النزوح تحت لهيب شمس غزة.. قصص الهروب من الموت وسط المجازر وحرق الخيام

المسار : تحت شمس الصيف الحارقة، تتدفق قوافل النازحين من شمال ووسط مدينة غزة نحو المجهول، هربا من قصف إسرائيلي متواصل لا يرحم المنازل ولا الخيام. وبين مشهد عربات الخيل المحمّلة بالقليل من المتاع، وأسرٍ تمشي على الأقدام متصبّبة عرقا، تتوالى قصص الألم التي ترويها العائلات الهاربة من الموت إلى مصير مجهول.

رحلة نزوح مضنية

قطعت عائلة حمدان أكثر من 15 كيلومترا على عربة يجرها حصان حتى وصلت إلى مدخل مخيم النصيرات الغربي. كانت الأم تحتمي بقطعة متاع وتظلّل طفلها بقطعة كرتون خشية إصابته بضربة شمس، فيما كان الكبار يسكبون الماء على رؤوسهم من شدة الحر. “خرجنا من شمال غزة، الوضع هناك لم يعد يُحتمل”، قالت الأم لـ”القدس العربي”، مشيرة إلى ليالٍ من القصف وتفجير المنازل، حيث لم يذوقوا طعم النوم قبل قرار النزوح.

وقالت السيدة إنهم أمضوا ليلتهم الأخيرة بلا نوم، لانشغالهم بجمع ما تمكنوا من حمله معهم من أمتعة وأطعمة وملابس، إضافة إلى خيمة مهترئة كانت ملاذهم خلال فترة النزوح الأولى قبل التهدئة الماضية التي انتهت في مارس/آذار.

وتحدثت عن حالة الخوف الشديد التي سادت بين سكان المناطق والأحياء الواقعة شمال غزة، منذ عدة أيام، عقب تصعيد الجيش الإسرائيلي هجماته، التي استهدفت المنازل بشكل متعمّد وأودت بحياة قاطنيها، إلى جانب القصف المدفعي العنيف. وروت كيف سقطت قذيفة مدفعية في مربعهم السكني، مسببة إصابات ودماراً، وقالت: “بنعيش معاناة ما في حد بيعيشها على وجه الأرض”.

رب الأسرة محمود حمدان، الذي تنقّل أكثر من سبع مرات، عبّر بمرارة عن خشيته من رحلة نزوح جديدة أطول وأصعب. وقال: “كل فترة بطلعوا (الإسرائيليون) بشيء جديد: هدنة، حرب، نزوح. زهقنا والله، واللي بيموت برتاح”.

وأضاف أنه لم يجد مكاناً آمناً للنزوح في المناطق الغربية من غزة، وخشي أنه إذا لجأ إليها فسيضطر لاحقاً للنزوح مجدداً نحو الوسط أو الجنوب، حيث يشمل التهديد الإسرائيلي الجديد كامل المدينة، ويُنفذ على مراحل ضمن خطة الجيش الإسرائيلي.

وبمرارة تحدث عن المستقبل المظلم الذي ينتظر أسرته وباقي سكان غزة، مشيرا إلى أنه لا يعرف ما إذا كان المكان الذي اقترحه له بعض السكان يصلح لإقامة خيمته أم لا، مشيراً إلى مشكلة نقص المواد التموينية التي انعكست سلباً على صحة أفراد أسرته، كما هو الحال مع معظم سكان القطاع.

قوافل متواصلة

على الطريق الساحلي ثم صعود “تلة النويري”، بدت الأفواج البشرية لا تتوقف: عربات تجرها الدواب، شاحنات صغيرة، وحتى أناس يمشون حفاة تحت الشمس. من بينهم عائلة “أبو حسام” التي قطعت أربع ساعات سيرا على الأقدام بين العربات والدراجات النارية وصولا إلى الزوايدة. “سنتين ما ذقنا فيهم طعم الحياة، من خوف إلى خوف ومن جوع إلى موت”، قال الرجل وهو يلتقط أنفاسه.

وزعت عائلة أبو حسام، المكونة من زوجته وثلاثة من أبنائه أصغرهم فتاة بعمر الـ 17 عاما، أحمال النزوح عليها، فمنهم من حمل فراشا على رأسه، ومنهم من حمل حقائب بداخلها طعام وملابس، وبعد أن أخذ وأسرته قسطا من الراحة عند محطة الوصول الأولى، شرب فيه الماء، وألقى بجسده المنهك تعبا على الأرض، متوجها إلى الغرب حيث نسمات الهواء الباردة القادمة من البحر، على أمل تجفيف ملابسه من العرق، قال إن ما أجبره على ذلك عدم امتلاك المال اللازم لحجر عربة، حيث استغرقت رحلة النزوح أكثر من أربع ساعات، ركب في جزء منها عربة يجرها حمار، وأخرى دراجة نارية بثلاث عجلات “تكتك”، وعلى الأقدام ساروا معظم الطريق، التي توقف فيها قليلا للراحة، ليكمل بعدها المسير، نحو منطقة الزوايدة وسط القطاع، للإقامة عند أحد الأصدقاء.

أكد باعة على الطريق أن حركة النزوح تصاعدت منذ أسبوع، وغالبية النازحين يبحثون عن مكان لإقامة الخيام، فيما قليل منهم يجد مأوى عند أقارب أو أصدقاء.

يقول أحدهم “منذ أسبوع بدأت حركة النزوح تزداد”، مشيرا إلى أن هذه المنطقة المرتفعة عن سطح البحر كثيرا، كانت تمتلئ بخيام النازحين في فترة الحرب ما قبل التهدئة السابقة، وتوقع أن يعود ذات المشهد في حال تزايد عدد النازحين.

وحتى اللحظة لم تبدأ رحلات النزوح الكبيرة من المنطقة الغربية لمدينة غزة، والتي يقطنها أغلب السكان المقيمين في المدينة وفي شمال القطاع، والمقدر عددهم بأكثر من مليون نسمة، واقتصر النزوح على عدد من عائلات مناطق الهجمات البرية الجديدة في أحياء الزيتون والصيرة جنوب غزة والشيخ رضوان والصفطاوي شمال المدينة.

مجازر وحرائق تضرب النازحين

لكن النزوح لم يحمِ السكان من الموت. وزارة الصحة أعلنت عن 113 شهيدًا و304 إصابات خلال 24 ساعة، لترتفع حصيلة العدوان إلى 63,746 شهيدًا و161,245 إصابة منذ 7 أكتوبر 2023.

من بين المجازر، استشهاد 10 من عائلة الجريسي في شارع النفق شمال المدينة، و6 آخرين في الشيخ رضوان، وثلاثة في حارة “سُباط المفتي” بحي الدرج، إضافة إلى استهداف شقة مكتظة بالنازحين قرب ميناء الصيادين غرب غزة، ومنزل لعائلة القايض في حي الصبرة.

وفي محيط مستشفى الرنتيسي بحي النصر، أصيب نازحون بعد قصف خيامهم. كما استخدمت طائرات إسرائيلية مسيّرة قنابل حارقة لإشعال خيام وعربات نازحين في الشيخ رضوان، بينما دُمّرت منازل بروبوتات متفجرة.

استهداف الجائعين

لم تتوقف الهجمات عند الخيام، بل طالت تجمعات طالبي المساعدات. مستشفى العودة بالنصيرات أعلن استقبال 12 شهيدا و16 إصابة، بينهم أطفال ونساء، إثر قصف على محيط “محور نتساريم”. كما استشهد 3 مواطنين وأصيب أكثر من 50 قرب مركز توزيع مساعدات شمال رفح، في وقت تزداد فيه وفيات المجاعة إلى 367 شخصا، بينهم 131 طفلا.

مخاطر التهجير القسري

يهدف الهجوم الإسرائيلي البري المتواصل، ضمن خطة “عربات جدعون 2″، لإفراغ مدينة غزة بالكامل ودفع السكان نحو الوسط والجنوب، رغم التحذيرات الأممية. وقد توقعت وكالة “الأونروا” أن يتجاوز عدد النازحين 1.2 مليون في حال تطبيق الخطة، مؤكدة عجزها عن تلبية احتياجاتهم وسط الحصار.

ووصف الدفاع المدني ما يحدث بأنه “كارثة كبرى”، مشيرا إلى أن المنطقة التي يُطلب من السكان النزوح إليها لا تتجاوز 12% من مساحة القطاع، وتفتقر لمقومات الحياة. رئيس بلدية دير البلح حذّر من أن المدينة بلغت أقصى طاقتها الاستيعابية، فيما تتزايد المخاوف من انتشار الأوبئة بسبب تراكم النفايات ومياه الصرف الصحي.

تحذير دولي

وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن العمليات العسكرية تؤدي إلى “خسائر بشرية كبيرة ونزوح واسع”. وقد شدد المتحدث الأممي ستيفان دوجاريك على أن وقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد لمنع انتشار المجاعة وتمكين الإغاثة.

مقاومة مستمرة

في المقابل، أعلنت كتائب القسام استهداف جرافة عسكرية “D9” وتجمع جنود في حي الزيتون بقذائف “الياسين 105” والهاون، فيما قصفت كتائب المجاهدين مواقع جنوب الحي بقذائف هاون دقيقة الإصابة.

عن القدس العربي

Share This Article