المسار : لم تكن عزلة إسرائيل وليدة اللحظة، لكنها اليوم تبلغ ذروتها مع تصاعد موجة المقاطعة العالمية التي تحوّلت إلى “تسونامي” سياسي واقتصادي وأخلاقي يضرب الكيان من كل الاتجاهات، بعد حرب الإبادة الممنهجة التي شنّها على غزة، والتي لم يسلم منها الحجر ولا الإنسان ولا حتى صورة إسرائيل التي لطالما حاولت تلميعها أمام العالم، حتى ان بنيامين نتنياهو وبلسانه، يقرّ بأن إسرائيل تعيش عزلة سياسية غير مسبوقة، لم تعد تقتصر على العلاقات الدبلوماسية، بل امتدت إلى الاقتصاد والثقافة والرياضة والسياحة والمجتمع الأكاديمي، في مشهد يذكّر بعزلة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قبل سقوطه .
إنّ ما تسميه الصحافة العبرية “الاعتراف المرّ” جاء في خطاب نتنياهو حين قال إن إسرائيل في عزلة شاملة، بينما كانت الصحف الغربية تتحدّث عن ظاهرة جديدة تتمثل في انقلاب الرأي العام العالمي، وتحول الكيان من “ضحية دائمة” إلى “جلاد منبوذ”، وحتى الصحف التي عُرفت بولائها التاريخي لإسرائيل، مثل وول ستريت جورنال، كتبت تحت عنوان صادم: “إسرائيل تفوز بالحرب لكنها تخسر العالم”، مؤكدة أن ما بعد غزة ليس كما قبلها، وأن الدولة العبرية تواجه خطر أن تصبح منبوذة حتى بين أصدقائها القدامى .
المقاطعة لم تعد شعارًا أخلاقيًا أو حراكًا طلابيًا محدودًا، بل تحوّلت إلى شبكة عالمية تمتد من الجامعات إلى المهرجانات إلى الشركات الكبرى، أكثر من 80 منظمة دولية دعت إلى وقف التعامل مع المستوطنات، وأكثر من أربعة آلاف فنان ومخرج وقّعوا عرائض لمقاطعة إسرائيل ثقافيًا وفنيًا، فيما تتقلص منحها الأكاديمية، وتُلغى مشاركاتها الرياضية، وتُحاصر صادراتها التي بدأت تتراجع في المجالات الزراعية والعسكرية والاستهلاكية، حتى باتت السياحة إلى إسرائيل شبه متوقفة، وأصبح جواز سفرها عبئًا في مطارات العالم، حتى اصبح وجود الإسرائيلي في المطاعم والفنادق وموالات وصالات الكبيرة في الكثير من دول العالم غير مرحبا به في الكثير من الأحيان.
في المقابل، يتحدث محللون إسرائيليون عن قلق متصاعد من احتمال تحوّل المقاطعة إلى عقوبات رسمية، وسط دعوات من دول في الاتحاد الأوروبي الى مقاطعة الكيان و فرض عقوبات عليه في إجراءات غير مسبوقة، وسط تسريبات من داخل الإعلام الإسرائيلي نفسه تقول بوضوح: “لقد خسرنا العالم ولم نربح الحرب”، أما ليبرمان فهاجم نتنياهو قائلًا: “متى ننتصر؟ بعد ثماني سنوات مثلاً؟”، في إشارة إلى الفشل السياسي والعسكري الذي جعل إسرائيل تبدو كدولة محاصَرة من الخارج ومن الداخل معًا .
اليوم لا يعبأ الاحتلال بالمقاطعة العربية أو الإسلامية التي اعتاد على تجاوزها، لكنه يشعر بقلق عميق أمام المقاطعة الغربية التي بدأت تتسلل من قارات بعيدة مثل أمريكا اللاتينية والبرازيل وجنوب إفريقيا، حيث تتجذر القناعة بأن هذا الكيان خرج عن كل قيم الإنسانية، وأنه فقد ما تبقى له من شرعية أخلاقية، فيما أصبح الطوق يتسع حول إسرائيل، وتتسع معها دائرة الإدانات والعزلات والإلغاءات، حتى باتت ملامح الدولة المنبوذة تترسخ في الوعي الدولي، كما لو أن العالم أخيرًا بدأ يصحو على جرائمه التي كانت تُرتكب منذ عقود تحت غطاء “الحق في الدفاع عن النفس”.
إنّ تسونامي المقاطعة لا يهدد إسرائيل اقتصاديًا فقط، بل يهزّ أسس الرواية التي قامت عليها، ويعيد تعريفها في الوعي العالمي من دولة “النجاة بعد المحرقة” إلى دولة الإبادة، ومن رمز الديمقراطية والحداثة والتقدم إلى كيانٍ عنصريٍّ محاصر، وهذا وحده كافٍ ليجعلها تشعر بالهزيمة قبل أن تُهزم في الميدان، ولكن فيما يبدو ان القادم قد يكون الاسوء .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار
المصدر .. وكالة وطن للأنباء

