ويتخذ هذا الصراع أبعادا إستراتيجية عديدة، منها البعد الاستعماري؛ الذي تشكّل فيه إسرائيل امتدادا للاستعمار الغربي للمنطقة العربية، ومنها البعد الحضاري والديني، والذي يظهر بشكل متزايد في خطاب وسلوك اليمين الإسرائيلي والغربي.
ويشكل الصراع على الشرعية والقبول الدولي وجها آخر للحرب، علاوة على البعد العسكري والأمني الذي يشكل الملمح الأوضح لهذا الصراع.
وعلى الرغم من أن دولة الاحتلال قامت عام 1948 على أساس توازن قوى عالمي، في مرحلة ضعف استثنائية في تاريخ العالم العربي والإسلامي، إلا أن بقاءها وزوالها يرتبط جوهريا بمدى الدعم والتأييد العالمي لها، وأيضا بموقف البيئة المحيطة بها تجاهها؛ قبولا أو رفضا.
ولهذا المنظور الإستراتيجي دور أساسي في تقييم مسار الصراع المستمر مع المشروع الاستعماري في فلسطين والمستمر منذ ما يزيد على مئة عام.

فلسطين جوهر الصراع الإقليمي
تشكل القضية الفلسطينية جوهر الصراع الإقليمي في المنطقة العربية، وهو ما لاحظه كل من المؤرخ الأميركي باري بوزان، وأستاذ العلاقات الدولية أولي ويفر، في كتابهما “المناطق والقوى: هيكل الأمن الدولي”.
وذهب بوزان وويفر إلى أن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني يعد الاستثناء الرئيسي لقاعدة سيادة الدولة في الشرق الأوسط. إذ إنه “صراع داخلي يُشكّل، من نواحٍ عديدة، مفتاحَ الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط بأكمله”.
وبهذا المعنى، يُقارن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالصراع الذي كان قائما في جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري، إذ امتدّ نفوذ صراع أمني داخل قوة إقليمية إلى منطقة بأكملها، وأصبح الديناميكية المُحدّدة لصراع إقليمي”.
ويضيف أن “التيارات المتقاطعة للقومية العربية، والإسلامية، ومعاداة الصهيونية، ومعاداة الغرب تتداخل على المستويين المحلي والإقليمي بطرق معقدة ومتناقضة، بل وقوية في كثير من الأحيان، مؤثرةً على المواقف والآراء في الشارع وبين النخب الحاكمة”.


أسطول الصمود يواصل إبحاره نحو غزة لكسر الحصار
تعزيز موقع الاحتلال كعدو
عززت حرب غزة المستمرة منذ نحو عامين تصنيف عموم شعوب الأمة العربية والإسلامية لدولة الاحتلال كعدو، وكخطر داهم.
وفي سياق متصل؛ أشارت دراسة بعنوان “فهم ردود الفعل الإسلامية العربية تجاه الحرب على غزة” إلى أن “طوفان الأقصى” أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة برامج الحركات الإسلامية على الرغم من تباين السلوك الفعلي لهذه الحركات، وذلك تبعا لتباين ظروفها المحلية، وطبيعة هيكل الفرص والتهديدات السياسية الذي يحيط بها.
وأكدت الدراسة التي أعدها الباحثان جيروين غانينغ ومورتن فاليبورن أن ما جرى في غزة أدى أيضا إلى تراجع الانقسام السني الشيعي مقارنة بما كان عليه في العقد التالي للربيع العربي.
وتشير ثقافة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية ومنتجات الشركات والدول الداعمة لها إلى تغير ثقافي ذي نطاق واسع؛ فبعد أن كان الكثير من العلامات التجارية الغربية مؤشرا على الجودة والتميز في وعي مئات الملايين من العرب والمسلمين، نشأ موقف واسع النطاق بمقاطعتها بدافع قيمي وأخلاقي وديني وقومي، وهو ما يشكل أساسا لوعي جمعي مدرك لطبيعة الصراع وما يتصل به من أبعاد اقتصادية.
تقهقر الشرعية الدولية لإسرائيل
بالمقابل؛ تظهر استطلاعات الرأي تزايد عزلة الاحتلال الإسرائيلي عالميا وإقليميا، حتى في الدول الداعمة تاريخيا لها، وكذلك في الدول التي عقدت اتفاقيات سلام أو تطبيع معها.
وتعاظمت موجات العداء العالمية لإسرائيل مؤخرا، وازداد تعارضها مع إستراتيجية العديد من الدول الداعمة تقليديا لها، كفرنسا وبريطانيا.
واتضحت المعارضة الصينية والروسية لسياسات إسرائيل في بداية الحرب، وصولا إلى توسع المعارضة العالمية لتصل إلى تصويت مجلس الأمن بأغلبية 14 دولة على وقف الحرب مرتين، في حين وقفت الولايات المتحدة وحيدة في مواجهة هذا الموقف الدولي غير المسبوق.
وبحسب استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث في 24 دولة ونشره في يونيو/حزيران الماضي، فإن وجهات النظر تجاه دولة الاحتلال سلبية وبشكل متزايد في غالبيتها.
ففي 20 دولة ممن شملها الاستطلاع، يُبدي حوالي نصف البالغين أو أكثر نظرة سلبية تجاه إسرائيل، ويحمل حوالي 3 أرباعهم أو أكثر هذه النظرة في أستراليا واليونان وإندونيسيا واليابان وهولندا وإسبانيا والسويد وتركيا.
في حين يعرب 53% من الأميركيين عن رأي سلبي إلى حد ما أو سلبي للغاية تجاه إسرائيل، بزيادة قدرها 11% في الآراء السلبية منذ مارس/آذار 2022. وفي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، كانت نسبة 44% من البالغين ذوي نظرة سلبية لإسرائيل عام 2013، مقارنة بـ61% حاليا.

يظهر في السلوك السياسي والعسكري الإقليمي تزايد المخاوف من السلوك العدواني والتوسعي الإسرائيلي، وأحدث التطورات بهذا الصدد هو تشديد تركيا القيود على التجارة مع إسرائيل لتصل إلى القطيعة الاقتصادية وحظر الطيران.
وبدورها، تعزز مصر حضورها العسكري في سيناء، وتوسع مناوراتها وتزيد مقتنياتها من الأسلحة والمعدات الصينية، في استباق لأي تهديدات يرجح أن تصدر عن دولة الاحتلال، بفعل توجهها إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء، واعتمادها عقيدة أمن قومي جديدة قائمة على منع وجود قدرات عسكرية فاعلة في محيطها، بغض النظر عن النوايا.

وعلى الرغم من ضبط الأردن سقف مواقفه تجاه الإبادة الإسرائيلية في غزة، والجرائم في الضفة الغربية، إلا أن الخطاب الإسرائيلي الرسمي أخذ منحى الحديث عن التوسع في الأراضي الأردنية، كما في حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن إيمانه برؤية “إسرائيل الكبرى”، وحديث وزير الاتصالات شلومو كرعي بأن كلا ضفتي نهر الأردن جزء من إسرائيل الكبرى.
وتستشعر السعودية خطر توجه الاحتلال إلى تقويض فكرة السلام مع الفلسطينيين، لأن البديل الذي سيبقى هو المواجهة معها أو القبول باندثار القضية الفلسطينية، وهو موقف يصادم الرأي العام ولا يمكن حشد الشعب على أساسه، خصوصا في ظل تراجع المخاوف من إيران بعد ما تلقته هي وحلفاؤها من ضربات في الحرب الجارية.
وأظهر استطلاع للرأي في السعودية، نشره معهد واشنطن في أغسطس/آب 2025 ارتفاع نسبة السعوديين الرافضين لاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل إلى 86% من المستطلعة آراؤهم، وهي أعلى نسبة منذ عام 2020.

هزيمة إستراتيجية
بالمجمل، تشير قراءة تداعيات الحرب في سياق إستراتيجي أوسع؛ مكانيا وزمانيا ونوعيا، إلى تعاظم المخاطر التي تكتنف مستقبل إسرائيل.
وللمفارقة فإن مستوى الوحشية الإسرائيلية هو أهم ما يسهم في صنع هذا التراجع الإستراتيجي لها، من خلال حشد الرفض العالمي لها، وتأييد مقاومتها بمختلف السبل.
وهو ما سبق أن حذر وزير الدفاع الأميركي السابق، لويد أوستن، إسرائيل منه، بقوله عام 2023: “في هذا النوع من القتال، يكون السكان المدنيون مركزَ الثقل، وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية”.