المسار : استفاق أسرى صفقة التبادل بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل على أول نهار منذ سنوات طويلة لم تكن فيه قضبان الزنازين وجدرانها المرتفعة حاجزًا بينهم وبين الفضاء الفسيح ونور الشمس.
كان شعورًا غريبًا يملأ قلوب جميع الأسرى، سواء أولئك الذين أُطلق سراحهم إلى غزة أو الضفة الغربية، أو الذين أُبعدوا قسرًا إلى الخارج. كان صباح الثلاثاء مختلفًا عن سائر الصباحات السابقة، فلم يستفق المحررون على أصوات قرع السجانين لأبواب الزنازين، ولا على صرخات القمع، ولم يقضوا الساعات الأولى من الصباح في انتظار أن يُسمح لهم بالوصول إلى الحمامات أو إلى ساحة السجن التي يُحرمون منها أغلب أيام الأسبوع.
صباح الحرية الأول
كان الصباح مغايرًا، فتحوا أعينهم وتوجهوا نحو الفضاء القريب، حيث لا جدران مرتفعة ولا قضبان تحول بينهم وبين الشمس، ولا قيود تمنعهم من تنسم هواء الحرية. كان المشهد أشبه بالحلم، إذ لا تزال ذكريات عذابات السجن تهيمن على تفكيرهم، ويحتاجون إلى وقت طويل لاستيعاب الواقع الجديد. فمنهم من غُيّب عن العالم نحو ثلاثين عامًا، ومنهم من عاش كل أشكال العذاب والقمع في العامين الأخيرين، ويعتمد جميعهم على إرادتهم الصلبة التي صمدت في سنوات الأسر للتخلص من كوابيس السجن المؤلمة.
في غزة، خرج كثير من الأسرى المحررين من زنازين السجون المظلمة ليقيموا في خيام النزوح المهترئة، بعدما دُمّرت منازل عائلاتهم كما دُمّرت مئات آلاف المنازل، لكنهم يرون أن للحرية طعمًا آخر لا يشبه شيئًا.
ويروي الأسير المحرر حسن اشتيوي، من سكان بلدة بيت لاهيا، قصة أسره ومعاناته على مدار عامين مضيا، إذ اعتُقل في كانون الأول/ ديسمبر في العام الأول للحرب. يقول لـ»القدس العربي» إن الوضع في السجون كان سيئًا جدًا، ويستذكر اللحظات المريرة التي كان يقتحم فيها السجانون أماكن اعتقالهم في «سجن عوفر» وينهالون عليهم بالضرب المبرح.
ويضيف الأسير، الذي دمّر الاحتلال أغلب منازل ومنشآت بلدته الواقعة شمال قطاع غزة خلال اجتياحاته المتكررة أثناء الحرب، أن جنود السجن لجأوا إلى استخدام أسلوب إطلاق النار على الأسرى إلى جانب الضرب، ويروي كيف سقط عدد من رفاقه مصابين دون أن تُقدَّم لهم الأدوية أو العلاج المناسب.
دموع الألم والحرية
في غزة، امتزجت دموع الألم الناتجة عن الحرب بفرحة الحرية وعودة الأسرى، خاصة وأن عددًا منهم كان في عداد المفقودين، ولم تعلم عائلاتهم عنهم شيئًا، فيما تفاجأ كثيرون بأن ذويهم قد قضوا في هجمات نفذها جيش الاحتلال. فقد حُرم الأسرى طوال عامين من أي زيارة أو اتصال مع الأهل، كما حجبت سلطات السجون عنهم أي أخبار تتعلق بتطورات الحرب على غزة.
وهؤلاء الأسرى الذين أُطلق سراحهم إلى غزة اعتُقلوا خلال اجتياحات الجيش الإسرائيلي لمناطق عدة من القطاع، ومن بينهم الأسير المحرر محمود أبو غُبيْضمن سكان مخيم جباليا، الذي اعتُقل يوم 22 كانون الأول/ ديسمبر 2023 من حاجز عسكري أثناء نزوحه من شمال القطاع. هذا الأسير، الذي لم يتمكن الاحتلال من إثبات أي تهمة بحقه لإبقائه فترة أطول في السجن، أُجِّلت محاكمته عشر مرات دون أن يصدر أي حكم بحقه. يقول إنه حين سأل ضابط المخابرات عن سبب استمرار اعتقاله، أجابه: «أخذناكم عددًا»، في إشارة إلى رغبة الاحتلال في زيادة عدد الأسرى وتعذيبهم بشتى الوسائل.
ويتحدث جميع الأسرى عن معاناتهم داخل السجون، وعن لجوء الاحتلال إلى أساليب الضرب المبرح والتعذيب بكل أشكاله، والحرمان من الطعام والدواء، والتعمد في ممارسة التحرش الجنسي بالأسرى.
وفي مكان استقبال أسرى غزة الأول بعد انطلاق حافلاتهم من النقطة الحدودية الإسرائيلية، كانت مكبرات الصوت تصدح بأغانٍ تمجد الأسرى وتتحدث عن صفقات إطلاق سراحهم، ومن بينها أغنية تقول كلماتها:
«ضبّوا أغراض الزنزانة… ولّى عهد المهانة.»
واقع هؤلاء الأسرى الذين تنفسوا الحرية مؤخرًا بعد معاناة طويلة، كان مشابهًا للإحساس الذي عاشه زملاؤهم الذين أُطلق سراحهم إلى الضفة الغربية والقدس، وكذلك الذين أُبعدوا إلى مصر.
خندقجي: وُلدنا من جديد
كان من أكثر من عبّر عن هذا الإحساس الأسير المحرر باسم خندقجي، الذي كان يمضي حكمًا بالسجن ثلاث مؤبدات، إذ ظهر في فيديو قصير يقول فيه:
«ها أنا أبعث من جديد، أسيرٌ محررٌ من داخل سجون الاستعمار»، موجهًا الشكر للشعب الفلسطيني والمقاومة، ولا سيما في غزة.
وتابع في رسالته:
«السلام على غزة يوم تقاوم، ويوم تصمد، والسلام على غزة يوم تبعثنا أحياءً من داخل سجون الاستعمار الصهيوني». وأضاف أن معاناتهم لا تُقارن بما عاشه سكان غزة من ويلات الحرب.
أما الأسير المحرر أيهم كممجي، وهو أحد أبطال عملية «الهروب الكبير» من سجن جلبوع في أيلول/ سبتمبر 2021، وقد أُعيد اعتقاله بعد أسبوع، وكان يقضي حكمًا بالسجن المؤبد، فقد أُبعد إلى مصر ضمن الصفقة، وهناك أكمل أبيات قصيدة كتبها بعد إعادة اعتقاله مع عدد من الأسرى. جاء في قصيدته:
«مرج ابن عامر الذي فررنا منه
قم وحدثْ قصةً أبطالها نفروا إلى الرحمن
عافوا قيود الذل، عافوا أسرهم
عافوا قيود الذل والحرمان
فالصقرُ يأبى أن يبقى مقيَّدًا
والليثُ يأنفُ ذلةَ الخِرفان
لكن عزائي أن لي في غزة
إخواننا وبأسرهم غُرباني.»
وختم قصيدته بالقول:
«يا سامعي، فكّ الأسير وحرّر الأوطان.»
وفي مكان إقامة الأسرى المحررين في أحد فنادق القاهرة، تعالت الزغاريد ابتهاجًا بوصولهم، بعد أن تمكن عدد من ذويهم من السفر من الضفة الغربية عبر معبر الكرامة، ومن ثم الانتقال من الأردن إلى مصر.
غير أن سلطات الاحتلال، وكعادتها، تعمدت منع عشرات الأسر من السفر، ضمن سياسة التنغيص التي دأبت على اتباعها، ومن بينها عائلة الأسير عصام الفروخ، الذي أمضى أكثر من عشرين عامًا في الأسر، إذ لا تزال زوجته في الضفة الغربية محرومة من لقائه.