مقالات

ماهر الشريف* مـا هـي احـتـمالات نـجـاح حـوار الـقـاهـرة الـفـلسـطـيـنـي الـمـقـبـل؟

وجّه الرئيس محمود عباس قبل نحو أسبوعين رسالة إلى الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية يدعوهم فيها إلى المشاركة في اجتماع يعقد في القاهرة في 30 من شهر تموز/يوليو الجاري، مشيراً في رسالته إلى أنه سيجري لاحقاً تحديد برنامج الاجتماع، الذي سينعقد في ظل هجمة صهيونية شديدة على الشعب الفلسطيني، لم تضعفها، بل ربما زادتها حدة، الأزمة السياسية والاجتماعية التي تواجهها إسرائيل بصورة لا سابق لها منذ قيامها قبل 75 عاماً.

اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في سنة 2020

كان الرئيس محمود عباس قد دعا إلى اجتماع مماثل في الثالث من شهر أيلول/سبتمبر سنة 2020، شارك فيه قياديون عن 14 فصيلاً فلسطينياً، وطنياً وإسلامياً، وذلك في ظل أوضاع سياسية تميّزت آنذاك بقيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بطرح ما عٌرف باسم خطة “صفقة القرن”، وتزايد الحديث عن مشروع الضم الإسرائيلي للضفة الغربية المحتلة، وانطلاق قطار التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. وعلى الرغم من الأجواء التصالحية التي سادت ذلك الاجتماع، والتي عكسها بيانه الختامي الذي أكد ضرورة إنهاء الانقسام، وإنجاز المصالحة، وتجسيد الشراكة الوطنية الفلسطينية، وقيام سلطة واحدة في ظل نظام سياسي ديمقراطي واحد، وأنه لا دولة في غزة ولا دولة من دون غزة، فإنه لم يسفر عن خطوات عملية، واكتفى بالإعلان عن تشكيل “لجنة من شخصيات وطنية وازنة، تحظى بثقتنا جميعا، تقدم رؤية استراتيجية لتحقيق إنهاء الانقسام والمصالحة والشراكة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني، خلال مدة لا تتجاوز خمسة أسابيع، لتقديم توصياتها للجلسة المرتقبة للمجلس المركزي الفلسطيني وبمشاركة الأمناء العامين فيها كي نضمن مشاركة الجميع تحت مظلة الوحدة الوطنية الفلسطينية”[1].

ومع أن اللجنة “الوازنة” المشار إليها لم تتشكّل، إلا أن الرئيس محمود عباس دعا إلى إجراء انتخابات عامة، حرة ومباشرة، لانتخاب أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني في 22 أيار/مايو 2021، ولانتخاب رئيس دولة فلسطين في 31 تموز/يوليو 2021، على أن تستكمل هذه الانتخابات بتشكيل المجلس الوطني الفلسطيني في 31 آب/أغسطس 2021. بيد أن تلك الانتخابات، التي خلقت أجواء من الارتياح في الساحة الفلسطينية تجلت في النسبة الكبيرة لعدد المسجلين على اللوائح الانتخابية وفي العدد الكبير للقوائم الانتخابية المشكّلة، لم تجرِ وصدر، في 29 نيسان/أبريل 2021، قرار رئاسي يعلن تأجيلها لحين التمكن من تجاوز العقبة الإسرائيلية التي حالت دون إجراء الانتخابات في مدينة القدس المحتلة[2].

مسلسل حوارات لا ينتهي من دون نتائج عملية

سيكون اجتماع القاهرة الجديد للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، في حال عقده، محطة أخرى على طريق حوار فلسطيني-فلسطيني طويل، شهد منذ سنة 2005، وخصوصاً بعد قيام حركة “حماس” باستلام السلطة بالقوة في قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007، جولات عديدة من دون أن يسفر عن نتائج عملية ملموسة، لا على صعيد إنهاء الانقسام السياسي بين حركتَي “فتح” و “حماس” والانفصال الجغرافي بين الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، ولا على صعيد الاتفاق على برنامج سياسي واحد واستراتيجية مقاومة موحدة للاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي جعل الشعب الفلسطيني، الذي تتعمق الهوة بينه وبين الفصائل الفلسطينية، لا يكترث كثيراً بعقد جولات الحوار هذه ولا يعرها الكثير من الاهتمام. من الصحيح ان بعض تلك الجولات توصل إلى اتفاقات واضحة، وخصوصاً بين طرفَي الانقسام، إلا أن بنودها بقيت حبراً على ورق ولم تُنفذ.

فحوار الجزائر الأخير، الذي انعقد ما بين 12 و 14 تشرين الأول/أكتوبر 2022 بعد جهود كبيرة بذلها الرئيس عبد المجيد تبون شخصياً على مدى أشهر عديدة لتقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، دعا في بيانه الختامي إلى ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية عبر إنهاء الانقسام، واعتماد لغة الحوار والتشاور لحل الخلافات على الساحة الفلسطينية، بهدف “انضمام الكل الوطني إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وتكريس مبدأ الشراكة السياسية بين مختلف القوى الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك عن طريق الانتخابات التي يتوجب ان تجري للمجلس الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج حيث ما أمكن”، وكذلك “الإسراع بإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، وفق القوانين المعتمدة في مدة أقصاها عام واحد”، كما شدّد على ضرورة على “تطوير دور منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيل مؤسساتها بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية”؛ بيد أن ذلك البيان بقي حبراً على ورق، بل شهدت الفترة التي أعقبت صدروه، وخصوصاً بعد المواجهة الأخيرة للعدوان الإسرائيلي على مخيم جنين، تفاقماً للخلافات السياسية، ولا سيما بين طرفَي الانقسام، قاربت الوصول إلى فتنة داخلية سارع الاحتلال إلى تغذيتها، ناهيك عن أنه لا يبدو في الأفق إمكانية لإجراء انتخابات عامة، إذ لم تدعَ إلى اليوم، وقبل أشهر قليلة من انتهاء مهلة العام التي حددها ذلك البيان، لجنة الانتخابات المركزية ولم يصدر مرسوم رئاسي بعقدها.

ولم يكن اتفاق الجزائر الاتفاق الوحيد الذي تمّ التوصل إليه، بل سبقته، في إطار جولات الحوار العديدة، اتفاقات أخرى، كان من أبرزها الاتفاق الذي توصل إليه في القاهرة، في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2017، ممثلون عن حركتَي “فتح” و”حماس”، وباركه الرئيس محمود عباس في حينه، والذي قضى بتمكين “حكومة الوفاق” الفلسطينية التي كان يترأسها الدكتور رامي الحمد الله من ممارسة مهامها والقيام بمسؤوليتها الكاملة في إدارة شؤون قطاع غزة، بحلول الأول من ديسمبر/كانون الأول 2017 كحد أقصى، على أن يدير الحرس الرئاسي معبر رفح بين مصر وقطاع غزة، وحل مشكلة ما بين 40 إلى 50 ألف موظف قامت حركة “حماس” بتوظيفهم خلال سنوات الانقسام، واحتمال ضم 3 آلاف من أفراد الأمن التابعين للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى قوات الشرطة في قطاع غزة في غضون عام[3]. كما تقرر في ذلك الاتفاق دعوة الفصائل الفلسطينية إلى حوار على أساس الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في 4 أيار/مايو 2011، وعُرف باسم “اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني”، وقضى بتشكيل حكومة وحدة وطنية من كفاءات فسطينية لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني في غضون 12 شهراً، وتشكيل لجنة أمنية عليا تتكون من ضباط مهنيين يتم اختيارهم بالتوافق، وتفعيل “الإطار القيادي المؤقت”، المشكّل من الأمناء العامين للفاصائل الفلسطينية وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، على أن تكون قرارته غير قابلة للتعطيل، وبما لا يتعارض مع صلاحية اللجنة التنفيذية للمنظمة[4].

وعلى الرغم من أن اتفاق سنة 2017 قوبل بترحاب شعبي كبير، إذ خرج آلاف الفلسطينيين إلى الشوارع في أنحاء قطاع غزة احتفالاً بتوقيعه، وأذاعت مكبرات الصوت المثبتة على السيارات الأغاني الوطنية فيما رقص الشبان وتبادلوا العناق، فإنه لم يمض سوى شهرين على إبرامه حتى أعلنت حركة “حماس” أنه آخذ بالانهيار، وأن حكومة الدكتور رامي الحمد الله “لم تدفع رواتب موظفي غزة كما وعدت”.

ما الذي حال دون نجاح الاتفاقات السابقة؟

لا بدّ من الإجابة عن هذا السؤال قبل التوقف عند فرص نجاح لقاء الأمناء العامين في أواخر هذا الشهر في القاهرة.

 

ويلاحظ، بداية، أن الملف الذي بقي عالقاً، في جميع الاتفاقات التي تم التوصل إليها، هو ملف مستقبل سلاح الجناح العسكري لحركة حماس” والذي تعتبر الحركة أنه “غير قابل للتفاوض”. وبغض النظر عن هذا الملف، رأى البعض أن هناك سببين رئيسيين حالا دون نجاح الاتفاقات السابقة وتمثّلا، من جهة، في وجود برنامجين سياسيين مختلفين، أحدهما يقوم “على قاعدة المفاوضات” والآخر يقوم “على قاعدة المقاومة”، ومن جهة أخرى، في اشتراط الرئيس محمود عباس أن توافق حركة “حماس” على شروط الرباعية الدولية بما يعني اعترافها ضمناً بإسرائيل.

بيد أن هذين السببين لم يعد لهما معنى، في الواقع، بعد توقف المفاوضات، التي راهنت عليها حركة “فتح”، بصورة نهائية، وبعد أن باتت المقاومة التي تنتهجها حركة “حماس” محكومة بالتسهيلات التي حصلت عليها لتوفير وسائل معيشة سكان قطاع غزة، وكذلك بعد أن “ماتت” الرباعية الدولية، وصار المطلب الفلسطيني العام، الذي ثبتته قرارات المجلسين المركزي والوطني، هو سحب الاعتراف بإسرائيل، بعد أن تنصلت من التزاماتها الواردة في “اتفاقيات اوسلو”.

بينما رأى البعض الآخر أن السبب الرئيسي لعدم نجاح الاتفاقات السابقة تمثّل في حرص كل طرف من طرفَي الخلاف على الحفاظ على سلطته، وهي سلطة، قائمة في الضفة الغربية في ظل الاحتلال، وقال عنها الرئيس محمود عباس في أكثر من مناسبة إنها “سلطة من دون سلطة”، وتريدها إسرائيل “مشاركاً” في ضمان أمنها وليس تعبيراً عن كيانية فلسطينية مستقلة، بينما هي سلطة، قائمة في قطاع غزة في ظل الحصار، وتدفع حركة “حماس” ثمناً سياسياً كبيراً لبقائها وتكرّس باستمرارها الانفصال الجغرافي بين الضفة والقطاع. وعليه، وفي واقع كهذا، ليس هناك، منطقياً، ما يبرر استمرار الانقسام بين طرفَي الخلاف على سلطة هذه هي حدودها.

هل يتفق المتحاورون في القاهرة ويلتزمون بتنفيذ ما يتفقون عليه؟

ذكرت سابقاً أن اجتماع القاهرة المقبل سينعقد، في حال عقده، في ظل هجمة صهيونية شديدة على الشعب الفلسطيني، تتميّز بقيام الحكومة الإسرائيلية الحالية بالإعلان صراحة عن موت “حل الدولتين”، وذلك في التصريح الذي صدر عن رئيسها بنيامين نتنياهو خلال اجتماع مغلق للجنة الشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي جرى في صباح الاثنين في 26 في حزيران/ يونيو الفائت، ودعا فيه إلى القضاء على طموح الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، مؤكداً أن إسرائيل تريد بقاء السلطة الفلسطينية، كي تشارك في “ضمان” أمن إسرائيل، كما تتميّز باندفاع هذه الحكومة على طريق توسيع الاستيطان وتشريع البؤر الاستيطانية وتسريع عمليات تهويد مدينة القدس والتحضير لضم المنطقة (ج) من الضفة الغربية إلى إسرائيل، وبتصاعد عدوانية المستوطنين وجنود الاحتلال التي تشجعها تصريحات وزراء فاعلين صاروا ينكرون علانية وجود شعب فلسطيني ويدعون إلى محو بلداته وقراه. ومن ناحية أخرى، وبينما صارت الاعتداءات الوحشية على الفلسطينيين وبلداتهم وقراهم وسقوط الشهداء في صفوفهم ظاهرة يومية، لم يعد المجتمع الدولي المشغول بقضايا أخرى، كالحرب في أوكرانيا، يكترث، كما يبدو، بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وسبل حله، مصنّفاً إياه ضمن الصراعات “منخفضة الحدة”، التي يمكن التعايش معها.

إن واقعاً كهذا يواجهه الشعب الفلسطيني، يفرض بالضرورة على الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الذين سيجتمعون في القاهرة ليس التوصل إلى اتفاق وطني فحسب بل كذلك وضع آليات تنفيذه والالتزام بذلك. فهل يمكن أن يحدث هذا؟

ربما سيكون هذا ممكناً، إذا توفرت لديهم إرادة سياسية، تتجاوز اعتبارات ومصالح خاصة نشأت خلال سنوات الانقسام الطويلة، وتنطلق من أن مخاطر كبيرة تحيق بالقضية الفلسطينية اليوم، تحمل في طياتها فرص إلحاق نكبة جديدة بالشعب الفلسطيني، ومن أن هناك هوة تتعمق بين شبان ينتمون إلى جيل فلسطيني نشأ بعد “اتفاقات أوسلو” وغير مستعد للتعايش مع واقع الاحتلال وجرائمه ولو كان ثمن ذلك التضحية بحياتهم، من جانب، وبين حركة وطنية فلسطينية لم تفلح في تجديد نفسها وما زالت أسيرة منطق أكل الدهر عليه وشرب، من جانب آخر.

ولدى توفر مثل هذه الإرادة السياسية وهذا الإدراك، لن يكون من الصعب التوصل إلى برنامج سياسي موحد يستند إلى قرارات المجلسين المركزي والوطني، والاتفاق على استراتيجية موحدة لمقاومة متعددة الأشكال تقودها قيادة مشتركة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تحدد سقفاً زمنياً محدداً لإجراء الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية وللمجلس الوطني، وبناء شراكة وطنية حقيقية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بعد إصلاحها وضم حركتَي “حماس” والجهاد الإسلامي إليها. وكخطوة أولى على هذه الطريق، لا بدّ من إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية التعبير عن الرأي السياسي في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، وتحريم هذا النوع من الاعتقال.

إنها اجتهادات ترسم سيناريو متفائلاً، لا تزكيه تجارب مريرة سابقة؛ ومع ذلك فلنتفاءل بالخير لعلنا نجده أخيراً.

[1] “البيان الختامي لإجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية: تفعيل المقاومة وإقامة دولة فلسطين على كامل الأرض المحتلة”.

[2] “محمود عباس يعلن إرجاء أول انتخابات فلسطينية منذ 15 عاماً لحين “ضمان” إجرائها في القدس الشرقية”.

[3] “فتح وحماس توقعان اتفاق المصالحة في القاهرة”، 12 اكتوبر/تشرين الأول 2017.

[4] “اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني”.

 

* باحث ومؤرخ في مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.