رغم رفض إسرائيل المعلن للصفقة الجديدة المقترحة مع “حماس”، التي نشرت صحيفة أمريكية ملامحها، تنقل وسائل إعلامية عبرية عن مصادر سياسية عليا قولها إن هناك نيّة لديها لبحث الصفقة المقترحة، غير أن حكومة الاحتلال، برئاسة نتنياهو، ستمضي في محاولاتها إطالة عمر الحرب، مدفوعةً بعدة عوامل، وليس فقط التهرّب من يوم “الحساب العسير” المتوقع.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد كشفت عن مضمون المبادرة الأمريكية- القطرية المصرية، التي ستطبّق بالتدريج في غضون 90 يوماً، وتكون نهايتها “ضبابية”، وصياغتها “التفافية”، بحيث تمكّن إسرائيل و”حماس” من التعايش معها. وتتضمن ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى يتم إعادة المحتجزين النساء والمرضى مقابل بدء الانسحاب من القطاع وبدء الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين. في المرحلة الثانية يتم تحرير الجثامين واستمرار الانسحاب من غزة. وفي الثالثة استكمال تحرير المحتجزين من الجنود مقابل بقية الأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم جنود “النخبة”، أسرى الحرب الحالية.
كما تشمل المبادرة أفقاً سياسياً على شكل تسوية إقليمية تتضمن إعمار القطاع، نوعاً من حلّ الدولتين، وتوسيع دائرة التطبيع، بما في ذلك السعودية.
يبدو أن حكومة الاحتلال تراهن على إمكانية تحقيق إنجاز في خان يونس يمكّنها من التلويح بصورة انتصار.. الأمر الذي فشلت فيه حتى الآن
بعد النشر، سارع نتنياهو لتعليل رفضه لها بالقول مجدداً إنه قال للرئيس الأمريكي جو بايدن إذا وافقنا على شروط “حماس” لصفقة جديدة لن نستطيع ضمان أمن مواطنينا، وعودة النازحين لبيوتهم. معتبراً أن الانتصار المطلق هو الذي سيكفل تدمير “حماس” واستعادة المخطوفين.
وفي التزامن، قال وزير الأمن يوآف غالانت ما قاله نتنياهو، رغم الخلاف الشخصي بينهما، إنه لا ينوي وقف القتال قريباً، زاعماً أن صور الدخان الناجم عن القصف ستبقى تغطي سماء قطاع غزة “حتى نحقق أهدافنا؛ تدمير “حماس”، واستعادة المخطوفين”.
ورغم هذه التصريحات، نقلت وسائل إعلام عبرية، كصحيفة “هآرتس”، والقناة 12، عن مصادر سياسية مسؤولة قولها إنه رغم تصريحات نتنياهو هناك إمكانية لتجديد المفاوضات في الوقت القريب، بضغط من دول الوساطة، من أجل فحص ما الذي يمكن تحقيقه.
حقيقة الموقف الإسرائيلي
من المرجّح أن تقبل “حماس” بالمبادرة عند طرحها، حتى وإن قضت بعودة السلطة الفلسطينية، وتقاسمها السلطة داخل القطاع، من خلال حكومة مشتركة، أو حكومة تكنوقراط. ومن المرجح أكثر أن يبقى نتنياهو على موقفه الرافض لصفقة تبادل الآن.
يبدو أن حكومة الاحتلال، برئاسة نتنياهو، تراهن على إمكانية تحقيق الجيش في خان يونس ما فشل به حتى الآن، مما يمكّنها التلويح بصورة انتصار تحمي ماء وجهها وتخفّف عنها وطأة عار السابع من أكتوبر.
كما أن رفض نتنياهو لصفقة كبرى الآن يرتبط برغبته بإطالة عمر ائتلافه الحاكم، فهو يدرك أن أي نهاية للحرب ستكون بداية حرب داخلية، سيطالب فيها معظم الإسرائيليين بتغيير الحكومة، والإطاحة برئيسها للأبد، فالحساب معه بات كبيراً ومفتوحاً، ومن قبل الحرب، وهو وزوجته سارة نتنياهو يدركان ذلك.
الدولة الفلسطينية
ولا يقتصر رفض نتنياهو على رفض تبادل كل الأسرى مقابل الأسرى، الذي يعني إنهاء الحرب الآن، فهو يرفض تسوية الدولتين لأسباب عقائدية وسياسية تكتيكية، ما يفسّر رفضه المثابر، منذ شهور، للتداول في سؤال “اليوم التالي”.
في تعقيبه على تقرير “وول ستريت جورنال”، قال نتنياهو، أمس، بصوته وصورته، إن تصميمه هو الذي منعَ، طيلة سنوات، قيام دولة فلسطينية كانت تشكّل تهديداً وجودياً على إسرائيل، وأضاف ما يعكس أمنيته الكبيرة الدفينة: “طالما أنا رئيس للوزراء، سأواصل التمسّك بهذا الرفض العنيد لدولة فلسطينية”.
منذ أن دخل السياسة عبّر نتنياهو عن معتقداته السياسية في كتابه الصادر قبل نحو أربعة عقود: “مكان تحت الشمس”. وفيها رفض تسوية الدولتين، وعملَ على إفشالها بالتحريض على اتفاق أوسلو، وعلى إسحق رابين. وهو متهم من قبل أوساط إسرائيلية بالمساهمة في شرعنة اغتياله بالتحريض الدموي. وفي ولايته الأولى (1999-1996)، تظاهرَ نتنياهو بمواصلة الالتزام باتفاق أوسلو، وعلى الأرض واصل قتله، وعندما عاد للحكم مجدداً، في 2009، اضطر، تحت ضغط براك أوباما، لإعلان دعمه لتسوية الدولتين ضمن “خطاب بار إيلان”، ولكنه فعل كل ما يلزم لتطبيق العكس، بالتهويد والاستيطان والتحريض على الفلسطينيين والاهتمام بتكريس انقسامهم بفصل غزة عن الضفة، ومحاولة التعامل الخفي عبر جهات ثالثة مع “حماس”، مقابل نزع شرعية عباس، وسبق أن نقل عن بعض وزرائه قولهم من هذه الناحية إن “حماس” ذخر، وإن السلطة الفلسطينية عبء. ومنذ حرب “الجرف الصامد” ساق رواية للإسرائيليين مفادها أن “حماس” مرتدعة، حتى تفجّرت في وجهه مع “طوفان الأقصى”.
فزّاعة حمراء
ليس بالعقيدة وحدها يحيا نتنياهو، فاليوم، وبعد السابع من أكتوبر، تسبّب الفشل الإستراتيجي الذريع (لا الفشل الاستخباراتي فحسب) بتحطيم شعبيته للحضيض، كما تدلل استطلاعات رأي متتالية، آخرها للقناة 13 العبرية، أمس.
نتنياهو برفضه “المطنطن” المتكرّر يومياً للدولة الفلسطينية، يحاول استعادة خائبي الأمل من مصوّتيه القدامى، مستغلاً شهوة الانتقام المفتوحة لدى الإسرائيليين
وهو، برفضه “المطنطن” المتكرّر يومياً للدولة الفلسطينية، يحاول استعادة خائبي الأمل من مصوّتيه القدامى، مستغلاً شهوة الانتقام المفتوحة لدى الإسرائيليين ممن يعتبرون الدولة الفلسطينية في حالتهم النازفة الراهنة هدية للشعب الفلسطيني، رغم أنها فعلياً مصلحة إسرائيلية.
بخلاف رؤساء إسرائيليين في الماضي، خاصة من جيل المؤسسين، نتنياهو من نوع القادة الصهاينة الجدد المستعدين للعبث بقدس أقداس إسرائيل خدمة لمصالحه، كما تجلى في كثير من الحوادث حتى الآن، منها قضية موافقته المريبة على بيع ألمانيا غواصات للجيش المصري، في 2013، مقابل تعيين ابن عمه المحامي دافيد شومرون محامياً للصفقة مقابل 13 مليون يورو أجرة له، وحسب شكوك إسرائيلية تقاسمها معه تحت الطاولة.
رغم مرور وقت طويل بعد السابع من أكتوبر، ما زال معظم الإسرائيليين يبحثون عن المزيد من الانتقام وكيّ وعي الفلسطينيين، ويتصرّفون بشكل انفعالي مدفوعين بغرائزهم لا بعقلهم، وهذا ما يدركه نتنياهو جيداً، ويواظب على استثمار هذا الرفض الواسع للدولة الفلسطينية، حتى وإن كانت منزوعة السلاح ومحاصرة وسيادتها منقوصة. نتنياهو يستخدم “الدولة الفلسطينية” المقترحة من بايدن الآن فزّاعة لترهيب الإسرائيليين، والمساس بخصومه الحزبيين، خاصة بيني غانتس، ولدجاجة إسرائيلية يستفيد هو (وبايدن أيضاً) من بيضها السياسي- الانتخابي، وهذا يفسر تتمة تصريحاته المذكورة أمس: “إذا كان لأحد آخر موقفٌ مختلف عن رفضي للدولة الفلسطينية فليبدي قيادية ويكشف عن موقفه باستقامة للإسرائيليين”.
في الواقع، يسعى نتنياهو لصرف أنظار الإسرائيليين عن فشل حكومته الذريع، قبيل، وخلال الحرب، في الجبهتين الداخلية والخارجية، وعن أسئلة صعبة يخشاها، وذلك من خلال اجترار رفض الدولة الفلسطينية بما يلبّي شهوة الانتقام لديهم، ويحفّزهم للانشغال بهذا “المنديل الأحمر” الآن. وثمة حساب مخفي آخر يتعلق بالمحتجزين في غزة، ففي الأيام الأولى تجاهلهم عندما أعلن الحرب معلناً أن الهدف تدمير “حماس”، ولاحقاً، وبضغط الرأي العام، أضاف استعادة المخطوفين كهدف ثان. وهو اليوم يدرك أن تحقيقه سيضطره لوقف الحرب في ظل موقف “حماس” الصلب، مثلما يخشى حتى الموت من صور آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين سيغادرون السجون وهم يرفعون أصابعهم في صورة انتصار. مثل هذه الصورة من شأنها أن تفقِد نتنياهو وعيه، وهو الذي طالما طرح نفسه كـ “سيد الأمن”، و “تشرتشل إسرائيل”، لأنه يدرك مفاعيل وتبعات مثل هذه الصورة في وعي الإسرائيليين، والفلسطينيين أيضاً. هو يدرك أن هذه ستكون هزة أرضية في الوعي تذكّر بهزة السابع من أكتوبر مجدداً.
جعجعة بلا طحين
كذلك يبدو طرح الدولة الفلسطينية من قبل الولايات المتحدة مراراً وتكراراً، منذ شنّ الحرب على غزة، من منابع تكتيكية أكثر مما ينمّ عن قرار حقيقي، وهو شعار كان يهدف لترميم صورة أمريكا المنحازة لإسرائيل، والمساندة لها في مذبحتها الكبرى المتواصلة في غزة، محاولة امتصاص غضب العرب والمسلمين وأنصارهم واستخدام الدولة الفلسطينية شعاراً في الحملة الانتخابية العرجاء. لو كانت الإدارة الأمريكية معنية وجادة بتسوية الدولتين لفعلت ذلك بضغط فعّال، لكنّها اكتفت كما اكتفت سابقاتها بالثرثرة والجعجعة.
في أيلول 1973، زار جو بايدن مدينة الناصرة، داخل أراضي 48، بصفته سيناتوراً، وفيها التقى بنائب عربي لوزير الصحة الإسرائيلي يدعى عبد العزيز الزعبي، وخلال لقائهما عبّر بايدن عن قلقه من ممارسات اليمين في إسرائيل، ومن عدم تسوية الصراع، كما جاء وقتها في صحف عبرية. منذ 1973، سرت مياه كثيرة جداً في نهر الأردن، وما زال نتنياهو وغيره يتحدثون عن سيطرة إسرائيلية من البحر للنهر، وأمريكا تواصل تعاملها مع البنت المدلّلة بكثير من التعاطف والدعم، وبعض التحفظات والانتقادات الفارغة والضرائب الشفوية، وآخرها “الدولة الفلسطينية”. هذا السجال العلني بين نتنياهو وبايدن حول الدولة الفلسطينية يصبّ الماء على طاحونتيهما السياسية، أما الفلسطينيون فيسمعون حتى الآن جعجعة بلا طحين.
الضغوط الداخلية
على خلفية الموجود والمفقود، لن تقوى الضغوط الخارجية على ليّ ذراع حكومة الاحتلال، ووقف الضغط على زناد الحرب، إلا إذا صدر ربما أمر احترازي بذلك من محكمة العدل في هاغ. على خلفية عوامل كثيرة، ترتبط بفقدان ثقة معظم الإسرائيليين بحكومتهم، في ظل الكشف عن فضائحها وإخفاقاتها وخلط حساباتها وانقسامات مجلس الحرب وتزايد الشكوك حول أهليتها في إدارة الحرب وفي قدرة الجيش على حسمها لصالحه، مع استمرار الخسائر البشرية والاقتصادية، علاوة على تصاعد تضامن الإسرائيليين ووسائل الإعلام العبرية مع عائلات المحتجزين، كل ذلك من شأنه أن يدفع غانتس وايزنكوت للخروج من الحكومة، وهذا إيذان بموجة غضب واحتجاج واسعة بما يكفي من أجل وقف النزيف المتبادل داخل القطاع. وربما يتم ذلك بضوء أخضر أمريكي، فبايدن أيضاً ينزف من ناحية تبخر ماء وجهه وتراجع احتمالات انتخابه، خاصة وهو يرى نتنياهو يؤدي لتدمير بايدن، كما جاء في عنوان المعلق الإسرائيلي البارز ناحوم برنياع، الذي يرى أن المبادرة الأمريكية مغامرةٌ كبيرة، وتنطوي على مشاكل كبيرة لكنها تحمل أملاً. وعلى خلفية ذلك، ومن أجل التأثير على الإسرائيليين، نشرت الاستخبارات الأمريكية تقديراتها بأن إسرائيل نجحت في تدمير 30-20% فقط من قوة “حماس”، التي تمتلك ما يكفي من سلاح وذخائر للقتال لعدة أشهر على الأقل، وهذه رسالة للوعي الإسرائيلي أن حسم المواجهة بالقوة بعيدة المنال.