مقالات

“اسماعيل الريماوي ” بين السلاح والاستسلام: من يطعن المقاومة في ظهرها ولماذا؟

المسار الإخباري :منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر، ومع تصاعد المجازر اليومية ووضوح المشروع الإسرائيلي القائم على التهجير القسري والتطهير العرقي، عادت إلى السطح دعوات عربية وفلسطينية، معلنة أو مستترة، تطالب المقاومة بتسليم سلاحها والانخراط في ترتيبات ما بعد الحرب بشروط أمريكية إسرائيلية، باعتبار أن السلاح بات عبئاً على الفلسطينيين لا ورقة قوة لهم، لكن السؤال الأخطر الذي يطرح نفسه هنا: ماذا لو سلمت المقاومة سلاحها فعلاً؟ هل تتوقف المجازر؟ وهل تنتهي معاناة غزة؟ أم أن المشروع الإسرائيلي سيتقدم دون عوائق باتجاه سحق ما تبقى من الشعب الفلسطيني

إن ما يجري ليس نقاشاً نظرياً حول “التكلفة والفائدة”، بل معركة وجودية عنوانها: من يملك قرار الشعب الفلسطيني؟ من يمثل إرادته؟ ومن يدافع عنه حين تقرر إسرائيل أن لا مكان له في خارطة الشرق الأوسط الجديد؟ حين يطالب البعض المقاومة بتسليم سلاحها، فإنهم لا يدركون – أو يتجاهلون عمداً – أن هذا السلاح هو ما تبقى من عناصر الحماية الوطنية، وهو السقف الوحيد الذي حال دون تكرار نكبة 1948 في قطاع غزة.

المفارقة أن هذه الدعوات لا تأتي فقط من غرف السياسة الأمريكية أو من الأجندة الإسرائيلية، بل من داخل البيت الفلسطيني نفسه، من سلطة حوّلت نفسها إلى وسيط أمني في خدمة الاحتلال، ومن نخب سياسية تعتبر أن بقاءها مرهون بغياب المقاومة، ومن دول ترى في السلاح الفلسطيني تهديداً لمعادلاتها الإقليمية ومسارات تطبيعها، الطعن لا يأتي من العدو فقط، بل ممن يفترض أنهم شركاء في الهم والمصير، وهذا ما يجعل المعركة مضاعفة القسوة.

لكن الخطورة لا تكمن في هذه المواقف فحسب، بل في ما تكشفه من رؤية عميقة مريضة تعتبر أن المشكلة ليست في الاحتلال، بل في من يقاومه، وكأنهم يقولون صراحة: لو أن غزة خضعت واستسلمت وقبلت أن تدار كما تدار الضفة الغربية، لربما حظيت بالهدوء والرواتب والحياة اليومية! يتجاهلون أن غزة لم تُحاصر بسبب إطلاق الصواريخ، بل أُطلقت الصواريخ لأن غزة حوصرت، وأن المقاومة لم تبدأ الحرب، بل فُرضت عليها منذ أن قررت أن تكون حرة.

ومن هنا، فإن السؤال المنطقي الذي يجب أن يُطرح هو التالي: هل كانت إسرائيل لتتوقف عن مشروعها لو أن المقاومة سلمت سلاحها؟ الإجابة واضحة في كل صفحة من صفحات التاريخ، وفي كل مشهد من مشاهد الحرب الجارية: الاحتلال لا يريد نزع السلاح فقط، بل نزع الوعي والكرامة والوجود، لو استسلمت غزة، لما توقفت الحرب، بل لتحولت إلى ممر إنساني للتهجير الجماعي، والسلاح هنا ليس خياراً تكتيكياً، بل خيار بقاء، هو آخر الحصون في وجه المشروع الصهيوني الذي يرى في غزة عبئاً ديمغرافياً يجب تفكيكه.

إن من يهاجم سلاح المقاومة اليوم، دون أن يقدم بديلاً حقيقياً ولا مشروعاً وطنياً، إنما يشارك – بوعي أو بجهل – في تنفيذ الهدف الأهم للعدو: إنهاء قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة، وتفكيك وحدته الداخلية، وتجريده من أوراق قوته، والمفارقة أن الذين فشلوا في كل مسارات التسوية، وتورطوا في التنسيق الأمني، وعجزوا عن حماية شعبهم في الضفة، هم أنفسهم الذين ينظرون اليوم على المقاومة، ويقدمون أنفسهم كبديل “شرعي” لإدارة ما بعد الحرب.

وهنا تحضر السلطة كعنصر أساسي في هذا المشهد، فبدلاً من أن تكون حاضنة للإجماع الوطني، تحولت إلى عبء سياسي وأمني، وراعية لخطاب يحمّل المقاومة مسؤولية الكارثة، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قصف المدنيين وتجويع الأطفال، لا تطرح السلطة اليوم مشروعاً وطنياً بديلاً، بل تقدم نفسها كأداة جاهزة لإعادة إعمار غزة بشرط تفكيك المقاومة وتسليم القطاع، وهو ما يتطابق حرفياً مع الرؤية الأمريكية الإسرائيلية.

إن المطلوب اليوم ليس إسكات البنادق، بل إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني على أساس واضح: أننا شعب يرزح تحت احتلال، وأن المقاومة بجميع أشكالها حق مشروع، وأن وحدة السلاح والقرار الوطني شرط أساسي لمواجهة مشروع التهجير والتصفية، من يطعن المقاومة في ظهرها لا يطعن فصيلاً أو جماعة، بل يطعن الحق الفلسطيني نفسه، ويضعف قدرة هذا الشعب على البقاء.

إن سلاح المقاومة ليس عبئاً على غزة، بل هو الجدار الأخير الذي يقف بين الشعب ومراكب التهجير، بين الكرامة والانهيار، بين النكبة والاستسلام.

في خضم هذه المعركة الوجودية، لم يعد ممكناً الاختباء وراء شعارات فضفاضة أو ادعاءات الشرعية الشكلية، فإما أن يكون الموقف واضحاً إلى جانب من يدافع عن الكرامة الوطنية، أو أن يكون اصطفافاً ضمنياً مع مشروع الإخضاع والتهجير، إن سلاح المقاومة ليس أداة للقتال فقط، بل هو التعبير الأخير عن حق الشعب الفلسطيني في أن يقرر مصيره، ويصون وجوده، ويرفض الإملاءات الخارجية، أياً كان مصدرها، ومن يطالب اليوم بنزع هذا السلاح دون أن يضمن الحرية والكرامة والعودة، إنما يطالب فعلياً بإعادة إنتاج النكبة، بثوب جديد.

وغزة، التي صمدت في وجه الجوع والنار، لم تفعل ذلك لأنها تملك طائرات أو أنظمة دفاع، بل لأنها تملك إرادة مقاومة لا تُشترى ولا تُباع، هذه الإرادة هي الرصيد الحقيقي لشعب محاصر، وهي التي ينبغي أن تكون نقطة الارتكاز في أي مشروع وطني جامع، لا أن تُستبدل بسلطة تنسق مع الاحتلال وتُفرغ السياسة من معناها.

المعركة اليوم ليست فقط حول مستقبل غزة، بل حول معنى فلسطين، وحول من يملك الحق في تمثيلها: من يحمل السلاح دفاعاً عن حق العودة، أم من ينتظر موافقة الاحتلال كي يمارس سلطة بلا سيادة؟ الإجابة ستكتبها المواقف، لا الخطابات، وستحسمها الجماهير، لا المؤتمرات.

 

المصدر وكالة وطن