المسار : يصل ظهر اليوم الثلاثاء إلى تل أبيب، نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس بعدما وصلها أمس صهره جاريد كوشنر، ومبعوثه الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، ومهمتهم جميعا محاولة تثبيت وقف إطلاق النار والدفع نحو المرحلة الثانية.
ونقلت الإذاعة العبرية الرسمية صباح اليوم عن مصدر أمريكي قوله إن الإدارة الأمريكية تدفع بساستها الكبار إلى المنطقة خشية أن يبادر رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو لانتهاك وقف النار ومعاودة الحرب على غزة.
وبعدما منحت الولايات المتحدة، إسرائيل عامين ويومين لتحقيق انتصار واضح على الفلسطينيين دون جدوى بسبب صمود الغزيين، وعلى خلفية الاعتداء السافر والفاشل على الدوحة، بادرت الولايات المتحدة لفرض إنهاء حرب الإبادة على نتنياهو، وما تزال تبدي عدم ثقتها بنواياه كما تجلى في تصريحات ويتكوف وكوشنر لبرنامج “60 دقيقة” في شبكة “سي بي إس” قبيل وصولها إسرائيل، ومثلما تجلّى أيضا في أقوال نسبت لترامب، اتهم فيها نتنياهو بقوله إنه كلما تقدمّت مساعي الصفقة سارع لتعطيلها.
في عدد ووتيرة زيارات الساسة الأمريكيين دلالة واضحة أن واشنطن تسعى للحفاظ على الاتفاقية التي يعتبرها ترامب إنجازا شخصيا له، وهو معني بمواصلة تطبيق مراحلها للدخول في صفقة إقليمية أكبر علّها تعطيه جائزة نوبل للسلام في العام القادم، وتخفّف عنه وطأة الاحتجاجات المتصاعدة داخل الولايات المتحدة تحت عنوان “لا ملوك”.
ورغم تهديدات ترامب لحماس ووصفها بـ”مجموعة عنيفة، وعليهم أن يكونوا لطفاء وإلا ستُباد، بعدما برّأها من انتهاك وقف النار في اليوم السابق وعاد واتهمها ليلة البارحة، فإن هدف الإدارة الأمريكية اليوم واضح: “التثّبت من صمود الاتفاقية”، وتساورها شكوك بنتنياهو الذي أبلغه كل من ويتكوف وكوشنر أمس بأن “واشنطن تتوقع منك احترام اتفاق وقف النار”، كما تؤّكد صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم الثلاثاء.
ومع انجلاء الصورة تدريجيا تتزايد في إسرائيل تساؤلات ونقاشات خاصة في أوساط غير رسمية حول مدى حقيقة سيادتها واستقلالية قرارها في ظل إملاءات أمريكية متكررة حول الحرب ووقفها وما تخللها من صفقات تبادل، هل إسرائيل دولة أم ولاية أمريكية؟
وعقّب وزير تطوير الجليل والنقب، زئيف إلكين، على انتقادات بعض المراقبين بهذا الخصوص بالزعم ضمن حديث إعلامي اليوم أنها علاقة تحالف متينة نافيا التبعية.
الإعمار مقابل نزع السلاح
وبموجب تسريبات صحافية إسرائيلية في الأساس، فإن إسرائيل تضغط قبيل الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق من أجل نزع سلاح حماس وتطالب واشنطن برهن الإعمار بالتثبت من جاهزية حركة حماس لنزع سلاحها. وتزداد حساسية هذه المسألة بعد حادثة مقتل جنديين وإصابة ثلاثة إسرائيليين في رفح قبل أيام كونها ترسم علامات سؤال واستفهام حول رواية نتنياهو بالانتصار على حماس، وكذلك ما تكشف عنه الإذاعة العبرية اليوم بأن حماس متداخلة في تحديد هوية نصف أعضاء الحكومة التكنوقراطية القادمة بالاتفاق مع الوسطاء، بما يكفل لها نفوذا داخل القطاع مستقبلا كونهم مقربين منها، وهذا أيضا ينسف مزاعم إسرائيلية رسمية حول نتيجة الحرب.
وتضيف الإذاعة العبرية: “بخلاف الموقف الأمريكي والإسرائيلي المعلن، تقوم حماس بطريقة ذكية بضمان بقائها في صورة الحكم في غزة مستقبلا من خلال هذا الحراك والتأثير في هوية المسؤولين في الحكومة القادمة وهذا أمر إشكالي جدا”.
هكذا يتلاشى الحدّ الفاصل في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة
في سياق متصل، يرى الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب إلداد شافيط، أن إسرائيل تفقد مكانتها كدولة مستقلة بقوله: “انطبعت زيارة دونالد ترامب إلى إسرائيل وظهوره الدرامي في الجلسة العامة للكنيست في الذاكرة كحدث استثنائي، ليس فقط بسبب أسلوب ترامب المبالَغ في فخامته، بل أيضاً، أساساً، بسبب الشعور بعدم الارتياح الذي رافقهما. يبدو أن إسرائيل، التي حرصت لأعوام على إظهار استقلالها السياسي والأمني، تُصوَّر اليوم أكثر فأكثر كدولة خاضعة للوصاية الأمريكية. كما أن محاولات الإدارة الأمريكية صياغة موقف إسرائيل في المفاوضات بشأن غزة، والطريقة التي ترسم بها لها مسار قول “نعم”، تعكسان النمط ذاته من التبعية اللطيفة، لكن المستمرة”.
في مقال بعنوان: “هكذا يتلاشى الحدّ الفاصل في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة”، يقول شافيط إن الاحتفالات والتصريحات والتصفيقات الحارة في الكنيست، أوجدت مظهراً من مظاهر الاحترام والتقدير، غير أن ما كان وراءها كشف عن واقع آخر يتمثل في الانضباط السياسي تجاه واشنطن.
وقد عبّر صهر ترامب، جاريد كوشنر، عن ذلك بصراحة، عندما قال إن الرئيس ترامب يشعر بأن “سلوك إسرائيل خرج عن السيطرة، وحان الوقت لمنعها من التصرّف بما يتعارض مع مصالحها”.
كما يرى أن هذا لا يشكّل أمراً جديداً مطلقاً، فالعلاقات الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة تُعَد منذ عقود ركناً أساسياً في السياسة الخارجية الإسرائيلية؛ فالدعم الأمني، والمساندة الدبلوماسية، والرعاية الأمريكية في الساحة الدولية، جميعها عناصر حيوية في أمن إسرائيل وصلابتها.
غير أن التفاعلات المتبادلة في الأشهر الأخيرة تُشير إلى أمر مختلف؛ ليس إلى شراكة استراتيجية فحسب، بل أيضاً إلى هرمية أيضا. ويقول إن حرص الحكومة الإسرائيلية على الاصطفاف شبه التام مع مطالب ترامب، عزز الإحساس بأن الحديث يدور عن علاقة تبعية أعمق مما أُقِر به في السابق. فعندما يلقي رئيس أجنبي خطاباً في الكنيست، ويعرض قائمةَ توقعات أشبه بـ”شروط العضوية”، وتكون الاستجابة المحلية انحناءة رأس وشكر بدلا من حوار سيادي ناقد كما كان الحال مع إداراتٍ سابقة، يتشكّل نمط يمكن أن يقوض استقلال إسرائيل السياسي.
ويخلص للقول إنه في الواقع العالمي للقرن الواحد والعشرين، ربما تبدو التحالفات والتبعيات أمراً لا مفرّ منه، وأن الإصرار الأمريكي أحياناً ضروري من أجل “إنقاذ أنفسنا”، غير أنّه ما دامت إسرائيل ترى نفسها دولةً ذات سيادة، فعليها أن تعيد البحث في وضع الحدّ الفاصل بين تحالف شجاع وطاعة عمياء، فالعلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة تُعَدّ أصلاً استراتيجياً لا بديل له، لكنّ هذا بالذات يستدعي رقابةً دائمة على التوازن بين إظهار الامتنان والتنازل عن استقلالية القرار. كانت زيارة ترامب تذكيراً بأنّ هذا الخط يزداد ضبابيةً يوماً بعد يوم، وإذا لم تُعِد إسرائيل رسمه من جديد، فربما تجد نفسها أمام سابقةٍ إشكالية: فيمكن أن ترى إدارات أمريكية مستقبلية، بغض النظر عن معسكرها السياسي، في التبعية الإسرائيلية الراهنة نموذجاً مريحاً لإدارة العلاقات”.