المسار : من المتوقع أن يستعرض رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، في الأيام القريبة المقبلة، أمام رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، والمجلس الوزاري للشؤون الأمنية-السياسية (الكابينت)، الخطة العملية المعدّلة لمواصلة الحرب على قطاع غزة وإبادة سكانه. وفي مقدّمة الخطة “السيطرة” (احتلال) على مدينة غزة، ومخيمات الوسط.
وكان نتنياهو ووزراؤه قد رفضوا على الأقل خطتين سابقتين استعرضهما زامير، مطالبينه بإعداد ثالثة أكثر شدّة وفتكاً، وأوسع نطاقاً، وفقاً لما كشفته صحيفة “هآرتس” اليوم الأربعاء، مشيرةً إلى أن قرار الكابينت احتلال غزة يُغيّر من المفهوم العملاني الذي وَجّه الجيش في عملية “عربات جدعون”، والتي بدأت في مارس/ آذار الماضي بخرق إسرائيل وقف إطلاق النار الذي وقّعت عليه في اتفاق يناير/ كانون الثاني مطلع العام.
وزعمت الصحيفة أنه خلال الشهور الماضية، وفي إطار العملية العسكرية المذكورة، عملت قوات الاحتلال في مناطق محددة “خالية من السكان المدنيين”؛ وتمحورت أعمال القوات في هدم البنى التحتية والأنفاق “التي كانت غالبيتها معروفة مسبقاً قبل دخول قوات الجيش”، متابعةً أن عدد مقاتلي حركة حماس في هذه المناطق “كان قليلاً، والسبب أن غالبيتهم انسحبوا إلى مدينة غزة ومخيم المواصي للاجئين”، على حد زعمها. ولفتت إلى أن “مهام الجنود تركزت على حماية أعمال الآليات الهندسية”. وما سبق، حجة استخدمها الجيش مراراً في الشهور الأخيرة ليؤكد أن عملياته تلك “لم تُهدد المخطتفين (المحتجزين الإسرائيليين في غزة)”.
مع ذلك، سيضطر الجيش الآن، وفقاً للصحيفة، إلى العمل في قلب المراكز السكانية المدنية التي تضم نحو 1.2 مليون مُهجّر (700 ألف قطنوها قبل اندلاع الحرب. ونحو نصف مليون مُهجّر غالبيتهم من شمال القطاع، خانيونس، ورفح). وبحسبها، هذه ليست المرّة الأولى التي يعمل فيها الجيش في مدينة غزة، ففي بداية الحرب شاركت ثلاث فرق عسكرية في المناورة البرية لـ”مواجهة كتائب حماس في أحياء الشاطئ، صبرا، الدرج والتفاح”. وطبقاً للصحيفة، فإن غالبية هذه الكتائب “قد تفككت خلال الحرب، وهياكل القيادة فيها قد أصيبت، فيما أعلن الجيش إخضاعها وهزيمتها”.
ومع ذلك، فإن الاحتلال المتوقع يأتي بعد شهور طويلة “استغلت خلالها حماس عدم وجود الجيش في هذه المناطق، معيدة تنظيم صفوفها وتحضير الأرضية استعداداً لمعركة ثانية”، كما تلفت الصحيفة، مشيرةً إلى أنه في مدينة غزة “بقي هذه الأيام فقط عز الدين الحداد، الذي “يقود لواء مدينة غزة”، بعدما تحوّل في الواقع إلى قائد الذراع العسكرية لحماس، إثر اغتيال إسرائيل الأخوين يحيى ومحمد السنوار، ورئيس هيئة الأركان محمد الضيف، وعدد آخر من القادة العسكريين والسياسيين للحركة”.
وفي الإطار، تنقل الصحيفة عن الجيش تقديره أن “القتال سيتسم في جوهره بحرب عصابات تقودها خلايا صغيرة ومتعددة، استعدت جيّداً. وهو ما يعني مزيداً من المُسلحين، والعبوات الناسفة، والصواريخ المضادة للدروع ونيران قنّاصة، وكل ذلك في مناطق مبنية ذات ارتفاع وكثافة عالية”. وفي ظل هذه الظروف الجديدة، فإن “الخطر على حياة الأسرى بديهياً”.
فضلاً عما تقدّم، بحسب قادة الجيش، فإن مسؤولين في الكابينت طالبوا بـ”استنساخ الدمار في بيت حانون؛ حيث دمّر الجيش كل البيوت ولم يترك حجراً على حجر”. ولهذا المطلب، بحسب الصحيفة، تأثيرات على الوقت الذي تستغرقه الحرب وتشكيلات القوات المطلوبة. ويدعي المسؤولون أنه بسبب أن غزة تختلف عن بيت حانون من حيث العمران، لأن فيها مباني أكثر ارتفاعاً، فإن عملية استنساخ الدمار تتطلب جهداً وقوّة أكبر.
ما تقدّم معناه واضح، وفقاً الصحيفة، فعلى الرغم من محاولات رئيس الأركان الامتناع عن مسار عسكري يتطلب تجنيداً واسع النطاق للاحتياط، على الأقل مئة ألف جندي احتياط يتوقع أن يتلقوا استدعاءً للامتثال للخدمة استعداداً لتوسيع الحرب، ما يعني عملياً أن مطالبة الكابينت تخرق الوعود التي قُطعت لمنظومة الاحتياط في السنة الحالية، بالاكتفاء بمدّة خدمة محددة لا تتعدى بضعة أشهر.
قصف مدفعي لـ”تشجيع الإخلاء”
النقطة الأهم على الإطلاق في الخطة المُصاغة هي “إخلاء” 1.2 مليون فلسطيني، ومن دون ذلك، وفقاً للجيش، لا يمكن الشروع في المناورة العسكرية. ووفقاً لتقديرات الجيش، فإن إخلاءً كهذا سيستمر من أسبوع إلى عشرة أيام، وأن السيطرة على مدينة غزة متوقع أن تتطلب ساعات حتّى أيام بمشاركة نصف القوات التي عملت هناك سابقاً. وعند إحكام السيطرة العملية على المدينة، سيستغرق الجيش سنة كاملة من أجل تدمير المدينة عن بكرة أبيها ومسح مبانيها فوق الأرض، والأنفاق تحتها، بحسب الصحيفة.
ولكن حتّى الآن، فإن المسار المذكور لم يمنح شرعية قانونية، والمدعية العسكرية العامة للجيش، يفعات تومر يروشالمي، أوضحت لرئيس الأركان ولمنتدى هيئة الأركان العامة الجوانب القانونية لاحتلال القطاع، وفي جلسات مغلقة شرحت أن خطوة كهذه ستؤدي إلى حالة من السيطرة الفعلية، والتي، بناء للقانون الدولي، تُلزم إسرائيل بتحمّل المسؤولية عن السكان المدنيين، وهو ما يعني أن الخطط العملياتية يجب أن تشمل أيضاً التعامل مع سكان غزة؛ إذ سيتوجب على جيش الاحتلال تزويدهم بالغذاء، والخدمات الطبية، والصرف الصحي، والبُنى التحتية، وتوفير مناطق آمنة لهم من القتال.
أمّا كيف يخطط الجيش لتهجير السكان؟ فوفقاً للخطة التي استعرضها زامير، سيُفتح محور صلاح الدين مجدداً، وسيُكره السكان على التحرك من خلاله جنوباً حتى محور نتساريم الذي سيشكل بالنسبة للسكان عملياً الحدود الشمالية الجديدة للمنطقة التي سيُسمح لهم البقاء فيها.
في غضون ذلك، يخطط الجيش، طبقاً للصحيفة، لإصدار أوامر إخلاء للسكان، لكنه يقّدر بالفعل أنه في هذه المرحلة سيختار كُثر منهم البقاء في المدينة حتّى لو عرّضوا خلال ذلك أنفسهم للخطر. والسبب أن معظمهم قد أُرهق من التهجير والنزوح المتواصلين، وبات العثور على مكان يمكن فيه نصب خيمة مهمة صعبة. ولإكراه السكان على النزوح، تنقل الصحيفة عن الجيش أن الأخير سيستخدم نيران المدفعية لـ”تشجيع” السكان على الإخلاء والاندفاع جنوباً، وفق تعبيرها.
وتقتضي الخطة تركيز غالبية السكان في منطقة المواصي التي يزعم الجيش أنها “منطقة إنسانية” منذ بداية الحرب، مع العلم أن ظروف المعيشة فيها قاسية للغاية، وقد طاولتها العديد من الهجمات العسكرية والقصف بالفعل. وستمتد المنطقة المخصصة للسكان المدنيين حتّى الجزء الغربيّ من خانيونس؛ حيث سيشكل محور “وراغ” الحد الجنوبي لها. وبالنتيجة، سيُحصر سكان قطاع غزة -الذي كان أكثر المناطق اكتظاظاً في العالم قبل اندلاع الحرب- في مساحة لا تتعدى 25% منه.
وما سبق، سيُجبر الجيش على إنشاء مناطق لاستيعابهم، عبر إقامة “مدن خيام” لهم. وحتّى الآن لا يعرف جيش الاحتلال، بحسب الصحيفة، كيف سيدير المنطقة المتوقع تركيز السكان فيها، ولا كيف سيتعامل معهم. وحتّى مسألة توزيع الغذاء وتلبية احتياجات المدنيين -التي هي من مسؤولية الجيش الذي سيحتل المنطقة- لم يُعرض لها حل إلى الآن.
غزة.. مدينة من الخراب الشاسع
على المقلب الآخر، تقّر بلدية غزة أن ما بين 70-80% من مباني الأخيرة قد تضررت أو دُمرّت. وفي الأحياء الشمالية والجنوبية من المدينة هناك أصلاً دمار جسيم: أكوام من الركام والأنقاض، وأزقة وممرات ضيّقة بين جدران إسمنتية عارية ومكشوفة. وفي حيي الرمال وتل الهوى اللذين كانا سابقاً لطبقة ميسورة، لم يتبقَ الآن سوى فلل مُدمّرة وبقايا أبراج متداعية. أمّا شرق شارع صلاح الدين، وفي حي الزيتون فلا يقل المشهد كارثيةً. وفي حي الصبرة كذلك، دُمرت معظم البيوت جزئياً.
وينسحب الوضع على حي الشجاعية الذي طاولته ضربات قاسية، وخصوصاً في مناطقه القريبة من الجدار الحدودي، ولا يزال أيضاً القصف يتواصل على أحياء كاملة هناك، وصولاً لحيي الدرج والتفاح. أمّا حي الشيخ رضوان فيتركز الدمار في شقه الشمالي، فيما النصيرات والجلاء قد تضررتا أساساً بفعل الغارات الجوية، والواقع أقسى كذلك في حي الكرامة الواقع بين غرة وبيت لاهيا، حيث مُسحت شوارع كاملة.
وسطُ مدينة غزة نفسها لم يسلم هو الآخر من آلة القتل والدمار. وفي حين كانت لا تزال بعض المباني قائمة في مجمّع السرايا وأجزاء من المدينة القديمة، أتى القصف في الأسابيع الأخيرة ليطاول مواقع تاريخية وأثرية مهمة منها المسجد العمري الكبير، وحمام السمرة، ليقضي على تراث المدينة الثقافي، وإرثها التاريخي. إلى ذلك، فإنه في المناطق التي لم يأتِ عليها الدمار كلياً، تحولت المساحات المفتوحة مراكز إيواء مؤقت، وفي كل مكان كان يوماً ملعباً أو ساحة مدرسة أو حديقة انقلب المشهد لخيام متراصة تعج بالنازحين، الذين يتساءلون في هذه الأيام بعد 22 شهراً من الإبادة: إلى أين سننزح بعد؟ وهذا الجحيم، أين نهايته؟