كتب هزار حسين : بين أخلاقيات التحرر وبراغماتيات ما بعد الاستعمار في الدولة الواحدة

المسار : شكّل اللقاء المفتوح في الناصرة في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2025، محطّة مركزية لإعادة فتح النقاش حول مشروع الدولة الواحدة، ليس بوصفه شعاراً سياسيّاً، بل حقلاً تتداخل فيه أسئلة التحرّر الوطني مع تحدّيات إعادة بناء نظام سياسي – اجتماعي جديد في مرحلة ما بعد الاستعمار.

لم يكن الحديث عن “الدولة الواحدة” فقط، بل عن نوع المسؤولية، عن موقع الفلسطيني في معادلة التحرّر، وموقعه وموقع غيره في معادلة البناء. وبدا أنّ توتّر السؤال ذاته (لا الإجابات) هو ما جعل النقاش حياً، حاداً، وضرورياً.

يُعدّ النقاش حول الدولة الواحدة، أحد أكثر النقاشات تعقيداً في الفكر السياسي الفلسطيني، لا بسبب طبيعته المُستقبلية فحسب، بل لأنّه يكشف حدود العلاقة بين النضال التحرري ومشاريع إعادة البناء السياسي والاجتماعي لما بعد لحظة التحرير. وبينما تتصدّر التجربة الفلسطينية موقعها الطبيعي، بوصفها التجربة الحاملة مشروع التحرّر، تطرح الأسئلة نفسها حول دور الفاعلين الرافضين داخل المجتمع الاستعماري؛ ما حدود مشاركتهم؟ وهل يُسمح لهم بتعريف دورهم داخل ساحة التحرّر أو خارجه؟ وما الذي يمكن أن يقدّموه من دون التعدّي على مركزية التجربة الفلسطينية؟

ما طُرح في جلسات المؤتمر، كان مواجهة مباشرة مع مستقبلٍ قريب ستأتي إليه كلّ الأطراف، سواء أرادت ذلك أم لا؛ مستقبل يُعاد فيه بناء المكان، وتُعاد فيه كتابة العلاقة بين صاحب الأرض، ومن جاءها مستوطناً، ثم اختار الخروج من عباءة المشروع الاستعماري.

تعتمد هذه المقالة مقاربة تحليل الخطاب السياسي ضمن إطار دراسات ما بعد الاستعمار، بوصفه أداة لكشف البنى غير المرئية التي تضبط علاقة القوة بين المُستعمِر والمُستعمَر. ويقوم التحليل على تفكيك اللغة المتبادلة داخل النقاش، من حيث ما تحمله من دلالات سلطوية، ومساحات اعتراف، وحدودٍ يُعاد إنتاجها عبر الخطاب ذاته. كما تستند الورقة إلى تحليل مقارن لحالات استعمارية مشابهة، بوصفها مرجعاً لفهم انتقال الخطاب من إطار التحرّر إلى إطار بناء الدولة ما بعد الاستعمار، ولتحديد موقع الفاعلين من داخل البنية الاستعمارية في هذه المراحل المتداخلة.

في قلب النقاش الدائر حول إمكانيّات إعادة تعريف الحلّ السياسي، يظهر تباينٌ واضحٌ بين مقاربتين؛ الأولى مقاربة أخلاقية تُصرّ على أن النضال التحرري فلسطيني بالكامل. والثانية، مقاربة براغماتية تميّز بين ساحة التحرّر وساحة بناء المجتمع ما بعد الاستعماري.

ترى الأولى أنّ المعركة أخلاقية قبل كلّ شيء، تُعيد الصراع إلى جذره الأصلي بوصفه نضالاً ضدّ الظلم التاريخي الممتدّ، وتضع معيار التحرّر فوق كلّ اعتبار، كما ترى أنّ أي “نضال مشترك” لا يستند إلى مركزية فلسطينية واضحة هو تفريغ للمعنى السياسي والأخلاقي للتحرّر. والثانية تنظر إلى المسألة من منظور براغماتي يتجاوز لحظة التحرّر إلى لحظة بناء ما بعد الاستعمار، وتذهب إلى ضرورة التفكير في بنية الدولة المستقبلية، باعتبارها مشروعاً متعدّد المكوّنات سيتشارك الجميع في إدارته، ضمن شروط لا تُلغي القيادة الفلسطينية بل تُعيد توزيعها داخل نظام سياسي تعدّدي.

بين النهر والبحر يعيش اليوم واقع ديمغرافي – اجتماعي معقّد يستوجب مقاربة مختلفة

تركّز المقاربة الأولى على مركزية النضال الفلسطيني بوصفه نضالاً يملك لغته وتجربته وتاريخه وأدواته، ولا يمكن لأي طرف غير فلسطيني أن يحلّ محلّه أو يتقدّم خطواته أو يفرض عليه توقيتاً أو سقفاً سياسيّاً. بينما المقاربة الثانية، وإن اعترفت بهذه المركزية، تحاول أن تُنتج تصوّراً سياسياً لما بعد لحظة التحرير، معتبرة أنّ تفكيك البنية الاستعمارية لا يكتمل إلا برسم ملامح المجتمع اللاحق، مجتمع يُفترض أن يكون ديمقراطياً، تعددياً، ومتجاوزاً حدود الهُويّات الصلبة.

يختبر هذا السؤال الحدود النظرية والسياسية لمفهوم “المساحة الأخلاقية” التي يمنحها الفاعل لنفسه، ويبحث في مدى قدرة هذه المساحة على إنتاج دور تحرّري فعّال، وليس دوراً “لاحقاً” يبدأ فقط عند لحظة إعادة البناء.

ثم، كيف يمكن لطرفٍ من داخل المجتمع الاستعماري أن يساهم في مشروع تحريري لا يعرّفه ولا يقوده، لكنه معني (بالضرورة) بمآلاته؟ وفي هذا السياق، ظهرت بوضوح مفارقة بنيوية تحكم معظم مشاريع التحرّر في العالم؛ الالتزام الأخلاقي غير القابل للتجزئة تجاه مركزية النضال الفلسطيني، مقابل الضرورات البراغماتية لمرحلة إعادة تشكيل المجال السياسي.

وفي فحص هذا الجدل، تُطرح الأسئلة المعرفية والسياسية نفسها؛ هل يُعدّ الكلام الأخلاقي كافياً لإعادة بناء سياسة ممكنة؟ وهل يمُكن للبراغماتية أن تكتمل من دون أن تحترم حدود التجربة التحرّرية ولغتها الخاصة؟

أخلاقيات التحرّر ومركزية الذات الفلسطينية

هنا تحديداً ينشقّ النقاش إلى مسارين، الفارق بينهما ليس في المبدأ، بل في ترتيب الأولويات وامتدادها الزمني.

ينطلق المسار الأوّل من مسلمة مفادها أنّ النضال الفلسطيني ليس ساحة مفتوحة للجميع، وإنما هو مشروع تحرّر قومي يتطلّب تعريفاً دقيقاً للحدود الأخلاقية والسياسية للانخراط فيه. ويستند هذا الاتجاه إلى أدبيات دراسات الاستعمار بوصفه بنية لا حدثاً، أي باعتباره علاقة مستمرّة تنتج تفاوتاً في القوّة والقرار واللغة والتمثيل.

لا يُنظر إلى “النضال المشترك” باعتباره مساحة أخلاقية جامعة، بل باعتباره مفهوماً قد يُنتج مساواة زائفة، عبر إخفاء التراتبيات التاريخية بين الفاعلين

وبموجب هذا التعريف، يصبح الفلسطيني المركز التحليلي والسياسي لأي مشروع تحرّري، إذ لا يمكن تصوّر مساواة بين المستعمَر والمستعمِر (حتى عندما يتخلى الأخير عن منظومته) من دون الوقوع في فخّ “التسوية الأخلاقية” التي انتقدتها العديد من الحركات التحرّرية (الجزائر نموذجاً).

من هنا، لا يُنظر إلى “النضال المشترك” باعتباره مساحة أخلاقية جامعة، بل باعتباره مفهوماً قد يُنتج مساواة زائفة، عبر إخفاء التراتبيات التاريخية بين الفاعلين، لذا فإنّ الإصرار على أن يتبنى الفاعل غير الفلسطيني لغة النضال الفلسطيني ليس تعصّباً لغوياً، بل شرطاً سياسياً لضمان عدم خلق معجم بديل يمكن أن يُعيد إنتاج الهيمنة بصور مختلفة، فاللغة هنا، أداة تحديد لموقع كلّ طرف داخل المعادلة النضالية.

هذا المسار لا يرفض مشاركة غير الفلسطيني في النضال، لكنه يضع لها حدوداً واضحة؛ تكون المشاركة ضمن المشروع الفلسطيني، لا إلى جانبه كمسار مستقل، ولا فوقه كمظلّة أوسع. وبالتالي، تعدّ أي محاولة لصياغة “مشروع مشترك” يحمل في طياته إمكانية لتجاوز القيادة الفلسطينية تهديداً سياسيّاً وثقافيّاً.

براغماتيات

في مقابل ذلك، يبرز مسار آخر يرى أنّ النضال التحرّري (رغم مركزيّته) لا يمكن أن يكون وحده الأساس المنهجي لبناء دولة ما بعد الاستعمار. فبين النهر والبحر يعيش اليوم واقع ديمغرافي اجتماعي معقّد يستوجب مقاربة مختلفة. ويستند هذا الاتجاه إلى فرضية أنّ فلسطين، بعد قرن من الهندسة الاستعمارية، تحوّلت إلى بنية اجتماعية اقتصادية جديدة لا يمكن العودة بها إلى ما قبل 1948. ليس قبولاً لهذا الواقع بوصفه طبيعيّاً، بل تعاملاً معه بوصفه تحدياً سياسيّاً يجب إدراكه قبل صياغة النظام القادم.

أبرز ما يقدّمه هذا المسار أنّ هناك نضالين، لا واحداً. الأول: نضال التحرّر الفلسطيني، وهو أصيل، لا يحقّ لغير الفلسطيني قيادته. الثاني: نضال بناء دولة ما بعد الاستعمار، حيث يصبح الجميع (بما فيهم المستوطن الذي تخلّى عن الصهيونية) جزءاً من معادلة يترتّب عليهم واجبات تجاهها.

لايمكن أن يعتمد مشروع الدولة الواحدة على مركزية طرف واحد في مرحلة البناء، لأنّ الدولة ليست امتداداً آليّاً لمرحلة التحرّر، بل هي نظام معقّد يحتاج إلى تمثيل نسبي لجميع المكوّنات

وفق هذا المنظور، لا يمكن أن يعتمد مشروع الدولة الواحدة على مركزية طرف واحد في مرحلة البناء، لأنّ الدولة ليست امتداداً آليّاً لمرحلة التحرّر، بل هي نظام معقّد يحتاج إلى تمثيل نسبي لجميع المكوّنات.

اللغة السياسية ساحة معركة

في قراءة متأنّية للطرح الذي يقدّمه الفاعل المناهض من داخل البنية الاستعمارية، يبرز توترٌ خفي بين رغبته المُعلنة في احترام حدود الصراع التحرري الفلسطيني، وبين الطريقة التي يُعيد بها تعريف موقعه داخل مشهد التحرّر. من جهة، يصرّ على الاعتراف بأنّ معركة التحرّر الأولى (بما تحمله من ألم وتجربة تاريخية وذاكرة جمعية) ليست معركته، وأنّ دوره لا يمتدّ إلى تحديد أهدافها أو قيادتها أو تنظيمها، بل ينحصر في احترام مركزيتها الفلسطينية. هذا الموقف يقدَّم بوصفه أدباً سياسياً واعترافاً بحدود التجربة، وبنوع من الحساسية الأخلاقية تجاه ما لا يملكه من سردية الألم.

لكنّ هذه الرؤية، رغم قوّتها التحليلية ورصانتها، قد تُفهم على أنّها تفريغٌ ذاتي غير مقصود من المسؤولية السياسية إزاء تفكيك البنية الاستعمارية نفسها. فالامتناع عن “التدخّل” في مسار التحرّر قد يُقرأ في لحظة ما تحاشياً لدور أكثر جذرية، أو اختزالاً للواجب الأخلاقي والسياسي إلى مرحلة “ما بعد التحرّر”، أي إلى المشاركة في هندسة ما يُفترض أن يكون الدولة الواحدة بعد زوال الاستعمار.

دور الفاعل الرافض من داخل المجتمع المستعمِّر لم يكن يوماً مؤجّلاً إلى ما بعد التحرّر، بل كان جزءاً من تفكيك البنية القائمة

تتضح في الخطاب البراغماتي رؤية تفصل (مع التأكيد على الارتباط) بين ساحة التحرّر التي يقودها الفلسطينيون وحدهم وساحة بناء الدولة الواحدة التي يُفترض أن تشمل جميع السكان المستقبليين. تُظهر هذه المقاربة حساسية أخلاقية حقيقية تجاه مركزية التجربة الفلسطينية، وتحاول، في الوقت نفسه، رسم الموقع “المستقبلي” للمواطن الرافض من داخل البنية الاستعمارية.

لا تقلّل هذه الإشكالية من صدق النيّة، ولا من أهميّة الحساسية الأخلاقية في الخطاب، لكنها تُظهر الحاجة إلى خطاب أكثر وضوحاً حول مسؤولية الفاعلين الرافضين داخل المجتمع المستعمِر؛ هل يبدأ دورهم مع لحظة التحرير، أم أنهم جزء من عملية تفكيك البنية التي صنعت الاستعمار أصلاً؟ وكيف يمكن لهذا الدور أن يتجاوز اللغة الحذرة إلى مشاركة فعلية لا تتعدّى على مركزية الصراع الفلسطيني، لكنها أيضاً لا تتنصّل من مسؤولية مواجهة البنية التي ينتمون إليها؟

ويمكن قراءة هذا التوتّر بين الأخلاقي والبراغماتي في ضوء تجارب استعمارية أخرى، كما في جنوب أفريقيا حين تردّد كثير من “البيض الرافضين” في صياغة دورهم داخل النضال التحرّري، تمسّكاً بموقع المتضامن الخارجي، قبل أن تُظهر التجربة أن المسؤولية الأخلاقية لا تنفصل عن ضرورة المساهمة الفعلية في تفكيك البنية الاستعمارية. ويُلحظ من تجارب أيرلندا الشمالية والجزائر نمط مشابه، حيث لا يكفي الاعتراف بالمظلومية من خارج الحدث، بل يصبح الدور مطلوباً داخل عملية التفكيك نفسها، لا مؤجّلاً إلى مرحلة تأسيس الدولة ما بعد الاستعمار.

تداخل ساحتين

تتطلّب إعادة صياغة هذا الدور دقة لا تنفي مركزية التجربة الفلسطينية، ولا تتعدّى على قرارها وأولوياتها، لكنها أيضاً ترفض أن يبقى الرفض الداخلي استعماراً مُضادّاً بالخطاب فقط، فالمسؤولية، في حالات كهذه، لا تُقاس بحدود الأدب السياسي، بل بمدى القدرة على تحويل موقع الرفض إلى مساهمة ملموسة في كسر البنية الاستعمارية.

يعيد تأجيل الدور إلى مرحلة “ما بعد الاستعمار” إنتاج التراتبية نفسها، ويحوّل الامتناع الأخلاقي إلى إعادة تدوير للامتياز السياسي، وإن جاء بلغة مراعية وحساسة

وتفيد التجارب العالمية لحركات التحرّر بأنّ دور الفاعل الرافض من داخل المجتمع المستعمِّر لم يكن يوماً مؤجّلاً إلى ما بعد التحرّر، بل كان جزءاً من تفكيك البنية القائمة. ولذلك، يحتاج أي فصل قاطع بين الساحتين مساءلة نقدية مستمرّة. ولا يقتصر الدور المطلوب من الفاعل الرافض داخل البنية الاستعمارية على الاعتراف النظري بحدود التجربة التي لا يعيشها، ولا على الاحترام الأخلاقي لمركزية الضحية. بل يتجاوز ذلك إلى مسؤولية سياسية مباشرة في تفكيك البنية الاستعمارية التي تمنحه امتيازاته. ويقوم هذا الدور على ثلاثة مستويات: نزع شرعية البنية الاستعمارية من داخل المجتمع الذي يُنتجها. تفكيك الامتيازات التي يستمدّ منها موقعه داخل المنظومة. تحديد موقعه ضمن مشروع التحرّر بوصفه طرفاً مُشاركاً في إنهاء البنية، لا مجرّد مساهم في بناء ما بعدها… فموقع الرافض من داخل البنية الاستعمارية يظلّ محكوماً بـ”أخلاقيات الامتياز غير المرئية”، التي قد تُنتج خطاباً مُتضامناً لكنه عاجز عن الانفصال عن مصادر قوّته الأصلية.

وبهذا المعنى، يعيد تأجيل الدور إلى مرحلة “ما بعد الاستعمار” إنتاج التراتبية نفسها، ويحوّل الامتناع الأخلاقي إلى إعادة تدوير للامتياز السياسي، وإن جاء بلغة مراعية وحسّاسة.

توتّر المنهجين … توتر خلّاق

أظهر النقاش في 6 ديسمبر (2025) الحاجة إلى إطار يجمع بين العمل التحرّري والعمل السياسي – المدني من دون خلط بينهما. ويمكن لهذا الإطار أن يشبه، من حيث المبدأ، نماذج حركات التحرر التي وسّعت صفوفها من دون فقدان مركزيتها.

مشروع الدولة الواحدة مشروع سياسي معقّد يحتاج أدوات مزدوجة؛ أدوات التحرّر وأدوات البناء. وعلى الرغم من التوتّر بين المنهجين، فإن هذا التوتّر نفسه هو ما يمنح المشروع إمكانات التطوّر، شرط ضبط حدوده ومفرداته. وبهذا، تدعو الحملة إلى رؤية مركّبة تُبقي على مركزية التجربة الفلسطينية من دون تحويلها، عن غير قصد، إلى ذريعة لحيادٍ غير معلن. وتؤسّس لنموذج مشاركة جديد، يدمج بين التحرّر وإعادة البناء بطريقة متوازنة، رصينة، وفاعلة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

Share This Article