كتب مازن الجعبري :الصهيونية والعنصرية: من النكبة إلى قرارات الأمم المتحدة وجرائم الحرب المعاصرة

المسار : تُعد النكبة الفلسطينية عام 1948 الحدث الرئيسي الذي يكشف جوهر المشروع الصهيوني وأيديولوجيته القائمة على التطهير العرقي والإقصاء. في تلك السنة، هُجِّر مئات الآلاف من الفلسطينيين قسراً من مدنهم وقراهم عبر مجازر منظمة نفذتها العصابات الصهيونية مثل “الهاغاناه” و”الإرغون” و”ليحي”، والتي تحولت لاحقًا إلى نواة الجيش الإسرائيلي. لم يكن هذا التهجير مجرد تداعٍ جانبي للحرب، بل جزءًا من خطة ممنهجة هدفت إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وتثبيت السيطرة الصهيونية على فلسطين، وقد تحققت الخطة عبر المجازر، ونشر الرعب، وإجبار الفلسطينيين على الهجرة القسرية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.

هذا الطابع العنصري للمشروع الصهيوني وجدت له اعترافًا مبكرًا في الساحة الدولية. ففي عام 1975، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا تاريخيًا (القرار 3379) ينص على أن “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. لم يأت القرار في فراغ، بل كان ثمرة موقف عالمي متنامٍ يربط بين الصهيونية والعنصرية، خاصة مع تصاعد النضال ضد أنظمة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وزيمبابوي. فقد أصدرت منظمة الوحدة الإفريقية وحركة عدم الانحياز عدة بيانات وصفت الصهيونية بأنها أيديولوجيا استعمارية وعنصرية تتقاطع مع نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. العلاقة بين النظامين لم تكن مجرد مصالح، بل تجسدت في تعاون سياسي وعسكري ونووي، إذ كانت إسرائيل من الدول القليلة التي اعترفت بنظام “البانتوستونات” وافتتحت له سفارة في تل أبيب عام 1971.

ولم يقتصر التحالف الإسرائيلي على نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، بل امتد أيضًا إلى أنظمة ديكتاتورية في أمريكا اللاتينية خلال سبعينيات القرن الماضي، مثل نظام بينوشيه في تشيلي وفيديلا في الأرجنتين. فقد زوّدت إسرائيل تلك الأنظمة بالسلاح والخبرات الأمنية، وأسهمت في تعزيز أجهزتها القمعية المسؤولة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ويعكس هذا التلاقي بين الصهيونية والأنظمة الاستبدادية بوضوح الطابع العنصري والعنيف للمشروع الصهيوني، بوصفه جزءًا من منظومة عالمية قائمة على القمع والإقصاء.

إسرائيل اعتبرت القرار وصمة عار ومعاداة للسامية، فشنّت حملة دبلوماسية شرسة لإلغائه. وفي مشهد تمثيلي يعكس الغضب الإسرائيلي، مزّق سفيرها لدى الأمم المتحدة حينها، حاييم هرتصوغ، نص القرار أمام الجمعية العامة. لقد شكّل القرار بالفعل إحراجًا دوليًا لإسرائيل وفتح الباب لمساءلتها بوصفها كيانًا عنصريًا، خاصة مع استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية وسياساتها التمييزية ضد الفلسطينيين في أراضي 1948 والأراضي المحتلة عام 1967.

غير أن هذا الإنجاز الدولي لم يدم طويلاً؛ ففي عام 1991، وبعد ستة عشر عامًا من اعتماده، ألغت الجمعية العامة القرار بموجب القرار 46/86. جاء الإلغاء في سياق التحضير لمؤتمر مدريد للسلام، حيث اشترطت إسرائيل ذلك للمشاركة. وقد مارست الولايات المتحدة ضغوطًا هائلة على الدول الأعضاء لتمرير الإلغاء. غير أن السياسات الإسرائيلية لم تتغير، بل ازدادت وضوحًا في عنصريتها، بل كان تنازلًا سياسيًا في لحظة هيمنت عليها أحادية القطب الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتوجه القيادات الفلسطينية والعربية نحو مسار التسوية.

اليوم، يبرز الطابع العنصري للصهيونية بوضوح أكبر من خلال المنظومة التشريعية والقانونية الإسرائيلية. من أبرز الأدلة “قانون القومية” الذي أقره الكنيست في يوليو 2018، وينص على أن “دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي”، ويمنح حق تقرير المصير لليهود وحدهم، متجاهلًا وجود أكثر من 20% من السكان الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948. كما خفّض مكانة اللغة العربية من لغة رسمية إلى “لغة ذات مكانة خاصة”، في خطوة تعكس الإقصاء الثقافي والسياسي والتمييز العنصري الممنهج. هذا القانون لم يكن سوى مقدمة لموجة تشريعات عنصرية أعمق، أبرزها القوانين التي تسمح بسجن الأطفال الفلسطينيين دون الرابعة عشرة، وتجريم المقاومة الشعبية بتوصيف فضفاض “أعمال إرهابية”، وسَنّ قوانين تسمح بترحيل عائلات منفذي العمليات، وتعديل قانون المواطنة لمنع لمّ شمل العائلات الفلسطينية. جميعها تكشف عن بنية قانونية قائمة على التفوق العرقي والديني، وتستخدم أدوات الدولة لتكريس السيطرة والإقصاء.

لفهم هذه الأيديولوجيا بشكل أوسع، يمكن مقارنتها بتجارب أخرى. فالفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني في عشرينيات القرن الماضي قامت على تمجيد الدولة القومية ورفض التعددية وقمع المعارضين، تمامًا كما تفعل الصهيونية. وفي السياق المعاصر، تبرز القومية الهندوسية المعروفة بـ(الهندوتفا) التي تحتكر الهوية الوطنية للهندوس وتقصي المسلمين والمسيحيين، بما يشبه النهج الصهيوني. كما أن الصهيونية تنتمي إلى نمط “الاستيطان الاستعماري” الذي شهدته الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، حيث جرى طرد السكان الأصليين واستبدالهم بمستوطنين مع محو الهوية الأصلية.

في المقابل، فإن جرائم الحرب وعمليات التهجير والإبادة في غزة والضفة تعمّق موجة تضامن عالمي غير مسبوقة مع الشعب الفلسطيني، من المظاهرات المليونية في العواصم الغربية، إلى حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات، إلى مواقف فنانين ومفكرين عالميين. هذا التضامن تجاوز التعاطف الإنساني ليصبح حركة سياسية عالمية تطالب بالعدالة وتدين الصهيونية كأيديولوجيا عنصرية.

إن الوقت قد حان لإعادة النظر في إلغاء القرار 3379 وإعادة طرحه في الأمم المتحدة لتصنيف الصهيونية كأيديولوجيا عنصرية تمارس جرائم حرب وتطهيرًا عرقيًا. فكل نظام يقوم على التمييز العرقي والديني ويستخدم القوة لفرض الأمر الواقع يجب أن يُدان. واليوم، بينما تواجه إسرائيل قضية الإبادة الجماعية أمام محكمة الجنايات الدولية، ويُلاحق نتنياهو كمجرم حرب، تبدو اللحظة مناسبة للعمل على إعادة تفعيل هذا القرار. إعادة الاعتراف بالصهيونية كحركة عنصرية وتمارس الابادة ليست خطوة رمزية فحسب، بل هي ضرورة قانونية وأخلاقية تعيد تصويب البوصلة للمجتمع الدولي، فالعدالة لا تحتمل مزيدًا من التأجيل.

Share This Article