
المسار : في مقابلة مع قناة “بي بي سي” البريطانية، الجمعة، وعلى هامش زيارته الرسمية إلى لندن، أقرّ المستشار الألماني فريدريش ميرز بأن أوروبا اعتمدت طويلًا على المظلة الأمنية الأميركية، مؤكدًا أن هذا النهج يشهد اليوم تحولًا جوهريًا نحو “التزام دفاعي أكبر وتعاون أوثق” مع الحلفاء الأوروبيين، وسط تصاعد التوترات التجارية مع واشنطن واستمرار الحرب في أوكرانيا.
كنا نركب بالمجان…
قال ميرز، في برنامج “بي بي سي توداي”: “ندرك أننا بحاجة إلى تحمّل المزيد من المسؤولية بأنفسنا. نعم، كنا نركب بالمجان في السابق، لكن هذا تغيّر. يُطلب منا الآن بذل جهد أكبر، ونحن نفعل ذلك بالفعل”. وجاءت تصريحاته بالتزامن مع توقيع “معاهدة صداقة” جديدة بين ألمانيا والمملكة المتحدة، تهدف إلى تعميق التعاون الدفاعي، ومعالجة الهجرة غير النظامية، وتعزيز التبادل الثقافي والشبابي بين البلدين.
وكشف المستشار الألماني أنه تحدث مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ثلاث مرات منذ تولّيه المنصب في مايو/أيار الماضي، ويتواصل معه هاتفيًا بشكل أسبوعي. وأوضح أن المحادثات تتناول ملفات متعددة، أبرزها الحرب في أوكرانيا، والإنفاق الدفاعي، والعلاقات التجارية المتوترة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقال ميرز: “أعتقد أن الرئيس ترامب يتفق معنا في أن الهدف هو إنهاء الحرب في أوكرانيا. هناك أيضًا تنسيق بيننا بشأن الرسوم الجمركية والسياسات التجارية”.
تهديدات جمركية على الأبواب
اعتراف ميرز بأن أوروبا لم تتحمل نصيبها العادل من الأعباء الدفاعية لعقود، يأتي في وقت حساس، لا سيما مع تهديدات ترامب الأخيرة بفرض رسوم جمركية تصل إلى 30% على جميع السلع الأوروبية بدءًا من الأول من أغسطس/آب المقبل. في المقابل، يُعدّ الاتحاد الأوروبي خطة مضادة تشمل فرض رسوم على منتجات طبية وزراعية وسيارات أميركية وطائرات “بوينغ”، لكنها لن تدخل حيّز التنفيذ إلا بعد موافقة الدول الأعضاء الـ27، وفي حال مضى ترامب فعليًا في فرض إجراءاته.
ميرز حذّر من أن هذه الرسوم ستكون “مدمّرة لصناعة التصدير الألمانية”، لكنه أضاف: “الرئيس ترامب يدرك التحديات، وهو مستعد للتفاوض لأنه يفهم تداعياتها جيدًا”. وفي هذا السياق، توجّه مفوّض التجارة الأوروبي ماروش شيفشوفيتش إلى واشنطن لإجراء مفاوضات تهدف إلى نزع فتيل التصعيد، والتوصل إلى اتفاق يحمي مصالح الاتحاد الأوروبي المشتركة.
أوكرانيا أولوية ميرز
منذ تسلّمه منصب المستشار، وضع ميرز دعم أوكرانيا على رأس أولوياته، وزار كييف بعد أيام من أدائه اليمين، برفقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر. وقال في مقابلته إن روسيا لا تُهدد أوكرانيا فحسب، بل تمثل “تهديدًا مباشرًا لحرية أوروبا ونظامها السياسي”. وأضاف: “نحن غير أقوياء بما فيه الكفاية، وجيشنا ليس مستعدًا بما يكفي. لذلك نرفع الآن ميزانياتنا الدفاعية”.
وأشار إلى أن بلاده سترفع إنفاقها الدفاعي تدريجيًا ليصل إلى ما يقارب 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تتجاوز بكثير الحد الأدنى الذي حدّده حلف شمال الأطلسي (2%) في فترة ولاية ترامب السابقة. كما أكد أن أوكرانيا ستحصل قريبًا على دعم “في مجال النيران بعيدة المدى”، في إشارة إلى صواريخ يجري تطويرها بالتعاون مع بريطانيا، يصل مداها إلى نحو 2000 كيلومتر.
تحالف “E3″… أوروبا تعيد حساباتها
في إطار هذا التحوّل، يسعى ميرز إلى تعزيز تحالف ثلاثي بين ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، يُعرف باسم “E3″، يركّز على الأمن والسياسة الخارجية والنمو الاقتصادي. وأكد أن علاقته برئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر “وثيقة جدًا”، وأن التعاون الثلاثي سيكون “حجر الزاوية في استقرار أوروبا”. وقد وقّع ميرز وستارمر في متحف “فيكتوريا وألبرت” بلندن معاهدة صداقة تشمل التعاون في مجالات الدفاع والتعليم والهجرة، وتتضمن تعديلات قانونية في ألمانيا تجرّم تخزين القوارب الصغيرة المستخدمة في تهريب المهاجرين عبر القناة الإنكليزية، عقب تحقيق كشف عن وجودها على الأراضي الألمانية.
وتنص المعاهدة أيضًا على تعزيز التعاون الصناعي الدفاعي، وتطوير مشاريع مشتركة تشمل الطائرات المقاتلة والمركبات المدرعة، إلى جانب إطلاق حملات تصدير جماعية يُتوقع أن تحقق مليارات اليورو. كما تشمل إنشاء خط قطار مباشر بين لندن وبرلين، وتوسيع برامج التبادل الطلابي التي تراجعت منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
من الواضح أن الخطاب الأوروبي، وخصوصًا الألماني، بدأ يتغيّر جذريًا حيال العلاقة مع واشنطن. فبدلًا من الاعتماد على الحماية الأميركية، بات الاعتراف بوجاهة انتقادات ترامب السابقة أمرًا واقعًا يقرّ به قادة أوروبيون، ورمزية الاعتراف الألماني تعدّ هامة بالنظر إلى مكانة برلين ودورها في الاقتصاد الأوروبي. ويرى مراقبون أن هذا التحوّل يعكس رغبة أوروبية في تقليص التبعية الاستراتيجية للولايات المتحدة، والاستعداد لمواجهة مرحلة أكثر استقلالًا بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
وفي هذا السياق، يراهن ميرز على توسيع نطاق تحالف “E3” الثلاثي مع بريطانيا وفرنسا، ليشمل ليس فقط الجوانب الأمنية والدبلوماسية، بل أيضًا تنمية اقتصادية مشتركة وتحالفات صناعية وتجارية عابرة للحدود. ومن المنتظر أن تُستكمل هذه الجهود خلال زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى برلين الأسبوع المقبل.