نيويورك تايمز: الأنقاض لا تكذب.. الكلفة الحقيقية لحرب غزة كما تكشفها الشهادات والأرقام

المسار : نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقال رأي للمعلقة ليديا بولغرين قالت فيه إن ما حدث في غزة ربما كان أسوأ مما نعتقد. وأوضحت أن كثيراً من الأمريكيين قد يميلون إلى عدم تصديق هول ما وقع هناك، “ففي النهاية، كانت كارثة مولت بأموالنا، ونفذت بأسلحتنا، ووافقت عليها حكومتنا، ونفذها أحد أقرب حلفائنا، فلا عجب أن يقلل البعض من شأن الدمار”.

من ينكرون فداحة ما جرى في غزة يبررون ذلك بالتشكيك في أعداد ضحايا الحرب

وأضافت أن من ينكرون فداحة ما جرى يبررون ذلك بالتشكيك في الأرقام. ويسير الأمر – كما تصف – على هذا النحو: عدد القتلى الذي أحصته وزارة الصحة التي تديرها حركة حماس “مبالغ فيه” لإثارة الغضب الدولي، وإن لم يكن كذلك، فإن معظم القتلى – بحسب زعمهم – كانوا من مقاتلي حماس وليسوا مدنيين. ثم يواصلون التبرير بالقول: على أي حال، لا يمكن أن يكون ما جرى أسوأ من أهوال أخرى في أماكن مثل جنوب السودان أو جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث لا يتحمل الأمريكيون مسؤولية مباشرة.

وترى بولغرين أن جمع هذه التبريرات يشكل ذخيرة للإنكار والتبسيط، لكن “حان وقت الحساب”. فبعد عامين من العنف المتواصل، لا يزال وقف إطلاق النار الهش في غزة قائماً، وإن كان غير مؤكد، مخلفاً مشاهد مبهجة لأسرى إسرائيليين يجتمعون بعائلاتهم، وأسرى فلسطينيين يعودون إلى بيوتهم بعد سنوات من الاعتقال.

لكن بالمقارنة مع تلك الصور، تشير الكاتبة إلى ما وجده الناجون: مشهد كارثي من الدمار الشامل والخسارة الفادحة. وتقول إن لدينا اليوم فرصة، إذا أردنا، لاكتشاف التكلفة الحقيقية لهذه الحرب “وعندها قد نجد أنها أسوأ مما كنا نعتقد”.

خبراء في إحصاء قتلى الحروب أكدوا أن الأرقام دقيقة على نحو غير معتاد، إذ لا تشمل فقط أسماء من تأكدت وفاتهم بسبب الحرب، بل أيضاً أعمارهم وجنسهم وأرقام هوياتهم الشخصية القابلة للتحقق

وتبدأ بولغرين من الأرقام: في غزة، يبلغ عدد القتلى نحو 68,229 شخصاً، بحسب أحدث إحصاءات وزارة الصحة، التي تديرها حماس، وهو ما أثار شكوكاً في تقديراتها. إلا أن خبراء في إحصاء قتلى الحروب أكدوا للكاتبة أن هذه الأرقام دقيقة على نحو غير معتاد، إذ لا تشمل فقط أسماء من تأكدت وفاتهم بسبب الحرب، بل أيضاً أعمارهم وجنسهم وأرقام هوياتهم الشخصية القابلة للتحقق.

ونقلت عن مايكل سباغات، أستاذ الاقتصاد في جامعة “رويال هولواي” في لندن، الذي درس حصيلة ضحايا الحروب لعقود، قوله: “نعلم أن وزارة الصحة، لأسباب مختلفة، متحفظة للغاية في إدراج الأسماء ضمن القائمة”.

وأضاف أن هناك مستوى ملحوظاً من الشفافية، وأن المعلومات “أفضل بكثير مما نعرفه عن النزاعات الأخيرة في تيغراي والسودان وجنوب السودان”.

وفي الواقع، على الرغم من مصداقية هذه الإحصاءات، يشتبه العديد من الخبراء في أنها أقل من العدد الحقيقي. فقد أجرى سباغات ومجموعة من الباحثين مسحاً شمل ألفي أسرة في غزة، أشار إلى أن الأرقام الرسمية ربما تقل بنحو 39% عن العدد الفعلي للقتلى. ومع ذلك، لا تميز الإحصاءات بين المدنيين والمقاتلين.

وترد الكاتبة على الادعاء القائل بأن معظم القتلى من مقاتلي حماس، مشيرة إلى أن المسح أظهر أن 56% من الضحايا نساء وأطفال وكبار سن. ويقول سباغات: “في أي صراع تقليدي، يكون عدد الذكور في سن الخدمة العسكرية أكبر بكثير مما نراه هنا”، مشيراً إلى أن نسبة النساء والأطفال وكبار السن مرتفعة بشكل غير معتاد.

ويكفي النظر إلى بقايا غزة المدمرة – كما تقول بولغرين – لإدراك أن وابل القنابل والصواريخ الإسرائيلية لم يكن دقيقاً في استهداف المقاتلين، بل سقط على الجميع، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، بقوة متساوية.

يكفي النظر إلى بقايا غزة المدمرة لإدراك أن وابل القنابل والصواريخ الإسرائيلية لم يكن دقيقاً في استهداف المقاتلين، بل سقط على الجميع، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، بقوة متساوية

وتوضح الكاتبة أن الإحصاء الدقيق للقتلى لا يكشف سوى جزء من التكلفة البشرية، إذ إن كثيراً من الوفيات في النزاعات لا تنجم مباشرة عن العنف، بل عن الجوع والمرض، وتُعرف بـ”الوفيات غير المباشرة”. ويجري احتسابها عادة من خلال مقارنة معدلات الوفيات قبل الحرب وبعدها.

وتشير بولغرين إلى أن إغفال هذه الوفيات يحجب التكلفة الحقيقية للحرب، وتقول إنها رأت ذلك بنفسها في دارفور منتصف العقد الأول من الألفية، حين كانت هجمات ميليشيات الجنجويد مجرد بداية للبؤس. فقد أجبر القرويون على الفرار والاحتماء في مخيمات بائسة، بينما تأخرت المساعدات لأسابيع، فكان الأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل وكبار السن أول الضحايا، ليس بسبب الرصاص، بل بسبب الظروف التي خلقها العنف.

وتضيف أنها في عام 2006 أمضت أياماً في مستشفى بشرق الكونغو لتوثيق الوفيات غير المباشرة بين الأطفال، حيث شاهدت طفلاً يدعى “أموري” يلفظ أنفاسه الأخيرة بسبب الحصبة، مرض يمكن الوقاية منه بالتطعيم، وكان واحداً من كثيرين يموتون بأمراض يمكن علاجها بسهولة.

وتوضح أن هذه المعدلات المرتفعة للوفيات غير المباشرة شائعة في الدول الفقيرة الواسعة ذات السكان المتناثرين، حيث يصعب إيصال المساعدات. أما غزة، فهي مختلفة: صغيرة المساحة – بحجم مدينة ديترويت تقريباً – ويسهل الوصول إليها براً.

وقبل الحرب، كانت غزة من أكثر المناطق تلقياً للمساعدات الإنسانية للفرد الواحد في العالم، وكان سكانها يتمتعون بصحة أفضل من سكان مناطق الصراع الأخرى، بفضل نسب التطعيم المرتفعة للأطفال ضد الأمراض المعدية مثل شلل الأطفال. وكان من المتوقع أن تكون الوفيات غير المباشرة أقل من المعدلات المعتادة في الحروب.

لكن قرار إسرائيل تقييد دخول المساعدات بشكل حاد وأحياناً منعها تماماً، دفع القطاع إلى حافة المجاعة هذا العام، فيما دُمرت بنيته التحتية الصحية، واضطر معظم سكانه البالغ عددهم نحو مليوني نسمة إلى الفرار مراراً، والعيش في ظروف غير صحية ومليئة بالمخاطر. وتقول بولغرين: “لا يمكننا حتى الآن معرفة حجم الضرر الذي تسبب فيه ذلك”.

وتأمل الكاتبة أن يؤدي وقف إطلاق النار إلى تحسن الوضع، لكنها تحذر من أن الفترة المقبلة قد تكون قاتلة لكثيرين. فمع هذا الدمار الهائل، لن يجد العائدون سوى الأنقاض، وهناك كل الأسباب لتوقع أن تستخدم إسرائيل تدفق المساعدات – الغذاء والماء والكهرباء والدواء والعمال – كورقة ضغط في المفاوضات حول مستقبل غزة.

فبحسب شروط وقف إطلاق النار، كان من المفترض دخول 600 شاحنة مساعدات يومياً، لكن منذ توقف القتال، لم يصل سوى أقل من 100 شاحنة في المتوسط يومياً، وفقاً للأمم المتحدة.

ونقلت بولغرين عن أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي بجامعة تافتس وأحد أبرز خبراء العالم في قضايا المجاعة، قوله: “سأكون مندهشاً للغاية إذا كان هناك أقل من 50 ألف وفاة غير ناجمة عن إصابات مباشرة”.

وإذا كان دي وال قريباً من الصواب، فإن الحرب تكون قد قتلت 7.5% من سكان غزة خلال عامين فقط، ما يجعلها – من حيث النسبة المئوية – أكثر فتكاً من الحروب في اليمن وسوريا والسودان وأوكرانيا.

سيكون من المستحيل إخفاء الحقيقة، فصِغر مساحة غزة وسهولة الوصول إليها والبنية التحتية للمساعدات تجعل من الممكن تحديد عدد القتلى بدقة غير عادية

وترى الكاتبة أنه سيكون من المستحيل إخفاء الحقيقة، فصِغر مساحة غزة وسهولة الوصول إليها والبنية التحتية للمساعدات تجعل من الممكن تحديد عدد القتلى بدقة غير عادية، سواء المباشرين أو غير المباشرين. وسيصعب إنكار ما حدث، لكنه لن يكون مستحيلاً.

وفي مقابلة مع برنامج “60 دقيقة”، وصف جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنقاض غزة التي شاهدها أثناء زيارة برفقة الجيش الإسرائيلي قائلاً: “بدا الأمر كما لو أن قنبلة نووية قد فجرت في تلك المنطقة”.

وعندما سئل إن كان يعتقد أن ما حدث في غزة إبادة جماعية، أجاب سريعاً: “لا”، ورد رفيقه ستيف ويتكوف بالطريقة نفسها: “لا، لا، كانت هناك حرب”.

وتختم بولغرين مقالها بالقول: “الأنقاض تروي قصة، والناس الذين صنعوها يروون قصة أخرى. والحساب سيكون بناءً على أي قصة نختار تصديقها”.

Share This Article