تشومسكي، الذي لطالما قدّم نفسه كضمير نقدي للعالم الغربي وحتى العربي، وكمثقف عضوي بالمفهوم الغرامشي يقف في صف المظلومين، يجد نفسه اليوم في قلب عاصفة أخلاقية مدويّة، ليس بسبب مشاركة مباشرة في جرائم إبستين، بل بسبب صمته، وغموض علاقته بشخصية تمثل نقيضًا لكل ما نادى به طوال عقود من الزمن. فحين تكشف الوثائق عن مراسلات منتظمة، وتوصيف لإبستين كـ»مصدر للتبادل الفكري»، وعروض لاستخدام ممتلكاته، وتحويلات مالية مشبوهة، فإننا لا نكون أمام مجرد علاقة اجتماعية عابرة، بل أمام شبكة من التواطؤ الرمزي، إن لم نقل الأخلاقي، مع منظومة فساد واستغلال بشعة.
المفارقة هنا ليست فقط في أن تشومسكي كان على علاقة بشخص مدان بجرائم جنسية مُقرفة، بل في أن هذه العلاقة تتناقض جذريا مع خطابه النقدي، الذي طالما هاجم النخب الفاسدة، وفضح تواطؤ المثقفين مع السلطة والمال. فكيف يمكن لفيلسوف يدعو إلى العدالة الاجتماعية، ويهاجم الإمبريالية السياسية والثقافية، أن يجد في إبستين «ملاذا حميميا آمنا وصديقا ذا قيمة عالية»؟ كيف يمكن لمن نظّر ضد الاستغلال، أن يصمت أمام شبكة علاقات قائمة على الاستغلال الجنسي والمالي؟ أليس هذا تناقضا صارخا بين الفكر والممارسة، بين التنظير والتحقق؟
إن هذه القضية تفتح الباب واسعا أمام سؤال جوهري: هل يمكن فصل الإنتاج المعرفي عن السياق الأخلاقي الذي يُنتج فيه؟ هل يكفي أن يكون المفكر لامعا في تحليلاته، عميقا في نقده، إذا كان في حياته الخاصة يتغاضى عن الفساد، أو يتواطأ معه، أو يستفيد منه؟ وهل يمكن للمؤسسات الأكاديمية أن تواصل تبرير صمتها أو تواطئها باسم «الحرية الأكاديمية»، أو «الاستقلال الفكري»، بينما تتلقى تمويلا من مصادر ملوثة أخلاقيا؟
إن ما تكشفه هذه الوثائق لا يقتصر على تشومسكي كشخص، بل يطال بنية أوسع من العلاقات بين النخب الفكرية والمالية. فإبستين، كما بات معروفا، لم يكن مجرد مجرم جنسي، بل كان أيضا صانع علاقات، بنى شبكة معقدة من الأكاديميين والعلماء والسياسيين والمخبرين، استخدم فيها المال والسلطة لتلميع صورته، وربما لشراء الصمت أو الاعتراف. وهنا تكمن الخطورة: حين تتحول المعرفة إلى سلعة، والفكر إلى أداة تبرير، والعلاقات الأكاديمية إلى واجهة لغسل السمعة.
في هذا السياق، لا بد من مساءلة المؤسسات الأكاديمية، التي ارتبطت بإبستين، ليس فقط عن مصادر تمويلها، بل عن آليات الرقابة الأخلاقية التي يفترض أن تحكم علاقتها بالباحثين والداعمين. فحين تُمنح الأموال بلا مساءلة، وتُبنى العلاقات على المصالح لا المبادئ، فإننا نكون أمام انهيار تدريجي للثقة في البحث العلمي، وأمام تآكل في شرعية النخبة المثقفة.
لكن الأخطر من ذلك هو ما يمكن أن نسميه «الازدواجية الأخلاقية» لدى بعض المفكرين. فحين يتحدث الفيلسوف عن العدالة وهو يتغاضى عن الظلم، وحين يهاجم السلطة وهو يتقرب من رموز الفساد، فإن خطابه يفقد مصداقيته وشرعيته، ويصبح مجرد قناع يُخفي وراءه مصالح شخصية أو طموحات نرجسية. هذه الازدواجية لا تقتصر على تشومسكي، بل هي ظاهرة متكررة في تاريخ الفكر عبر العصور، حيث نجد مفكرين عظاما دافعوا عن الحرية، وهم يمارسون الاستبداد في حياتهم الخاصة، أو نادوا بالمساواة وهم يستفيدون من امتيازات طبقية.
إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط نقدا للفكر، بل نقدا للمفكر نفسه، لموقعه في البنية الاجتماعية، لعلاقاته، لمصادر تمويله، وللأطر الأخلاقية التي يتحرك ضمنها. فالمعرفة ليست محايدة، والمفكر ليس كائنا معزولًا عن العالم، بل هو جزء من شبكة من العلاقات التي تؤثر في إنتاجه، وتحدد مدى صدقيته. وحين يفشل المفكر في أن يكون وفيا لمبادئه، فإنه لا يخون فقط جمهوره، بل يخون الفكرة ذاتها التي يدّعي الدفاع عنها. قد يقول البعض إن لا دليل على تورط تشومسكي في جرائم إبستين، وإن العلاقة قد تكون بريئة أو أكاديمية بحتة. لكن المسألة لا تتعلق فقط بالإثباتات الجنائية، بل بالمساءلة الأخلاقية. فالصمت في حضرة الفساد تواطؤ، والتقارب مع رموز الانحطاط الأخلاقي، حتى لو كان بدافع الفضول أو المصلحة، يطرح أسئلة لا يمكن تجاهلها والتغاضي عنها. وإذا كان تشومسكي قد اعتبر علاقته بإبستين «تجربة ذات قيمة كبيرة»، فإننا كمجتمع فكري وأخلاقي، من حقنا أن نسأل: ما هي هذه القيمة؟ وعلى حساب من كانت؟
إن هذه القضية تضعنا أمام مفترق طرق: إما أن نواصل تمجيد المفكرين، رغم تناقضاتهم وأعطابهم، ونفصل بين فكرهم وسلوكهم، فنُبقي على قداسة زائفة تحميهم من النقد، أو أن نعيد تعريف دور المفكر، لا كمجرد منتج للأفكار، بل كفاعل أخلاقي، مسؤول عن علاقاته، عن مواقفه، عن تمويله، وعن أثره في العالم. فالفكر الذي لا يُترجم إلى التزام، والمعرفة التي لا تُنتج ضمن إطار أخلاقي ومنظومة قيّم، تتحول إلى أداة تبرير، لا إلى وسيلة تحرّر. إننا لا نطالب بالكمال، ولا نزعم أن المفكر يجب أن يكون قديسا، لكننا نطالب بالاتساق، بالشفافية، بالمساءلة. نطالب بأن يكون من يرفع راية العدالة، عادلا في حياته. ومن يهاجم الفساد، نزيها في ممارساته. ومن يدعو إلى تحرير الإنسان، غير متواطئ أو مُصطف مع من يستعبده. فالفكر، في جوهره، ليس مجرد سرديات تُقال، بل موقف يُعاش، ومسؤولية تُحمّل، وأمانة تُؤدى.
قضية تشومسكي ليست نهاية المطاف، بل بداية لسؤال أوسع: من يراقب النخبة؟ من يحاسب المفكرين؟ من يضمن أن لا تتحول الجامعات إلى ملاذات لغسل السمعة، أو أن لا تصبح العلاقات الأكاديمية جسورا للنفوذ والفساد؟ إنها دعوة لإعادة التفكير في أخلاقيات البحث، وفي معايير الشرعية الفكرية، وفي حدود التسامح مع التناقضات.
كاتب وباحث مغربي

