المسار : منذ أن وُلدت السلطة الفلسطينية من رحم اتفاق أوسلو كانت منذ اللحظة الأولى ابنة غير شرعية لمشروع تحرري حقيقي بل ثمرة مرة لصفقة سياسية أرادها العدو لترويض الشعب الفلسطيني وإدخاله في قفص من الوهم اسمه “مرحلة انتقالية” وفي الحقيقة لم تكن انتقالاً إلا من المقاومة إلى التنسيق ولم تكن مؤسسات إلا على الورق ولم تكن سيادة إلا على الأختام والرايات، فيما الأرض تُنهب والقدس تُعزل واللاجئون يُنسون، وما بين توقيع الاتفاق ودخول القيادات العائدة من المنافي إلى غزة ورام الله انشغل العالم بالاحتفال بما سماه “سلام الشجعان” بينما الشعب الفلسطيني كان يكتشف أنه وُضع في قفص ذهبي، قفص مرتب له راتب هنا وتصريح هناك ومعه أجهزة أمنية مهمتها الأولى ضمان أمن الاحتلال قبل أن تفكر بحماية المواطن.
ومنذ ذلك الحين صار الشعب أسيراً لمعادلة ثقيلة اسمها السلطة الفلسطينية، عبء يتضخم عاماً بعد عام حتى صار أثقل من أن يُحتمل. لقد تحولت السلطة إلى جهاز إداري ضخم متخم بالفساد والمحسوبية والعجز المالي، مرتبط مالياً بالمانحين ومرتهن سياسياً للاحتلال، فلا هي سلطة حقيقية قادرة على أن تكون دولة ولا هي أداة مقاومة تقود التحرير، بل أصبحت مثل حجر على صدر المشروع الوطني، تكبل كل محاولة للنهوض وتكبح كل انتفاضة وتطارد المقاومين في ليل الضفة كما لو كانت فرعاً من أجهزة العدو نفسه. هذا الكيان الذي وُلد مشوهاً بقي يبتز الشعب كل يوم بخطاب الخوف من الفراغ، فيردد رموزه أن انهياره سيجلب الفوضى وأن غيابه سيطلق المجهول وأن سقوطه يعني حرباً أهلية، ولكن التجربة التاريخية تكذبهم، فشعوب كثيرة تحررت من أنظمة عميلة أو كرتونية مثل السلطة ولم تغرق في الفوضى بل وجدت في لحظة سقوط تلك الأنظمة فرصة لولادة قيادة حقيقية، وما جرى في الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي حين حاولت الإدارة الاستعمارية تصنيع نخبة “إصلاحية” تلهي الناس بالدستور والانتخابات المحدودة، ثم سقطت تلك اللعبة فبرز جيش التحرير الوطني، يشبه إلى حد كبير ما يمكن أن يحدث في فلسطين إذا انهارت أوسلو وسلطتها. إن العبء الذي تمثله السلطة ليس فقط في عجزها عن تمثيل الشعب بل في كونها مظلة شرعية زائفة تغطي على الاحتلال، فالاحتلال يتفاخر في المحافل أنه سلّم الفلسطينيين إدارة حياتهم المدنية، بينما في الحقيقة أبقى الأرض والمياه والحدود والجو والموارد تحت قبضته، والسلطة بدلاً من أن تكشف هذه الخديعة صارت تشارك في تكريسها، فأصبحت شرطيّاً مجانياً لإسرائيل وغطاءً أمام العالم، وبذلك صار بقاء السلطة أكبر خدمة تقدم للاحتلال. ولعل أبرز دليل على أن كل المخاوف من سقوطها أوهام هو أن الشعب الفلسطيني عاش قبل أوسلو عقوداً طويلة من الاحتلال المباشر دون أن ينهار أو يغرق في فوضى، بل على العكس ولدت حينها الانتفاضة الأولى،
أعظم حراك شعبي فلسطيني، الذي كان منظماً ومتصلاً ومبدعاً من دون أي “سلطة” ولا “مؤسسات حكم ذاتي”، وإنما بفضل البنية الشعبية واللجان الميدانية والروح الوطنية.
وما إن جاءت السلطة حتى جرى تفكيك تلك البنية وإخماد تلك الروح، فصار الشعب يلهث خلف راتب أو تصريح بينما كان قبل ذلك قادراً أن ينظم حياته تحت الاحتلال بكرامة. وإذا ما نظرنا بعمق فإن سقوط السلطة لن يكون انهياراً بل تحرراً من قيد، لن يكون فراغاً بل بداية امتلاء، لأن الشعب الذي أنجب الانتفاضة وأبدع المقاومة في غزة وصمد في كل المعارك قادر أن ينجب قيادة بديلة، قيادة تنبع من الشارع ومن الفصائل المقاومة ومن النخب الوطنية، لا من مكاتب المانحين ولا من غرف التنسيق الأمني، وحين تسقط السلطة ستسقط معها الوهم الأكبر الذي جعل الفلسطيني يتخيل أن طريق الدولة يمر عبر رشاوى المانحين ووعود البيت الأبيض، وستعود البوصلة لتشير إلى الاتجاه الطبيعي: فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، مشروع تحرر لا مشروع تسوية. إن الإيجابيات العظيمة التي ستترتب على غياب السلطة تبدأ من استعادة القرار الوطني المستقل، لأن أخطر ما فعلته السلطة أنها جعلت قرارنا مرتهناً للاحتلال والمال الأجنبي، فإذا انهارت سنستعيد حرية تقرير المصير السياسي، وسنمنح للمقاومة مساحة أوسع تتحرك فيها دون ملاحقة، وسينتهي عصر التنسيق الأمني الذي هو وصمة عار على جبين المرحلة كلها، وستفتح الساحة الفلسطينية على إمكانية توحيد الفصائل والقوى ضمن إطار وطني جامع لا يقيده شرط أوسلو ولا يحده سقف الاعتراف بالاحتلال. بل أكثر من ذلك، إن انهيار السلطة سيكشف للعالم أن “حل الدولتين” كان خدعة، وسيدفع القوى الشعبية في الخارج والداخل لإعادة ترتيب أوراقها على أساس التحرير لا التسوية، وسينهي حالة التعايش المريض بين الاحتلال والسلطة، ليعود المشهد واضحاً: احتلال في مواجهة شعب حر، بلا أقنعة ولا وسطاء.
إن الشعب الفلسطيني ليس طفلاً يحتاج وصاية حتى لا يغرق في الفوضى، هو شعب خبر الاحتلال والمنفى والانتفاضة والحصار، وهو قادر أن يدير حياته بأدواته الشعبية ولجانه المجتمعية وقياداته المقاومة، أما الفوضى التي يخيفون الناس بها فهي أداة سياسية يستخدمونها للابتزاز، مثلما كانت أنظمة الاستبداد العربية تخيف شعوبها من “البديل المجهول” كي تبقى في الحكم عقوداً، وحين سقط بعضها اكتشف الناس أن البديل كان هو الشعب نفسه وقواه الحية. التاريخ يعلّمنا أن الاحتلال لا يزول إلا إذا تخلص الشعب من الأدوات التي صنعها الاحتلال ليحكمه بالوكالة، وأن كل حركة تحرر في العالم اضطرت أن تكسر نخبة متعاونة أو سلطة عميلة حتى تفتح الطريق للحرية، وفلسطين ليست استثناء، بل إن قضيتها لن تنهض إلا إذا تحررت من هذا القيد. ولهذا فإن الخوف ليس من سقوط السلطة بل من استمرارها، لأن استمرارها يعني استمرار الانقسام واستمرار العجز واستمرار تغطية الاحتلال، بينما سقوطها يفتح الباب أمام جيل جديد من القيادات الصادقة، أمام مشروع وطني جامع، أمام مقاومة تنمو في الضفة كما نمت في غزة، أمام وحدة فلسطينية حقيقية لا يعرقلها شرط الاعتراف بالعدو ولا قيد “التزامات أوسلو”. نعم، سيكون الطريق بعد انهيار السلطة مليئاً بالتحديات لكنه طريق شرف وكرامة، أما الطريق الحالي فهو نفق مظلم بلا نهاية. ولعل أكبر برهان على ذلك أن الاحتلال نفسه هو الذي يرتعب من احتمال انهيار السلطة، لأن هذا يعني أن عليه أن يعود ليتحمل مسؤولياته كاملة كقوة احتلال وفق القانون الدولي، وسيضطر أن يواجه شعباً حراً لا أجهزة أمنية تلاحق مقاومته، فالخوف الحقيقي هو خوف إسرائيل من غياب هذا الغطاء، أما الشعب فلن يخسر شيئاً. إن الوعي الشعبي بدأ يزداد بأن السلطة ليست قدراً بل مرحلة عابرة، وأن إسقاطها لا يعني الفوضى بل يعني استعادة المعركة على أساسها الصحيح، وأن التحرر لا يُستجدى من مانحين بل يُنتزع بالمقاومة، وكل يوم يمر يزداد اقتناع الناس أن بقاء هذا الكيان أثقل من أن يُحتمل وأن رحيله أقرب مما يتخيلون، وحين يحدث ذلك لن تكون الفوضى هي النتيجة بل النهضة، لأن الشعوب لا تموت ولا تضيع، بل تنهض حين تتحرر من الأثقال التي كبّلتها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري