارات، بينما تستمر محاولات الاحتلال الإسرائيلي في طمس هويتها وتغيير ملامحها التاريخية.
سُجّلت في الجولة التي نُظّمت من قبل جمعية الفنادق العربية ونقابة الأدلاء السياحيين بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار في بيت لحم، انطباعات عميقة وسرد ثري للتاريخ وواقع المكان، برفقة رئيس التجمع السياحي المقدسي رائد سعادة، والدليل السياحي سعيد رابي، وعضو جمعية الفنادق العربية رشيد نشاشيبي.
تنقل المشاركون بين محطات متعددة، متأملين أسوار القدس العريقة التي أعيد بناؤها في الحقبة العثمانية، بينما تعود جذورها الأصلية إلى الفترة الرومانية.

تحتضن هذه الأسوار التاريخية داخلها تنوعا حضاريا فريدا يضم الحي الإسلامي، وحي النصارى، والحي الأرمني، إلى جانب ما يسمى بـ”الحي اليهودي”.
تبدأ الجولة التي وثقتها كاميرا “عرب 48″، من باب العامود، المدخل الأبرز إلى المدينة، حيث يشم الزائر رائحة التاريخ العتيق فور اجتيازه، متجهًا إلى شارع الواد، الشريان الرئيسي المؤدي إلى المسجد الأقصى المبارك. هنا، تكتشف كيف تعكس كل زاوية وحجر وزقاق حكاية من الماضي، وكأن الزمن قد توقف ليحفظ ذاكرة المكان.
واقع القدس
تنقسم القدس اليوم إلى ثلاث مناطق جغرافية مميزة، تعكس واقعا مركبا ومعقدا بفعل السياسات الاحتلالية الإسرائيلية.
المنطقة الأولى هي البلدة القديمة، التي لا تتجاوز مساحتها كيلومترا مربعا واحدا، لكنها تحتضن نحو 42 ألف نسمة، إلى جانب 1400 محل تجاري، أُغلق منها 400 محل بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

والمنطقة الثانية، فهي تلك الواقعة خارج أسوار البلدة القديمة، ولكن داخل جدار الفصل العنصري، وتعاني قيودا شديدة على البناء والتوسع، سواء في الإسكان أو في تطوير الأنشطة الاقتصادية، كما أنها تفتقر إلى مناطق صناعية منظمة، ما يحد من فرص التنمية والاستثمار.
أما المنطقة الثالثة، فتشمل المساحات الواقعة خارج جدار الفصل والضم، لكنها ما تزال ضمن حدود محافظة القدس.
وتُعاني هذه المناطق من تهميش إداري وخدماتي متعمد، ويُنظر إليها كامتداد مهمش للمدينة.

وتعاني القدس بمجملها عزلة عن محيطها الطبيعي، المتمثل بالضفة الغربية، نتيجة القيود العسكرية والحواجز الإسرائيلية. كما تفرض على سكانها كافة أنواع الضرائب، التي تتجاوز 12 نوعا، ما يشكل عبئا ماليا هائلا، سواء على السكان الفلسطينيين أو على المستثمرين، ويجعل من الاستقرار المعيشي والاقتصادي في المدينة تحديا يوميا متفاقما.
طمس الهوية
لا يمكن للجولة إلا أن تمر من حارة الشرف التي تقع داخل أسوار البلدة القديمة، وكانت قبل عام 1967 حيا مقدسيا عربيا تسكنه مئات الفلسطينيين، لكن بعد احتلال المدينة في حرب حزيران/ يونيو، أقدمت سلطات الاحتلال على تهجير السكان قسرا، وهدم منازلهم بالكامل، في واحدة من أوائل عمليات التهجير المنظمة داخل القدس.
في العقود التالية، عملت إسرائيل على إعادة بناء الحي وفق طابع يهودي استيطاني، وغيرت اسمه إلى “الحي اليهودي”، في محاولة لطمس هويته العربية والإسلامية. وشُيّدت على أنقاض منازله القديمة كنس ومدارس دينية ومراكز توراتية، كجزء من مشروع تهويد البلدة القديمة وتغيير تركيبتها الديموغرافية.

تحوّلت حارة الشرف من حي فلسطيني نابض بالحياة إلى واحدة من أبرز بؤر الاستيطان داخل أسوار القدس، لتبقى شاهدا على سياسات الإقصاء والطمس والاستيطان التي تتعرض لها المدينة منذ عقود.
حارس الذاكرة
في قلب البلدة، يقف المسجد الأقصى المبارك شامخا، حارسا لذاكرة الأمة، وتتناثر في ساحاته أكثر من 250 معلما إسلاميا بين مصليات وأروقة ومكتبات، بينما يحط الحمام على أقواسه العالية مغازلا السماء.
غير بعيد عنه، يُروى فصل آخر من الحكاية في كنيسة القيامة، التي شيدت على يد الملكة هيلانة وتعد من أقدس الأماكن لدى المسيحيين في العالم. المفارقة التي تجسد التسامح الديني في القدس تتجلى في أن مفتاح الكنيسة لا يزال منذ قرون في عهدة عائلة مسلمة، يمثلها اليوم أديب جودة الحسيني.

وبين صدى “الله أكبر” من مسجد عمر بن الخطاب وأجراس كنيسة القيامة، تُروى قصة التعايش التي خطها الخليفة عمر بن الخطاب، حين رفض الصلاة داخل الكنيسة احتراما لمعتقدات أهلها، ليُبنى المسجد لاحقا بجوارها.
تاريخ مشترك
تواصل الجولة سيرها نحو طريق الآلام، الذي يمتد داخل الحي الإسلامي حيث تنتشر كنائس عدة، تحرسها عيون مقدسية وقلوب لا تعرف سوى الصمود.
هذا الطريق، وإن كان يشتهر بكونه طريق المسيح في درب الجلجلة، إلا أنه أيضا شاهد على تاريخ مشترك يرويه كل من مر من هنا، مسيحيا كان أو مسلما.

وعلى جبل الزيتون، تتجلى واحدة من أروع الإطلالات البانورامية للقدس، حيث تشاهد مآذن الأقصى وأبراج الكنائس تتعانق فوق أفق المدينة القديمة، مشكّلة لوحة لا مثيل لها من الروحانية والجمال.
المرشد السياحي، سعيد رابي، يشرح للوفد الزائر من صحافيين ومؤثرين من أراضي الـ48 خلال جولة تعريفية حملت شعار “فلسطين هالمرة غير”، تفاصيل المعالم الأثرية والدينية التي اختزنتها البلدة القديمة، مؤكدا أن كل خطوة في القدس تقودك إلى قصة لم ترو بعد.
تعرّج الجولة إلى سوق القطانين، الملاصق للمسجد الأقصى، والذي يعد من أبرز أسواق البلدة التاريخية، ويواجه اليوم خطر التهويد ومحاولات فرض الطابع التلمودي عليه.

على الرغم من التحديات، لا تزال في سوق القطانين مؤسسات مقدسية مثل جامعة القدس ودار الأيتام وجمعية شباب البلدة القديمة، تقاوم من أجل الحفاظ على الهوية.
فسيفساء حضارية
ينتقل الزوار مع رئيس التجمع السياحي المقدسي، رائد سعادة، بين أحياء المدينة الأربعة: الإسلامي، والمسيحي، والأرمني، وما يسمى بـ”اليهودي”، ليكتشفوا تفاصيل الهندسة العثمانية للأسوار التي بُنيت فوق الأساسات الرومانية، وشبكة الأسواق التي كانت تعرف قديما باسم “الكاردو”، من باب العامود وحتى باب النبي داوود.
تنطلق في جولة سياحية في البلدة القديمة للقدس ضمن مسار غني بالمحطات الدينية والتاريخية والثقافية، نسجت معا حكاية المدينة وموروثها العريق المتجذر في كل حجر وزاوية.

من الكاردو، الشارع الروماني القديم الذي يعكس عبقرية التخطيط العمراني للقدس في العصور الغابرة، حيث تمازجت معالم الطبيعة بروح المكان وذاكرته الشعبية العريقة.
وتتوقف عند محطات إضافية عكست عمق التنوع الديني والسكاني للمدينة، لتتجلى القدس في صورتها الحقيقية كمكان يتقاطع فيه التاريخ مع الإنسان، والمقدس مع المعاش، في فسيفساء حضارية فريدة.
تحديات السياحة
وفي ظل الاحتلال، لم تسلم السياحة من محاولات التهميش، إذ يقول سعادة لـ”عرب 48″ إن “عدد الفنادق المقدسية انخفض من 40 فندقا في ثمانينات القرن الماضي إلى 21 فندقا فقط حاليا، بغرف لا تتجاوز 1300، مقابل أكثر من 20 ألف غرفة فندقية تدار إسرائيليا في شطري المدينة”.

ويوضح أنه “يرافق ذلك فرض أكثر من 12 نوعا من الضرائب والقيود على المقدسيين، وعزل البلدة القديمة بالجدار العنصري”.
ويضيف سعادة أن “المعطيات تبيّن هناك ما يقارب 100 عقار داخل أسوار البلدة القديمة في القدس، استولت عليها الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية خلال السنوات الماضية. وقد تم تحويل هذه العقارات إلى كنس يهودية، أو بؤر استيطانية، أو مدارس دينية تلمودية، في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس المعالم التاريخية للمدينة، وتزييف هويتها، وفرض رواية تهويدية على الفضاء المكاني والثقافي للقدس، بما يتناقض مع طابعها العربي والإسلامي والمسيحي المتجذر”.
ملتقى الحضارات
من جهة أخرى، تظهر الإحصاءات أهمية القطاع السياحي في دعم الاقتصاد المقدسي: 42 مكتبا للسياحة الوافدة، و298 دليلا سياحيا، و324 متجرا للهدايا، و23 مطعما سياحيا، وعشرات الورش الحرفية التي تعكس الموروث الفلسطيني.
كل ذلك يثبت أن القدس إلى جانب مكانتها الدينية، روح نابضة بالحياة والحضارة، وهوية تواجه خطر التهويد والاستيطان والتزييف.

القدس القديمة، وإن كانت محاصرة بالجدران والاستيطان، ينهي سعادة الجولة بالقول إنها “تبقى بوابة السماء وملتقى الحضارات، ومقصدا دينيا وثقافيا فريدا على مستوى العالم”. إنها ليست فقط مدينة للزيارة، بل تجربة تعاش وتحفر في الذاكرة، وتستحق أن تبقى فلسطينية الهوية، عربية الوجه، ومفتوحة للعالم أجمع.
اقرأ/ي أيضًا | 27 اقتحاما للأقصى ومنع الأذان 51 مرة بالإبراهيمي خلال يوليو













