أهم الاخباردولي

فرانسوا بورغا : فرنسا تُجرم الفكر الحر حين يعارض الرواية الإسرائيلية

المسار : ايستعد المفكر والباحث الفرنسي البارز فرانسوا بورغا للمثول أمام محكمة إيكس-أون-بروفانس في 24 إبريل/نيسان الحالي بتهمة “تمجيد الإرهاب”، على خلفية مواقفه الداعمة القضيةَ الفلسطينيةَ ورفضه العدوانَ الإسرائيليَّ على غزة. ويُعد بورغا من أبرز المتخصصين في شؤون العالم العربي، وله مؤلفات مرجعية تناولت الإسلام السياسي وسياقات الصراع في المنطقة، وكان باحثاً رئيسياً في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ومؤسسات بحثية أخرى.

ويتحدث بورغا، لـ”العربي الجديد”، عن تفاصيل الاتهامات التي يواجهها، ويشرح السياقات السياسية التي يعتبرها خلف هذا المسار القضائي. كما يقدم قراءة للتحولات الجارية في فرنسا في ما يتعلق بحرية التعبير، وموقع القضية الفلسطينية ضمنها.

*من المقرر أن تمثل أمام المحكمة  في 24 إبريل الحالي بتهمة “تمجيد الإرهاب”، على خلفية مواقفك من غزة. ما هي التصريحات أو المواقف التي تم الاستناد إليها في توجيه الاتهام لك؟

جريمتي الأولى هي أنني قمت بإعادة نشر بيان النفي الصادر عن حركة حماس بشأن الاتهامات التي وُجهت لها بارتكاب أعمال عنف جنسي بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذه الادعاءات، التي روّجت لها وسائل إعلام كصحيفة نيويورك تايمز، أُثبت لاحقاً، حتى من مصادر إسرائيلية، أنها لا تستند إلى أدلة موثوقة. عقب هذا النشر، تلقيت سيلاً من الشتائم والتهديدات، فرددت على إحدى المعلقات بعبارة قلت فيها: “أود أن أعلمكم أن لدي احتراماً كبيراً، بل احترام لا يُقارن، لقادة حركة حماس أكثر بكثير مما أكنّه لقادة دولة إسرائيل”. هذه الجملة، حسب الادعاء، تُعد تمجيداً للإرهاب. وقد احتُجزت بسببها سبع ساعات في يوليو/تموز الماضي.

فرانسوا بورغا: بات من الممكن تجريم نشر كتاب أكاديمي وهو أمر غير مسبوق وينذر بتدهور خطير في مناخ الحريات

أما الجريمة الثانية، فقد جاءت بعد ذلك، حين نشرت مقتطفاً من الفصل السادس من كتابي المعنون “فهم الإسلام السياسي”، الصادر باللغة العربية في العام 2016. في هذا الفصل، أوضحت كيف أن حركة حماس، بعد التزامها بقواعد الشرعية الدولية وخوضها انتخابات تحت إشراف الاتحاد الأوروبي، قوبلت، فور فوزها، بخيانة من الأوروبيين والإسرائيليين، وحتى من السلطة الفلسطينية. اللافت أنني أتهم اليوم على خلفية نص أكاديمي، عمره أكثر من تسع سنوات، متاح بأربع لغات، وهو ما يشكل سابقة خطيرة، إذ تُوجَّه للمرة الأولى تُهمة من هذا النوع لباحث بسبب ما كتبه في إطار بحث علمي.
أما “الجريمة” الثالثة التي وُجهت إلي، والتي أُضيفت أيضاً إلى أسباب احتجازي في يوليو الماضي، فهي موقفي الذي اتخذته لانتقاد الحكم الصادر بحق (الداعية الإسلامي) عبد الحكيم صفريوي في ما يُعرف بـ”قضية صامويل باتي” (المدرس الذي قتل ذبحاً في 2020). وباختصار، قلتُ: “إذا كان من لم تكن له أي علاقة بالجريمة يُعتبر مجرماً فقط لأنه انتقد الضحية، فإننا جميعاً إرهابيون. وإذا اعتُبر هو إرهابياً، فإننا جميعاً إرهابيون”. هذه العبارة، التي كانت تهدف إلى تسليط الضوء على الخطورة في معاقبة الأشخاص بسبب تعبيرهم عن آرائهم أو انتقاداتهم، جرى استغلالها من قِبل النيابة العامة، واعتُبرت تمجيداً للإرهاب، وهو ما استُند إليه في احتجازي.

أعتقد أنه حتى اليوم، تتفق جميع الآراء الموضوعية على أمر واحد: ملفي فارغ. لا يوجد فيه ما يمكن من الناحية القانونية أن يضفي أي مصداقية على تهمة تمجيد الإرهاب. لكن، وللأسف، في الماضي القريب، حُكم على عشرات المواطنين الفرنسيين من ذوي الديانة الإسلامية في قضايا لم تكن أقوى من قضيتي من حيث الأدلة.

*كيف تقيّم وضع حرية التعبير في فرنسا اليوم، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟
في ما يتعلق بحرية التعبير، لطالما قلت إنني لا أطالب السلطات بأن تتفق مع ما أطرحه من آراء. كل ما أطالب به هو أن يُتاح للمراقبين والمحللين والباحثين أن يواصلوا التعبير عن وجهات نظرهم بحرية، حتى وإن كانت متعارضة مع الرواية الرسمية للسلطات. ويؤسفني أن أقول إن فرنسا، ولأول مرة تقريباً، باستثناء بعض اللحظات خلال حرب استقلال الجزائر، تتجاوز اليوم خطاً أحمر خطيراً، إذ بات من الممكن تجريم نشر كتاب أكاديمي، كما حدث في حالتي، وهو أمر غير مسبوق وينذر بتدهور خطير في مناخ الحريات. أما التهديدات التي تطاول حرية التعبير، فهي في غاية الخطورة، لأنها تتسع بشكل متسارع تحت تأثير الترويج المنهجي والمستمر للرواية الإسرائيلية، وهي الرواية الوحيدة التي تحظى بالبث المتكرر في أوقات الذروة على كبرى وسائل الإعلام السمعية والبصرية. وفي السياق نفسه، من اللافت أن فرنسا، عبر منشور أصدره وزير العدل إريك دوبوند موريتي مباشرة بعد السابع من أكتوبر (2023)، فرضت إطاراً تحليلياً مغلوطاً يمنع الربط بين أفعال حركة حماس وبين سياق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي والمسلّح، وهو ما يُضيّق بشكل كبير على أي نقاش حر وموضوعي.
*إلى أي مدى تعتقد أن اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا نجح في توسيع مفهوم “معاداة السامية” لرسم حدود حرية التعبير هذه لتنتهي حيث يبدأ نقد إسرائيل؟

في الواقع، الاستخدام المتكرر والمقصود لمفهوم “معاداة السامية” في الخطاب الإسرائيلي لم يعد سوى غطاء إنساني زائف يُستعمل لإضفاء شرعية على سياسات الضم والتوسع. الخطاب الإسرائيلي يستند إلى مصدرين رئيسيين لتبرير هذه السياسات: أولاً، الشعور العميق بالذنب لدى المجتمعات الغربية إزاء مسؤوليتها التاريخية عن الجريمة النازية. هذا العامل، الذي لطالما شكّل أحد أعمدة “الشرعية الأخلاقية” لإسرائيل، بدأ يفقد فاعليته وتأثيره بمرور الوقت. لذلك، سعت إسرائيل إلى تجديد خطابها، لا عبر تقديم نفسها دولةً يهوديةً فحسب، بل دولةً تقف على خط المواجهة الأول ضد ما تصفه بـ”الخطر الإسلامي”. لقد تبنّت خطاباً مناهضاً للمسلمين يركب موجة الإسلاموفوبيا المتصاعدة في أوروبا، واستغلّته لتأطير أي انتقاد لسياساتها ضمن خانة “التطرف أو التحريض”. وهنا، لا يتعلق الأمر فقط بالمسلمين، فحتى من ينحدرون من خلفيات أفريقية، أو من الشعوب التي استعمرتها أوروبا سابقاً، يتعرضون للنظرة الإقصائية والتمييزية نفسها، حتى لو لم يكونوا مسلمين. هذا “الرفض التلقائي” للمطالب العادلة بالكرامة والمساواة من قبل شعوب ما بعد الاستعمار تستثمره إسرائيل لصالحها، وتحوله إلى أداة نفي لشرعية أي تضامن مع هذه الشعوب. بهذا الشكل، يُوظَّف اتهام “معاداة السامية” لتكميم الأفواه، وتجريم أي نقد موجه لإسرائيل، سواء جاء من باحثين، أو نشطاء، أو حتى مواطنين عاديين، وهو ما أدى إلى انحراف خطير في مفهوم حرية التعبير داخل المجتمعات الغربية، وعلى رأسها فرنسا.

*الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال أخيراً إن فرنسا قد تعترف بدولة فلسطين في يونيو/حزيران المقبل، لكنه ربط ذلك بشروط معينة. كيف تقرأ هذه التصريحات؟ وهل ترى فيها نية سياسية حقيقية أم مجرد مواقف دبلوماسية ظرفية؟

فرانسوا بورغا: استخدام “معاداة السامية” في الخطاب الإسرائيلي غطاء لإضفاء شرعية على سياسات الضم والتوسع

التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون بشأن احتمال اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية لا تمكن قراءتها إلا في سياق سياسي دبلوماسي ظرفي، وليست تعبيراً عن نية جادة وحقيقية. فالمقترح الفرنسي، كما طُرح، يقوم على شروط تُفرغ هذا الاعتراف من مضمونه، وأبرزها مطالبة الفلسطينيين بقبول سلطة لا تحظى بأي شرعية شعبية شرطاً مسبقاً لوقف القصف الإسرائيلي. هذا الموقف الذي حظي، من باب الإنصاف، بدعم من مصر والأردن، وبصمت شبه كامل من معظم الدول العربية، يُعد من حيث المبدأ موقفاً غير مقبول، لأنه يتضمن مصادرة واضحة لإرادة الشعب الفلسطيني، ويفترض أن من حق القوى الدولية اختيار ممثليه بالنيابة عنه. ولو أردتُ أن أكون استفزازياً بعض الشيء، لقلت: حتى وإن لم تكن الجرائم متكافئة من حيث الحجم أو الفظاعة، تخيّلوا وقع المفاجأة على الفرنسيين، لو قيل لهم بعد الحرب العالمية الثانية: “صحيح أن الجرائم النازية قد توقفت، لكن يجب أن يعود (الجنرال فيليب) بيتان إلى السلطة، وعلى ديغول أن يسلّم له الحكم”. هذا تقريباً ما تطلبه فرنسا من الفلسطينيين اليوم. وبالطبع، فإن هذا مرفوض تماماً. بناءً على ذلك، أرى أن المقترح الفرنسي، للأسف، ليس جاداً، لأنه مشروط بظروف غير مقبولة إطلاقاً ولا تمتلك أي شرعية.

*شهدت فرنسا منذ بدء العدوان تظاهرات واسعة رفضاً للحرب على غزة، إلى جانب حراك طلابي داخل الجامعات يطالب بوقف التعاون الأكاديمي وسحب الاستثمارات من إسرائيل. ما أهمية هذا الحراك برأيك؟ وما هي أبرز التأثيرات التي تركها على الرأي العام الفرنسي؟
في الوقت الحالي، تواجه الأصوات المؤيدة لفلسطين تحديات كبيرة في إيجاد منصات واسعة للتعبير عن مواقفها. ومع ذلك، يبقى أن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (بي دي إس) تمثل أداة قوية ذات مصداقية نسبية. من المعروف أن بعض العلامات التجارية الأميركية الكبرى، مثل “ماكدونالدز” و”ستاربكس”، قد تأثرت بشكل ملموس من تأثير هذا الحراك، ما يجعل هذه الأداة أكثر أهمية من أي وقت مضى.

المصدر : مقابلة مع العربي الجديد