تاريخ الاستعمار الأوروبي: دم كثير على أياديهم البيضاء

في الوقت الذي طالب فيه مسؤولون إسرائيليون بإلقاء القنابل الذرية على غزة، تختار الحكومة الفرنسية أن تختبئ خلف “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها” وتختار الحكومة الألمانية، الوقوف إلى جانب إسرائيل في محكمة العدل الدولية…

تاريخ الاستعمار الأوروبي: دم كثير على الأيادي البيضاء...

من موقع بناء يشرف عليه الألمان للسكّة الحديد في تنزانيا (أرشيفيّة)

كان تاريخ أوروبا دمويًّا إلى حدّ بعيد، سواء في القارّة نفسها، أو أينما حطّ المستعمرون الأوروبيّون رحالهم، ويأتي تعريف “الاستعمار الغربيّ”، من أنّ القارّة الأوروبيّة كانت هي الغرب الوحيد، قبل اكتشاف القارّة الجديدة، أميركا. وحسب المؤرخين، بدأ الاستعمار الأوروبي الحديث حوالي العام 1500 بعد اكتشاف القارة الجديدة، فتوسعت عدة دول أوروبية واحتلت واستغلت واستنزفت عدة دول لمصالحها، ومن تلك الدول فرنسا، بلجيكا، ألمانيا، إسبانيا، البرتغال وإيطاليا، ونتج عن ذلك قمع واستعباد، وتاريخ طويل من العبودية ونهب للثروات وقتل متعمد، والذي يصنفه بعض الخبراء بالـ “مذابح الجماعية”. وعلى الرغم من صعوبة إثبات وصم “المذبحة الجماعية” على بعض الحوادث التاريخية، إلا أن بعض الدول اعترفت واعتذرت عن تلك الأحداث، مثل ألمانيا، بعد تاريخ طويل من الإنكار.

يناقش أستاذ التاريخ الفرنسي، بودا ايتمد، مؤلف كتاب “جرائم وتعويضات واجهها الغرب لتاريخه الاستعماري”، أن الاستعمار الأوروبي أثر على 70% من سكان الكرة الأرضية، إما كمواطن في الدول المستعمِرة، أو الدول المستعمَرة. بالنسبة للكاتب، فإن ضحايا الاستعمار وأحفادهم لديهم الحق للمطالبة بتعويضات واعتذارات من القوى الأوروبية للإساءات والجرائم التي ارتكبت بحقهم خلال 500 سنة من الاستعمار، بدءًا من الاكتشاف للأميركيتين، حتى الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، ارتكب خلالها الاستعمار جرائم عديدة ضد الإنسانية مثل العبودية والإعدامات والنفي والجرائم الثقافية والقتل والإبادات الجماعية التي رافقت الاستعمار في أفريقيا، آسيا، الأميركيتين ومناطق أخرى في العالم.

وعلى الرغم من التعريف الحديث لمفهوم الإبادة الجماعية بعد الحرب العالمية الثانية، واستحداث محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية، إلا أن تلك الإبادات حاضرة في التاريخ الأوروبي بشواهد وأدلة كثيرة.

إشكالية التعريف

حسب تعريف الأمم المتحدة لمصطلح الإبادة الجماعية فهي: سياسة قتل جماعي منظمة، تقوم بها حكومة أو جهة معينة ضد طائفة أو جماعة من الناس على أساس ديني أو عرقي أو قومي أو سياسي. في البداية جاء المصطلح لوصف الأفعال النازية ضد اليهود في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية. الإبادة في هذا السياق هي القتل المتعمد الجماعي لمجموعة كاملة وتعد من الجرائم ضد الإنسانية بالطبع. أما الإبادة الجماعية فهي الأفعال، والقتل خصوصًا، لمجموعة كبيرة من الناس على أساس ديني أو عرقي أو طائفي ويمكن حصر عناصرها حسب المادة الثانية من اتفاقية 1948.

ظهر المصطلح في البداية على يد المحامي اليهودي رفائيل ليكمان في كتابه “مفهوم الإبادة الجماعية” الذي يتحدث عن تجربة الكاتب خلال الحرب العالمية الثانية في ألمانيا النازية. يتكون المصطلح من جزأين، الجزء الأول كلمة “جينو” Geno في اليونانية وتعني عرقًا أو قبيلة والجزء الثاني “سايد” Cide وتعني في اللاتينية القتل.

في ذلك الوقت صاغ ليكمان المصطلح للإعداد للمحاكمة التاريخية للقادة النازيين المعروفة بمحاكمة “نورمبيرغ” لجرائمهم في الحرب العالمية الثانية، كما يرى بعض الخبراء. وتمت محاكمة قادة الرايخ الألماني في مدينة نورمبيرج الألمانية في العام 1945 وانتهت بصدور أحكام ضد القادة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واشتملت الاتهامات حينها على كلمة الإبادة الجماعية لوصف الأفعال التي حدثت.

في العام 1948، وبعد جهود حثيثة من ليكمان، أقرت الأمم المتحدة الاتفاقية التي تقضي بمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها في كانون الأول/ديسمبر 1948، واعتبرت الاتفاقية أن الإبادة الجماعية جريمة دولية تتعهد الدول الموقعة عليها بمنعها والمعاقبة عليها.

الاتفاقية لم تسلم من النقد والنقاش حولها، رأى بعض القانونيين أن هنالك إشكالات تتعلق بالتعريف منها، أولًا، أن التعريف دقيق جدًا ومحدود بأنه ضد الناس، ولا يشمل الأفعال ضد البيئة التي يعتمد عليها الناس للنجاة. ثانيًا، إشكالية إثبات “النية” صعب جدًا، بل ومستحيل في بعض الحالات. ثالثًا، تردد بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باتهام أعضاء آخرين. ورابعًا، إشكالية تحديد عدد القتلى الذي يجعل الحدث يصنف على أنه جريمة إبادة جماعية.

حالات الإدانة عبر التاريخ

على الرغم من التاريخ الاستعماري الدموي الأوروبي، والحروب الطاحنة الكثيرة التي خلفت الآلاف وأحيانًا مئات الآلاف من القتلى المدنيين واغتصاب النساء وقتل الأطفال، تعد حالات الإدانة بتهمة الإبادة الجماعية قليلة عبر التاريخ. وعلى الرغم من أن بعض القضايا لم يتم البت بها ولا يزال النظر بها قائمًا من الجهات المختصة، إلا أن هناك 4 حالات صدر فيها أحكام.

الهولوكوست

بعد أول محاكمة، حين اتفق الحلفاء المنتصرون حينها على إقامة تلك المحاكمات، صدر 12 حكمًا بالإعدام و 3 أحكام بالسجن المؤبد و4 أحكام بالسجن بين 10 إلى 20 عامًا على القادة النازيين في ذلك الوقت، وتم الإعدام شنقًا بحق المتهمين. عقدت المحاكمات في مدينة نورمبيرج المشهورة بالمؤتمرات النازية حيث طبقت قوانين عنصرية ضد اليهود. وحسب تقارير الأمم المتحدة فقد “أودى الهولوكوست بحياة 4.8 مليون شخص”، بينما يزعم متحف ذكرى الهولوكوست أن “عدد الضحايا بلغ 6 ملايين”.

البوسنة والهرسك

مقابر جماعيّة في البوسنة والهرسك (أرشيفيّة – getty)

قاد الرئيس الصربي آنذاك، سلوبودان ميلوسوفيتش، هجومًا كبيرًا على البوسنة بعد إعلان استقلالها، أسفرت الحرب عن قتل قرابة 100 ألف إنسان غالبيتهم من المسلمين، وشهدت عمليات إعدام جماعية للرجال وعمليات اغتصاب جماعية للنساء في عام 1995 في بلدة سريبرينيتسا في شرق البلاد حسب الأمم المتحدة. وفي أيار/مايو 1993 وبينما كان الصراع لا يزال مستمرًا، أنشأت الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في هولندا لمحاكمة مرتكبي الجرائم. وتعد تلك المحكمة الثانية دوليًا بعد المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأول محكمة تنظر في جريمة الإبادة الجماعية بصفة محددة، وكانت تلك المحكمة منعقدة في وقت النزاع لمحاولة توفير قدر من الردع. وجه الاتهام إلى 161 شخصًا من الصرب والكروات، وكان أبرزهم سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس صربيا في ذلك الحين ورادوفان كاراديتش رئيس جمهورية صرب البوسنة وراتكو ملاديتش قائد جيش جمهورية صرب البوسنة السابق. في شباط/فبراير 2007 قضت المحكمة بالحكم النهائي باعتبار ما حدث في سريبرينيتسا بأنه “إبادة جماعية”.

إبادة التوتسي في رواندا

يشكل عرق التوتسي 14% من السكان في رواندا، بينما يشكل عرق الهوتو أكثر من 80% من السكان. الرئيس الرواندي الذي ينتمي إلى عرق الهوتو قتل في حادثة الهجوم الصاروخي على طائرته بالقرب من المطار، توفي الرئيس على إثرها برفقة الرئيس رئيس بوروندي والكثير من كبار الموظفين. لم يتم تحديد من قام بالهجوم ولكن ذلك كان القطعة الأخيرة التي أدت إلى حرب طاحنة راح ضحيتها الآلاف.

في السنوات التي سبقت المذبحة، ساء الوضع الاقتصادي، وبدأ الرئيس بفقدان شعبيته. في ذلك الوقت كان اللاجئون التوتسي في أوغندا وبدعم من الهوتو المعتدلين يشكلون الجبهة الوطنية الرواندية، وكان هدفهم الإطاحة بالرئيس جوفينال هابياريمانا لتأمين حقهم في العودة إلى بلادهم. استغل هابياريمانا هذا التهديد لإعادة المنشقين إلى صفه، واتهم التوتسي في رواندا بأنهم يتعاونون مع الجبهة الوطنية الرواندية. وبالرغم من اتفاق السلام الذي جاء بعد عدة أشهر من المفاوضات، إلا أن الحال لم يتغير كثيرًا، ولم تتوقف الاضطرابات. ومن ثاء جاء حادث إسقاط الطائرة.

بدأ بعدها مباشرة الحرس الرئاسي في حملة انتقامية أدت إلى مقتل قادة المعارضة وتحول الأمر بعدها مباشرة إلى قتل التوتسي والهوتو المعتدلين. وفي غضون ساعات تم إرسال الجنود إلى جميع أنحاء البلاد لتبدأ موجة كبيرة من المذابح. انفجرت الفوضى التي بدأها عسكريون وسياسيون ورجال أعمال، وانضم آخرون إلى الحملة، وتسملت الميليشيات قوائم بمعارضي الحكومة، وانتهى الأمر بمقتلهم جميعًا مع عائلاتهم، حتى وصل الأمر إلى قتل جيرانهم.

في ذلك الوقت، كانت بطاقات الهوية، التي أصدرها الاستعمار البلجيكي قبل الاستقلال لا تزال موجودة. تلك الهويات صنفت الهوتو وهم الأكثرية على أنهم عمال في القطاع الزراعي، وصنفت أقلية التوتسي على أنها تشغل الوظائف الحكومية. تلك الهويات التي تعد من بقايا الاستعمار كانت الفيصل بين من يعيش، ومن يموت في ذلك الحين. أقامت الميليشيات حواجز على الطرق حيث تم ذبح التوتسي بناء على “الهوية” وتم ذبحهم في المناجل التي يحتفظ بها معظم الروانديين في منازلهم.

عمليات القتل الموحشة صدمت المجتمع الدولي، إذ يقدر أن أكثر من مليون شخص لقوا حتفهم في الحرب الطاحنة، وأغلبهم من التوتسي. واختطفت لنساء وتم الاحتفاظ بهن كعبيد لغاية الجنس!

في كانون الثاني/نوفمبر 1994 أنشأ مجلس الأمن الدولي المحكمة الجنائية لرواندا، والتي يقع مقرها حاليًا في تنزانيا. بدأت التحقيقات في العام 1995، واختصت بالنظر في انتهاكات حقوق الإنسان الدولية في رواندا خلال الفترة بين تشرين الثاني/يناير وتشرين الأول/ديسمبر من نفس العام. وللمحكمة القدرة على محاكمة أعضاء الحكومة الكبار والقوات المسلحة، حتى الذين من الممكن أنهم هربوا إلى خارج البلاد حسب الأمم المتحدة.

وفي أيلول/سبتمبر 1998، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا حكمًا بإدانة جان بول أكاسيو بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية عن الأعمال التي شارك فيها، وأشرف عليها كعمدة لبلدة تابا في رواندا. وكانت أيضًا أول محكمة دولية تدين أحد المشتبه فيهم بارتكاب تهمة الاغتصاب باعتباره جريمة ضد الإنسانية، كما أنها لاحقت 3 من أصحاب وسائل الإعلام بتهمة استخدام وسائل الإعلام الخاصة بهم للتحريض على الكراهية العرقية والقتل الجماعي. وفي نيسان/ أبريل 2007، أصدرت 27 حكمًا على 33 متهمًا.

كمبوديا والخمير الحمر

تعد محاكمات كمبوديا الحكم الأخير الصادر بتهمة الإبادة الجماعية. إذ يعتقد أن حوالي مليوني شخص قتلوا من خلال التجويع والتعذيب والعمل القسري والإعدامات الجماعية في فترة حكم “الخمير الحمر”، التي امتدت بين 1975 و1979 تم اضطهاد الأقلية العرقية الفيتنامية خلالها، واعتبرها الخمير الحمر أعداء وخونة من الداخل. المحكمة المعروفة رسميًا باسم “”الدوائر الاستثنائية في المحاكم الكمبودية” تشكلت عام 20033 بموجب اتفاق بين الأمم المتحدة وكمبوديا لمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات التي ارتكبت خلال فترة الخمير الحمر.

جماجم وعظام من مقبرة جماعيّة لضحايا الخمير الحمر في تونلي باتي (أرشيفيّة – getty)

انتهى الأمر في تشرين الأول/ديسمبر 2022، حين أعلنت المحكمة الخاصة المدعومة من الأمم المتحدة قرارها النهائي، وثبت حكم السجن مدى الحياة الصادر بحق آخر شخصية بارزة في النظام على قيد الحياة.

كما ثبتت المحكمة إدانات بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية صدرت في 2018 بحق المسؤول السابق الذي يبلغ 92 عامًا حاليًا، ومنها القتل والتعذيب والاستعباد، على قاعدة “العمل الإجرامي المشترك”، حتى وإن لم يكن شارك شخصيًا في جميع تلك الجرائم. وأيدت الحكم السابق الذي اعتبر أن خيو سامفان، رئيس النظام الديكتاتوري الذي قتل ربع سكان البلاد في السبعينات، لديه “معرفة آنية مباشرة بارتكاب جرائم، وشارك النية في ارتكابها”، بحسب موقع الأمم المتحدة.

وأدين ثلاثة من زعماء الخمير الحمر، بدءًا بالرفيق دوتش الذي كان يدير مركزًا للتعذيب سيئ السمعة في العاصمة بنوم بنه، حيث لقي جميع نزلاء المركز البالغ عددهم 20 ألف سجين حتفهم باستثناء 12 شخصًا.

وفي القضية المرفوعة بحق خيو سامفان في 2018، حكم على نوون شيا المعروف بالأخ رقم 2″ في التسلسل الهرمي للحزب الشيوعي للنظام، بالسجن مدى الحياة بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم أخرى، بما في ذلك التزويج القسري والاغتصاب. وتوفي شيا في السجن عام 2019. وقضت المحكمة بالسجن مدى الحياة على الرجلين في 2014 بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في قضية أخرى تتعلق بالإخلاء القسري العنيف لبنوم بنه في أبريل 1975، عندما دفعت قوات الخمير الحمر سكان العاصمة إلى معسكرات عمل ريفية. والمتهم الآخر الذي دانته المحكمة الخاصة هو كاينج جويك إيقاف المعروف بـ”دوتش” مدير سجن إس-21. وفي ظل حكمهم، مات ما يقدر بنحو 1.7 مليون كمبودي بسبب الإعدام والتعذيب والمجاعة والإهمال، تمثلت في أمراض تركت دون علاج، في سعيهم لتحويل الدولة التي مزقتها الحرب إلى “مدينة فاضلة ريفية”.

ورحب الناجون بالحكم، الذي كان آخر حكم تنطق به المحكمة التي ضمت قضاة كمبوديين ودوليين، وأنهى أكثر من 13 عامًا من جلسات الاستماع التي عقدتها المحكمة المختلطة، والتي بلغت كلفتها أكثر من 330 مليون دولار، ولم تحاكم سوى خمسة مسؤولين من الخمير الحمر، توفي اثنان منهم خلال إجراءات المحاكمة. ولم يمثل الأمين العام للحزب الشيوعي بول بوت المعروف أيضًا باسم “الأخ رقم واحد” وكان الحاكم الفعلي لكمبوديا.

ولا تزال هناك قضايا منظورة أمام القضاء، ومنها نزاع دارفور. إذ أصبح الإقليم ساحة لحرب مروعة في عام 2003 بين متمردي الأقلية العرقية الأفريقية وحكومة الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وأوقع النزاع حوالي 300 ألف ضحية وشرد 2.5 مليون شخص حسب الأمم المتحدة.

ومن القضايا الأخرى التي لم يتم النظر بها في المحكمة قضية “الأرمن”. إذ بدأ العنف ضد الأرمن في فترة سقوط الإمبراطورية العثمانية التي امتدت على مساحات واسعة منها المساحات الأرمنية. ومنذ عام 1915 بدأ العثمانيون المتحالفون مع ألمانيا القيصرية بمنع الأرمن التحالف مع روسيا القيصرية، وأصدروا بحقهم قرارات ترحيل جماعي. وعلى إثر ذلك لقي 1.5 ملايين أرمني حتفهم بسبب الجوع أو القتل من الجنود العثمانيين والشرطة أو الإجلاء القسري باتجاه الجنوب حتى سوريا ولبنان والأردن. يعد الناجون قرابة 500 ألف أرمني موزعين على سوريا ولبنان والأردن والولايات المتحدة وروسيا لتكون أبرز تجليات الشتات في بداية القرن الماضي. والتحقت الولايات المتحدة مؤخرًا تحت إدارة الرئيس جو بايدن بركب الدول التي اعترفت بالإبادة الجماعية للأرمن. الدول الـ 29 تضم دولًا مثل لبنان والأرجنتين وفرنسا والدنمارك. وردت تركيا على الاعتراف الأمريكي الأخير لسان المتحدث الرئاسي التركي بأنه “أمر شائن لا تدعمه حقيقة تاريخية” مؤكدًا الرفض التركي لاعتبار ما حدث إبادة جماعية.

ولا يذكر الموقع الإلكتروني لـ”مكتب الأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية والمسؤولية عن الحماية”، في وصفه لأصل مصطلح الإبادة الجماعية في قضية أرمينيا، وتجنب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، التطرق لهذه القضية.

الهولوكوست لم يكن أول إبادة ألمانية أو أوروبية

تعد الإبادة الجماعية بحق شعب الهيريرو بين عامي 1904 و 1908، والتي يسمى تسمى حاليًّا ناميبيا أول حالة إبادة جماعية في القرن العشرين، فبعد أن هاجر رعاة الهيريرو إلى المنطقة في القرنين 17 و18 بعد ترسيخ الاستعمار الألماني للمنطقة، تم ضم أراضي الهيريرو إلى الأراضي الألمانية عام 1885، وقتلت القوات الألمانية حينها ما بين 24 إلى 100 ألف خلال المذبحة المعروفة بهيريرو وناما. حينها، ارتكبت ألمانيا القيصرية في جنوب غرب أفريقيا الألمانية آنذاك، ناميبيا حاليًا، مذبحة لا تزال ذكراها في ذهن أحفادها حتى اليوم.

لم تعرض القضية على أية محكمة، ولكن بعد سنوات من التفاوض، اعترفت برلين في عام 2021 بارتكاب جنودها الإبادة الجماعية الأولى في القرن العشرين، وأقرت الحكومة الألمانية بإبادة شعب هيريرو وناما، بعد تمرد قتل خلاله 100 مستوطن لحرمان الهيريرو من أراضيهم وماشيتهم، لتلقي برلين في ذلك الوقت بمسؤولية إخماد التمرد على عاتق الجنرال لوثار فون تروتا الذي أمر بإبادة المتمردين.

وبعد سنة واحدة تمرد شعب ناما، فلقوا نفس المصير الدموي، واستمرت على إثرها إبادات ومجازر قتل على إثرها وشرد الملايين. نتج عن تلك المجازر مقتل ما لا يقل عن 60 ألفًا من شعب هيريرو، ويشير المؤرخون إلى مقتل 80 ألفًا من أصل 100 ألف، وحوالي 10 آلاف من أصل 20 ألفًا من أبناء شعب ناما، استخدمت خلالها ألمانيا الاستعمارية تقنيات إبادة جماعية مثل ارتكاب المجازر الجماعية والنفي إلى الصحراء حيث مات آلاف الرجال والنساء والأطفال من العطش، بالإضافة إلى إقامة معسكرات اعتقال أشهرها معسكر “جزيرة القرش”.

كاعتراف وتعويض منها عن هذه المجازر، ستدعم ألمانيا “إعادة الإعمار والتنمية” في مشاريع تتعلق بإصلاحات الأراضي والزراعة والبنية التحتية الزراعية والإمدادات بالمياه والتعليم المهني في ناميبيا، عبر برنامج مالي قيمته 1,1 مليار يورو. وسيتم سداد هذا المبلغ، وفق بنود الاتفاق، على مدى 30 عامًا، على أن يستفيد منه في المقام الأول أحفاد هذين الشعبين.

من جهتها، اعترفت فرنسا بمسؤوليتها على لسان رئيسها ماكرون “بمسؤولية” فرنسا بشأن مجازر التوتسي في رواندا عام 1994. ففي العام 2021 وعبر خطاب عند النصب التذكاري لضحايا تلك الإبادة قال الرئيس الفرنسي إن فرنسا “لم تكن متواطئة” لكنها “فضلت الصمت على النظر في الحقيقة”. وقالت حكومة رواندا أن فرنسا كانت على علم بالتحضير لإبادة جماعية، وتتحمل مسؤولية كبيرة عن السماح بحدوثها، وهو الشيء الذي لم ينفه تقرير تابع للجنة تحقيق فرنسية معتبرًا أن “موقفًا استعماريًا أعمى المسؤولين الفرنسيين”، وإن الحكومة الفرنسية تتحمل مسؤولية “كبيرة وجسيمة” وفي التقرير التابع للجنة التحقيق أقر أن فرنسا قدمت الأسلحة والدعم اللوجستي للحكومة الرواندية التي كانت تمثل الأغلبية من قبيلة الهوتو؛ بل كانت متحالفة معها منذ سنة 1990، وأنها سهلت هروب المجرمين من حكومة الهوتو، وقامت بتأمينها في معسكرات آمنة.

ولكن فرنسا غير متهمة بالضلوع في جرائم إبادة في رواندا، فهي قد “رعت” النظام فقط، ولذلك ترى الحكومة الفرنسية أنها غير مجبرة على الاعتذار والتعويض، تمامًا مثلما لم تجد ما يستدعي اعتذارها عن حربها في الجزائر، وتنفيذها في عام 1945، إحدى أبشع الجرائم في العالم، بإعدامها حوالي 45 ألف جزائري خلال يوم واحد، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.

يعيد التاريخ نفسه، ولم تتعلم القوى الاستعمارية الدرس

يتفق المحللون على أهمية السابع من أكتوبر كمنعطف تاريخي ونقطة لا عودة، فما بعده لا يشبه ما قبله. حتى اللحظة ارتفع عدد القتلى الفلسطينيين والجرحى الفلسطينيّين إلى أكثر من 140 ألف أغلبهم من النساء والأطفال، بالإضافة إلى الدمار الهائل الذي طال كل أنواع البنية في قطاع غزة، التحتية وغيرها.

تقدّمت جنوب أفريقيا بدعوى قضائية ضد إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية لتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة. وقدمت حكومة جنوب أفريقيا القضية ضد إسرائيل واتّهمتها فيها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة. واستندت الدعوى على الأدلة بقتل إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين بأعداد كبيرة وتدمير منازلهم وطردهم وتشريدهم، إضافة إلى فرض الحصار على الغذاء والماء والمساعدات الطبية في القطاع، وتدمير المرفقات الصحية الأساسية. إسرائيل من جانبها ادّعت أنّ دعوى جنوب أفريقيا بالسخيفة واعتبرتها “افتراء”، وصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إن “تهمة الإبادة الجماعية الموجهة لإسرائيل في محكمة العدل الدولية مشينة وعبار عن تمييز ضدها”.

بعد تقديم الدعوى رسميًا في كانون الأول/ديسمبر 2023، تقدمت عدة دول للتدخل في القضية باستخدام بند في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يسمح لأطراف ثالثة بالانضمام إلى الإجراءات. نيكاراجوا كانت أول دولة تطلب الانضمام كطرف في القضية، ثم تلتها كل من كولومبيا وليبيا، وفي أواخر مايو/أيار الماضي، تقدمت المكسيك أيضًا بطلب مماثل، وانضمت إليها تشيلي مطلع يوليو/تموز الماضي، ثم لحقت كوبا وإسبانيا بالدول السابقة في أواخر الشهر ذاته. مؤخرًا، وفي 7 أغسطس/آب الماضي، انضمت تركيا رسميًا إلى الدعوى، في حين أبدت جزر المالديف ومصر عزمهما على الانضمام إلى القضية أيضًا، إضافة إلى أيرلندا وبلجيكا.

العدل الدولية قد أصدرت أواخر يناير/كانون الثاني 2024 حكمًا أوليًا في القضية، إذ أمرت إسرائيل باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع الأعمال التي يمكن أن تندرج تحت اتفاقية الإبادة الجماعية. كما أمرت تل أبيب بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، والحفاظ على الأدلة بشأن الجرائم المرتكبة في القطاع. وفي مايو/أيار الماضي، أصدرت المحكمة الدولية أمرًا إلزاميًا بوقف العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح جنوبي القطاع، لكن إسرائيل رفضت الامتثال للقرار.

يأتي كل ذلك في الوقت الذي تقرر فيه الحكومة الألمانية في برلين التدخل في قضية محكمة العدل الدولية لدعم إسرائيل، وذلك في 12 يناير/كانون الأول الماضي، قبل أن تصدر المحكمة أحكامها الأولية.

من طرفها، صرحت ناميبيا على موقع X أنها “ترفض دعم ألمانيا للإبادة الجماعية المرتكبة من قبل النظام العنصري في إسرائيل ضد المدنيين العزل في غزة”، وذكّرت ناميبيا ألمانيا بتاريخها الاستعماري الدموي في أفريقيا، وقالت الحكومة في ناميبيا إن “ألمانيا ارتكبت على الأراضي الناميبية أول عملية إبادة جماعية في القرن العشرين بين عامي 1904-1908، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف وحشية وغير إنسانية”. وأشارت إلى أن “الحكومة الألمانية لم تقم بالتكفير الكامل بعد عن هذه الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على أراضيها”، مضيفة أنه “وفي ضوء عدم قدرة برلين على استخلاص الدروس من تاريخها المروع”، أعرب الرئيس حاجي جنوب عن “قلقه العميق إزاء القرار الصادم الذي أعلنته الحكومة الألمانية”. وأشار البيان إلى تجاهل ألمانيا لعمليات القتل العنيفة في قطاع غزة.

في كتابه “رواندا والإبادة الجماعية في القرن العشرين” يقول الأمين العام السابق لمنظمة أطباء بلا حدود الين ديستيخ “الإبادة الجماعية يتم تمييزها بين كل الجرائم الأخرى عن طريق الدافع خلفها، فتاتي الإبادة على مستويات مختلفة عن باقي الجرائم ضد الإنسانية وتنطوي على النية المسبقة للإبادة والقضاء على مجموعة كاملة من البشر، وبالتالي تكون أكبر وأعظم جريمة ضد الإنسانية”.

وفي الوقت الذي ترفع فيه مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيزي، تقريرًا عن “أسباب منطقية” للقول بأن إسرائيل ارتكبت العديد من “أعمال الإبادة” وصولًا إلى التطهير العرقي. وفي الوقت الذي يصرح وزير إسرائيلي أنه “قد يكون مبررًا وأخلاقيًا السماح لإسرائيل بقتل مليوني مدني في غزة جوعًا حتى إعادة الرهائن”، وفي الوقت الذي طالب فيه إسرائيليون بإلقاء القنابل الذرية على غزة، تختار الحكومة الفرنسية أن تختبئ خلف “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها” وتختار الحكومة الألمانية، الوقوف إلى جانب إسرائيل في محكمة العدل الدولية. ألمانيا تاريخيًا التي ارتكبت إبادة جماعية في أفريقيا وامتدت يدها للإبادة بحق الأرمن، وعادت إلى إبادة اليهود في القرن العشرين، تنظر الآن الحكومة، الديمقراطية، إلى الطرف الآخر متغاضية عن كل تاريخها الدموي الاستعماري الذي تكررت فيه الإبادة أكثر من مرة!