المسار : بعد أكثر من 28 شهراً من الحرب بين الجيش ومليشيات “الدعم السريع” في السودان لا تلوح في الأفق أية حلول سياسية لإنهاء الصراع المدمّر، الذي أدّى إلى موجات نزوح ولجوء هي الأكبر في العالم حسب الأمم المتحدة. وبينما تستمر الأزمة وحالة الانسداد، تعلو أصوات تحذر من تهديد وحدة السودان خصوصاً بعد تشكيل حكومتين، واحدة يقودها الجيش وتدير البلاد من مدينة بورتسودان أقصى الشرق، وأخرى تسيطر عليها “الدعم السريع” وتتخذ من مدينة نيالا في إقليم دارفور غرباً مقراً لها، إلى جانب وجود دستورين ونيّات من قبل المليشيات لطرح عملة وإصدار جوازات سفر، ضمن مشروع يهدف إلى تفكيك مؤسسات الدولة، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو التقسيم الذي شهدته البلاد قبل 14 عاماً، وانتهى بانفصال جنوب السودان حاملاً معه 10 ولايات نتيجةً لحرب استمرت أكثر من 20 عاماً.
ومع استمرار الحرب منذ 15 إبريل/نيسان 2023، تقسمت البلاد بين سيطرة الأطراف المتقاتلة، إذ باتت قوات “الدعم السريع” تسيطر على أربع من جملة خمس ولايات في إقليم دارفور، وهي ولاية جنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، وولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة، وولاية شرق دارفور وعاصمتها الضعين، وولاية وسط دارفور وعاصمتها زالنجي، بينما فشلت في السيطرة على الولاية الخامسة وعاصمتها الفاشر، حيث تشنّ عليها هجمات متواصلة وقصفاً مدفعياً، وكذلك تسيطر على أجزاء واسعة في إقليم كردفان.
وتشمل الولايات الخاضعة لسيطرة الجيش كلاً من ولايات الخرطوم، والبحر الأحمر، والشمالية، وكسلا، والقضارف، وسنار، والنيل الأزرق، والنيل الأبيض، ونهر النيل، والجزيرة، وأجزاء من ولايات شمال كردفان، وجنوب كردفان، وشمال دارفور. بينما في ولاية جنوب كردفان، تسيطر الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، المتحالفة مع “الدعم السريع” على مدينة كاودا وعدد من القرى، في وقت تخضع منطقة جبل مرة، وهي سلسلة جبلية وعرة تمتد بين ولايات شمال ووسط وجنوب دارفور، لسيطرة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، التي تتخذ موقف الحياد من الحرب.
حكومة “الدعم السريع” بلا دعم دولي
وكانت جماعات سياسية وحركات مسلحة متحالفة مع قوات “الدعم السريع” وتنضوي تحت ما يسمى بـ”تحالف السودان التأسيسي” المعروف اختصاراً بـ”تأسيس”، وقّعت في 22 فبراير/شباط الماضي ميثاقاً سياسياً في العاصمة الكينية نيروبي لتشكيل “حكومة” في المناطق التي تسيطر عليها “الدعم”. وفي 26 يوليو/تموز الماضي، أعلن التحالف من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور تشكيل الحكومة الموازية، والتي تتشكل من مجلس رئاسي من 15 عضواً برئاسة قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ويشغل فيه رئيس الحركة الشعبية – شمال، عبد العزيز الحلو، منصب نائب الرئيس. وتم تعيين عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق في البلاد، محمد حسن التعايشي، رئيساً للوزراء. يشار إلى أن أي دولة حول العالم، حتى تلك المتهمة بدعم قوات الدعم السريع، وكينيا التي استضافت توقيع الميثاق السياسي لا تعترف بحكومة “الدعم”. ويتمتع تحالف الحكومة الموازية بعلاقات جيدة مع كينيا وتشاد وجنوب السودان، ولديه تعاون مع اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.
وقال حميدتي، في خطاب بعد أدائه القسم رئيساً للمجلس الرئاسي للحكومة الموازية، السبت الماضي، إن حكومته ستعمل على الالتزام بالمواثيق الدولية وسياسة حسن الجوار، وبناء علاقات مع الدول على أسس المصالح المشتركة. وفي الأول من سبتمبر/أيلول الحالي، قرر رئيس وزراء الحكومة الموازية تعيين قوني مصطفى أبوبكر شريف مندوباً دائماً لدى الأمم المتحدة في خطوة وضعت في خانة المناكفة السياسية مع استبعاد أي فرصة للاعتراف به.
وكان عضو المجلس الرئاسي وحاكم إقليم دارفور في الحكومة الموازية، الهادي إدريس، قال في تصريح في مارس/آذار الماضي إن الحكومة التابعة للدعم ستكون لديها عملة جديدة، كما سيتم إصدار جوازات السفر والوثائق الثبوتية، وستكون متاحة لجميع المواطنين. وأعقب ذلك الكشف عن تأسيس مصرف باسم “بنك دارفور الوطني” كما أصدر التحالف دستوراً باسم “الدستور الانتقالي”، ويتكوّن من 43 مادة، وألغى بموجبه الوثيقة الدستورية التي تحكم البلاد منذ العام 2019، وحدّد أن تكون الدولة علمانية ديمقراطية لا مركزية.
وقد أثارت هذه الخطوات مخاوف كبيرة وسط السودانيين من تقسيم جديد ينتظر بلادهم، يأتي هذه المرة من دارفور، التي لطالما شهدت حروباً وصراعات منذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، اندلعت في العام 2003، خصوصاً أن دارفور تذخر بالموارد الطبيعية، ولديها حدود مع تشاد، وليبيا، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان. وكانت دارفور تُعرف تاريخياً باسم “سلطنة دارفور”، إذ كانت كياناً قائماً بذاته ما قبل الاستعمار (البريطاني-المصري بين 1899و1956)، ويمتد تاريخها على فترتين: الأولى من عام 1603 إلى 24 أكتوبر/تشرين الأول 1874، عندما استسلمت لأمير الحرب السوداني رابح بن الزبير، والثانية من عام 1898 إلى 1916، عندما خضعت للاحتلال البريطاني وأصبحت جزءاً من السودان الإنكليزي. وانطلقت تحذيرات من السياسيين والكيانات والتنظيمات السياسية والاجتماعية من استمرار الحرب، معتبرة ذلك تهديداً لوحدة البلاد. في وقت ظل طرفا الحرب يؤكدان التزامهما القاطع بوحدة السودان.
خطر تقسيم السودان لم يعد نظرياً
وفي هذا الصدد، حذّر رئيس المكتب التنفيذي لحزب التجمع الاتحادي، بابكر فيصل، في تصريح على حسابه بموقع فايسبوك، أمس الجمعة، من أن خطر تقسيم البلاد لم يعد أمراً نظرياً، بل أضحى واقعاً سياسياً ووجدانياً معاشاً لا يُمكن التغاضي عنه، و”هو الأمر الذي ظللنا نحذّر منه، ونقول إن استمرار الحرب هو المُهدّد الأول لوجود البلاد ووحدتها، وليس أي شيء آخر”، لافتاً إلى أن كل الدلائل تشير إلى سعي الطرفين المتحاربين لحشد السلاح والمقاتلين استعداداً لجولة جديدة من معارك كسر العظم بعد نهاية فصل الخريف، و”كردفان ستكون مسرح العمليات في دورة الدم والبارود والنزوح القادمة”.
ماجد علي: حكومة “الدعم” لن تجد اعترافاً دولياً حقيقياً حتى من الدول التي تدعم هذه القوات
من جهته، قال الصحافي ماجد علي، لـ”العربي الجديد”، إنه بغض النظر عن شرعية الحكومة التي يقودها الجيش، فإنها هي التي تدير المؤسسات حالياً بحكم الأمر الواقع وتمثل البلد خارجياً، لأن الجيش على الأقل هو مؤسسة قانونية من مؤسسات الدولة، لكن السلطة التي شكلتها “الدعم السريع” وحلفاؤها تبقى موازية فقط داخل بلد واحد، وحتى لو أعلنت الانفصال بدارفور بشكل أحادي فلن تجد اعترافاً دولياً حقيقياً حتى من الدول التي تدعم قوات الدعم السريع. واعتبر أن تعيين مندوب دائم لدى الأمم المتحدة مجرد مناكفة سياسية، ولن تقبل به الأمم المتحدة. وأضاف علي أنه سبق للاتحاد الأفريقي إصدار بيان في 12 مارس الماضي يرفض فيه الاعتراف بالحكومة الموازية، ودعا جميع الدول الأعضاء فيه وكذلك المجتمع الدولي إلى عدم الاعتراف بأي كيان موازٍ يهدف إلى تقسيم السودان أو مؤسساته، وهو ذات الموقف الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي في ذات الشهر.
ورأى المحلل السياسي مجدي عبد القيوم، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه من حيث الإمكانات، مؤكد أن إقليم دارفور يذخر بموارد ضخمة، سيما الثروة الحيوانية والمعادن، وكذلك يقع فيه حزام الصمغ العربي. وأضاف إن “كان هناك من مشكل، فهو أنه حال تحوّل الإقليم إلى دولة، فستكون دولة مقفلة بلا منفذ بحري، لذلك تشير بعض التكهنات إلى أن دارفور سترتبط بشرق ليبيا ليكون ميناء بنغازي هو المنفذ البحري لها”. واعتبر عبد القيوم أن “هناك بالفعل أصابع تعمل على فصل دارفور، لكن أيضاً هناك دول عظمى تعارض هذه الفكرة لأسباب تتعلق بالأمن الإقليمي والخشية من تمدد ظاهرة الانفصال لكثير من الدول الأفريقية، علاوة على ما يمكن أن ينشأ من صراع على أسس إثنية بين مكونَي دارفور الأساسيين (القبائل العربية والأفريقية)، مع ملاحظة الامتداد لذات المكونات في عمق أفريقيا”ـ مضيفاً: “في تقديري، من الصعوبة بمكان أن يكون انفصال دارفور واقعاً”.
لكن المحلل السياسي صلاح مصطفى رأى أن تقسيم السودان لمرة أخرى أو حتى مرتين أمر وارد، فقد حدث ذلك من قبل في جنوب السودان، ويمكن أن يحدث مجدداً، ولا ينبغي للناس الاستمرار في إنكار هذه الحقيقة. وأضاف أنه عندما كان البعض يحذر من تقسيم السودان وانفصال الجنوب في تسعينيات القرن الماضي، كان نظام الرئيس المخلوع عمر البشير ومعه آخرون يقلل من الأمر ويرفضون الاعتراف بوجود خطر على وحدة البلاد، والآن تتكرر ذات الأمور التي قسمت السودان من قبل. وقال مصطفى، لـ”العربي الجديد”، إن منطقة دارفور لديها الإمكانات لأن تصبح دولة، لكنها ستعاني من ذات تجربة جنوب السودان، حيث تصارع السياسيون والعسكريون هناك بعد الانفصال، واندلعت حرب أهلية داخلية ذات طابع قبلي، بين من يريدون الاستمرار في حكم البلاد بالقوة، ومن يريدون أخذ نصيبهم في السلطة، وهو ما يُتوقع أن يحدث في دارفور، إذ إن “الدعم السريع” والقبائل الموالية لها ستفرض نفسها بالقوة على بقية المجتمعات الأخرى، والتي لن تقبل بذلك، بسبب النزاعات القبلية التاريخية، والتي فاقمتها الحرب الحالية وأوصلتها إلى مستوى غير مسبوق. ولفت مصطفى الانتباه إلى أن هناك كيانات سياسية وعسكرية موالية للدعم السريع وحكومتها الموازية محسوبة على مناطق أخرى كشرق السودان وولاية جنوب كردفان، وهو ما يعني بؤراً مستمرة للصراع ومشاريع تقسيم مستقبلية.
صلاح مصطفى: منطقة دارفور لديها الإمكانات أن تصبح دولة لكنها ستعاني من ذات تجربة جنوب السودان
من جهتها، قالت عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد النسائي السوداني حنان نوري، لـ”العربي الجديد”، إنهم يتابعون منذ فترة بقلق تطورات الأوضاع السياسية والإنسانية في البلاد، ومؤشرات قبول الأطراف على تقسيم البلاد في ظل استمرار الحرب وتعمق الكارثة الإنسانية. وأضافت: “نحن في الاتحاد النسائي نبّهنا لخطر التقسيم، وأن هذه التسوية التي تدور عبر ضغوط إقليمية ودولية لا تعبر عن إرادة السودانيين، ولا تستجيب لمطالب الثورة في الحرية والسلام والعدالة، بل تهدف لحماية أطراف الصراع ومليشياتهم ومصالح رأس المال العالمي”. ولفتت نوري إلى أنه من خلال المؤشرات الإقليمية والدولية كانت هناك تحركات لفرض خريطة طريق تعيد إدماج أطراف الحرب في المشهد السياسي دون محاسبة، متجاوزة في ذلك مطالب السودانيين في العدالة الجنائية والانتقالية. وتابعت: “قد حدث ما ذهبنا إليه، وحذرنا من مغبة حدوث التقسيم في ظل الحرب الحاصلة الآن، من فرض حكومتي الأمر الواقع، حكومة بورتسودان التي تمثلها السلطة الانقلابية، ومن خلفها الحركة الإسلامية ومليشياتها الإرهابية، وحكومة نيالا التي يمثلها تحالف تأسيس التابع للدعم السريع”.
مشروع التقسيم ليس جديداً
بدوره، قال القيادي بالحزب الشيوعي السوداني، صديق فاروق، لـ”العربي الجديد”، إن مشروع التقسيم وتخطيطه ليس أمراً جديداً، بل هو امتداد لمخطط معروف جرى استعراضه في العديد من المنابر، وتعمل من أجله دوائر أجنبية مرتبطة بما يُسمى “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، أو استراتيجية “الأفريكوم”، الهادفة إلى إنشاء قوات تمتد من البحر الأحمر حتى الأطلسي لحماية المصالح الأميركية في السيطرة على موارد القارة داخل هذا الحزام. وأضاف أنه رغم ذلك، فوجود هذه الأطماع على مستوى التصورات لا يعني حتمية تحققها، فالسياسات الإمبريالية تواجه مقاومة واسعة، وظل الفشل والانهيار يلازمان هذه المشاريع “فيما نشهد اليوم تصاعداً في الوعي ورفضاً متنامياً على المستوى القاري. غير أن المشهد السوداني يتعقد بسبب استغلال الأذرع الإقليمية للمركز الإمبريالي الغربي لواقع الحرب في نهب الموارد وتدفقها بلا رقابة، بل وبشكل شبه مجاني، الأمر الذي يجعل كثيرين يسعون لإطالة أمد الحرب واستدامتها”.
ورأى فاروق أن قوات الدعم السريع خسرت الحرب سياسياً بفقدانها حاضنتها الاجتماعية في مناطق سيطرتها، وفي دارفور تحديداً تفرض التركيبة السكانية والبنية الإثنية للمليشيات والحركات الأخرى رفضاً وجودياً لها، حتى تلك القوى التي اتخذت موقف الحياد تترقب اللحظة التي ينقلب فيها ميزان الصراع. وتابع: “غالباً ما سنشهد مزيداً من التفتت داخل المليشيات الإثنية، في ظل غياب مشروع سياسي جامع. كذلك فإن محاولة استدعاء مشروع الحركة الشعبية لن تؤدي إلا إلى نتائج عكسية، إذ ستغذي التنافس المحموم على الموارد، وتزيد من الانقسام بدل أن تهيئ بيئة للتوافق أو الانسجام”.
وحسب فاروق، فإنه من جهة أخرى، فإن دول الجوار رتبت مصالحها على استمرار الصراع للاستفادة من الموارد المهدورة، بينما تستمر المراوغات السياسية للجنة الأمنية التي تقود الجيش السوداني في إضعاف موقفها. وقال: “هذه اللجنة تُظهر عجزاً متزايداً عن كسب الشرعية السياسية، ومؤشرات التخبط الأخيرة، خصوصاً في محاولة تشكيل حكومة واجهة صورية، تؤكد أنها تتجه لأن تصبح كياناً هشاً فاقداً للقبول، وقابلاً للإطاحة به عبر بروز نخب عسكرية تحظى بقدر من القبول”.