المسار : أخطر ما تواجهه القضية الفلسطينية اليوم لا يتمثل فقط في حرب الاباده والقتل والتدمير وفرض نظام الفصل العنصري ، بل في الخطاب الاعلامي للنظام الرسمي العربي الذي يؤدي وظيفة الاحتلال وهو يتحدث باسمه. هنا تحديدًا يتجلّى ما يمكن تسميته بـ الصهيونية الوظيفية: ليست صهيونية بالهوية، بل صهيونية بالنتيجة.
الصهيونية الوظيفية لا ترفع العلم الإسرائيلي، ولا تتحدث بالعبرية، ولا تعلن انتماءها لأي مشروع استيطاني. إنها تتحدث لغة “العقلانية”، و”الواقعية”، و”إنهاء الصراع”، لكنها في الجوهر تُعيد إنتاج رواية المحتل، وتمنحها شرعية أخلاقية ومعرفية داخل الفضاء العربي نفسه.
حين يُقال إن ما يجري في فلسطين “صراع بين طرفين”، فهذه ليست حيادية، بل مساواة أخلاقية زائفة بين مستعمِر يملك القوة ويصادر الأرض، وشعب واقع تحت الاحتلال. وحين يُطالب الفلسطيني دائمًا بإدانة مقاومته قبل إدانة الاحتلال، فذلك ليس دعوة للسلام، بل إعادة هندسة للوعي وترويج لثقافة الهزيمه
الوظيفية هنا تكمن في الدور: تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها التحرري، وتحويلها إلى “مشكلة إدارة نزاع”، أو “خلل ثقافي”، أو “عنف متبادل”. هذا الخطاب لا يُنهي الاحتلال، بل يجعله أقل فظاظة لغويًا، وأكثر قبولًا سياسيًا.
المفكر عبد الوهاب المسيري حذّر مبكرًا من هذا النمط، حين نبّه إلى أن الهيمنة لا تعمل فقط عبر الجيوش، بل عبر النخب، واللغة، وإعادة تعريف المفاهيم. فحين يُنزع عن إسرائيل توصيفها كـدولة استعمار استيطاني، ويُعاد تقديمها كـ”دولة طبيعية تدافع عن نفسها”، فإننا أمام اختراق معرفي خطير، لا أمام اختلاف في الرأي.
في السياق العربي، تتجلى الصهيونية الوظيفية في ثلاث دوائر واضحة:
• إعلام يُدين الضحية لأنها “لا تتقن العلاقات العامة”.
• مثقف يطالب الفلسطيني بـ”تجاوز الماضي” بينما يُشرعن نتائج النكبة.
• سياسي يساوي بين القاتل والقتيل باسم الاستقرار.
هذا الخطاب لا يجهل الحقيقة، بل يتجاهلها عمدًا. فهو يعرف أن الاحتلال هو أصل العنف، لكنه يختار تحميل الفلسطيني عبء “الأخلاق المثالية” وحده، بينما يمنح المحتل حق القتل تحت مسمى “الدفاع عن النفس”.
الأخطر من ذلك أن الصهيونية الوظيفية تُقدَّم غالبًا كخطاب شجاع، أو “خارج السائد”، أو “ناقد للذات العربية”، بينما هي في الواقع امتثال كامل لمنطق القوة الدولي، وتماهٍ مع شروط المنتصر. إنها لا تُزعج الاحتلال، بل تطمئنه: فالرواية باتت تُروى بلسان عربي.
مواجهة هذا المسار لا تكون بالتخوين، بل بالتسمية الواضحة. فالحياد في مواجهة الظلم ليس حيادًا، بل انحياز. والموضوعية التي تفصل النتيجة عن السبب ليست موضوعية، بل تزييف أخلاقي.
القضية الفلسطينية ليست عبئًا تاريخيًا ولا خطأ سياسيًا، بل قضية تحرر غير منجزة. وكل خطاب عربي لا ينطلق من هذه الحقيقة، مهما بدا أنيقًا أو عقلانيًا، هو خطاب يؤدي وظيفة الصهيونية، حتى لو أنكر ذلك.
في النهاية، المعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على الوعي . ومن يخسر الوعي ، يخسر الأرض لاحقًا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

