المسار : د. أحمد الطيبي: قدرة محمود درويش على تحويل الحدث الآني إلى رؤية كونية جعلت نصوصه تتجاوز حدود اللحظة
محمود شقير: شعره خالد سيظل مشعّاً بقيم النضال والتحدي وبالتمسك بكل ما هو مشرق وإنساني في حياة الفلسطينيين
ديما السمان: إرثه لم ينطفئ ورحيله كشف غياب المشروع الثقافي العربي القادر على حمل القصيدة إلى قلب الناس
طلال أبو عفيفة: محمود درويش قدّم أجمل الشعر الحديث في الحب والجمال والشوق إلى الوطن ورفض الاحتلال
جودت مناع: محمود درويش تجاوز بأشعاره حدود الوطن وجعل من إبداعه عابراً للحدود لذلك اقترن اسمه بفلسطين
حلت في التاسع من آب الذكرى السابعة عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش، الذي حمل فلسطين عبر شعره إلى العالم، ليرسم معاناة الفلسطيني بلغةٍ تمزج بين الألم والأمل، محوّلاً الحدث الآني إلى رؤية كونية جعلت قصيدته تتجاوز حدود اللحظة، لتصبح أرشيفاً للوجدان الجمعي، ووثائق إنسانية تقرأ الغد كما تصف اليوم.
وتحل هذه الذكرى الأليمة والعزيزة لرحيل الشاعر الكبير، في ظل أصعب الظروف التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعب الفلسطيني، حيث حرب الإبادة الوحشية في قطاع غزة، والعدوان المتصاعد والسياسات العنصرية في الضفة، في استهدافٍ لوجود الشعب الفلسطيني وذاكرته وهويته.
وفي هذه الأيام العصيبة، يستذكر مثقفون وكُتاب، في أحاديث منفصلة لـ”ے”، محمود درويش وإرثه الخالد وصوته المقاوم والمدوّي، الذي رافق مسيرة النضال الوطني، متسائلين لو كان محمود درويش على قيد الحياة الآن، فماذا كان يمكنه أن يقول في ما يحدث من جرائم مروعة.
قارئ دقيق للمستقبل
قال النائب الدكتور حمد الطيبي رئيس الحركة العربية للتغيير: “في الذكرى السابعة عشرة لرحيل محمود درويش، يبدو أن صوته الشعري ما زال يتردد كأنّه يكتب اليوم عن حاضرنا، لا عن ماضٍ غاب”.
وأضاف: “كان درويش شاعراً وطنياً بامتياز، لكنه أيضاً كان قارئاً دقيقاً للمستقبل؛ ففي قصائده استبصر ملامح المشهدين السياسي والاجتماعي اللذين نعيشهما الآن: من الخيبات والانقسامات، إلى أسئلة الهوية والمصير”.
وأكد الطيبي أن قدرة محمود درويش على تحويل الحدث الآني إلى رؤية كونية جعلت نصوصه تتجاوز حدود اللحظة، لتصبح وثائق إنسانية تقرأ الغد كما تصف اليوم.
الـمُعبّر الأعمق عن السردية الفلسطينية
وأشار إلى أن درويش كان الـمعبّر الأعمق عن السردية الفلسطينية: سردية الأرض التي تُنتزع وتقاوم، والمنفى الذي يتحول إلى هوية، والذاكرة التي تصبح وطناً بديلاً حين يُسلب الوطن.
وأضاف الطيبي: في شعره، لم تكن فلسطين مجرد جغرافيا، بل كيان روحي وثقافي وحضاري، يمتد من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة إلى ملحمة الصراع على الوجود.
ولفت إلى أن درويش رسم معاناة الفلسطيني بلغة تمزج بين الألم والجمال، وبين الحلم والواقع، لتصبح قصيدته أرشيفاً للوجدان الجمعي.
لماذا خفتَ صوت الشعر اليوم؟
لكن الطيبي تساءل: لماذا خفتَ صوت الشعر اليوم؟ وقال: إن أحد الأسباب هو تحوّل المشهد الثقافي والإعلامي، حيث هيمنت السرعة والتدفق الرقمي على فضاء التعبير، وتراجعت المساحة التي تمنح اللغة الشعرية وقتها وقدرتها على التأمل.
وأضاف: “إن الأزمات السياسية والاقتصادية جعلت كثيراً من المثقفين ينكفئون نحو الخطاب المباشر أو العمل الحقوقي، على حساب البعد الجمالي والرمزي الذي كان يميز شعر درويش وأبناء جيله”.
ومع ذلك، أكد الطيبي أن “إرث محمود درويش سيبقى شاهداً على أن الشعر، حين يكون صادقاً وعميقاً ومرتبطاً بسردية شعبه، قادر على النجاة من النسيان، وأن الشاعر، حين يكتب من قلب قضيته، قد يرى أبعد من السياسي والمؤرخ”.
لم ينسَ المظلومين على هذا الكوكب
واستهل الكاتب المقدسي محمود شقير حديثه بالترحم على الشاعر الكوني محمود درويش في ذكرى رحيله السابعة عشرة، وقال: هذه الذكرى تشير إلى أننا نحن الفلسطينيين لم ولن ننسى شاعرنا القومي الذي عبّر بعمق ورصانة وإبداع وبأفق إنساني رحب عن القضية الوطنية لشعبه بوصفها قضية حرية وأمل وتطلع نحو مستقبل آمن وحياة طبيعية، ليس فقط للشعب الفلسطيني وإنما للشعوب المظلومة قاطبة.
وأضاف: إن محمود درويش لم ينس كل المظلومين على هذا الكوكب الأرضي، الشاعر الذي صاغ همومهم وتطلعاتهم من خلال صياغته للقضية الفلسطينية على النحو الذي يمس قلوب البشر أجمعين.
وأكد شقير أن الذكرى السابعة عشرة لرحيل محمود درويش تحل في ظل أصعب الظروف التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعب الفلسطيني، وأقصد هنا حرب الإبادة الوحشية التي يعيشها شعبنا في قطاع غزة وفي الضفة الغربية منذ اثنين وعشرين شهرًا، لافتاً إلى أنه لا يوجد في الأفق ما يوحي بتوقفها، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يشير صراحة وباستمرار إلى أن هذه الحرب لن تتوقف، وهو إنما يفعل ذلك بضغط من حلفائه اليمينيين المتطرفين في ائتلافه الحكومي، الذين يدعون إلى احتلال قطاع غزة وتهجير الغزيين قسرًا بعد تجويعهم وقتل وجرح مئات الآلاف منهم، وبعد هدم بيوتهم وتدمير كل مظاهر الحياة في القطاع وفرض النزوح الداخلي عليهم مرات عدة والعيش في خيام ممزقة وفقًا لأصعب ظروف العيش وأقساها، وأكثرها بدائية وخشونة ومعاناة.
وتابع شقير يقول: “إن نتنياهو معني بإدامة الحرب برغم المعارضة التي ترتفع في وجه سياسته العدوانية من داخل دولة الاحتلال ومن دول العالم وشعوبه، لأنه في حال توقفت الحرب سيكون مستقبله السياسي في مهب الريح، وسيكون عرضة لمساءلات عديدة ولمحاكمات يمكن أن تذهب به إلى السجن، ولذلك فإنه يقامر بمصير دولة الاحتلال التي أصبحت منبوذة ومعزولة في عالمنا الفسيح، ولا تجد مناصرًا لها ومساندًا إلا الرئيس ترمب وإدارته، حتى هذا الأخير فإن ثمة معارضة تتنامى داخل الولايات المتحدة ذاتها ضد سياسته في دعم العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الوحشية على قطاع غزة”.
وأوضح شقير أن ثمة من يتساءل هذه الأيام: لو كان محمود درويش على قيد الحياة الآن، فماذا كان يمكنه أن يقول في ما يحدث من جرائم مروعة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية؟
في شعر درويش كثير مما ينبئ عن الحاضر والمستقبل
وشدد الكاتب شقير على أن العودة إلى دواوين درويش العديدة سترينا أن في شعر درويش كثيرًا مما ينبئ عن الحاضر والمستقبل، وهو شعر خالد سيظل مشعّاً بقيم النضال والتحدي وبالتمسك بكل ما هو مشرق وجميل وإنساني في حياة الفلسطينيين الطامحين إلى الحرية والعودة والاستقلال.
أما عن حال الشعر اليوم، فقال شقير: “هو موجود وله شعراء ذوو مكانة وحضور. غير أن غياب درويش وهو في قمة عطائه الشعري يصعب تعويضه في المدى المنظور”.
قراءة عميقة لمسار التاريخين الفلسطيني والعربي
من جانبها، أكدت الأديبة ديما السمان أنه “في الذكرى السابعة عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش، يعود السؤال الذي يراود القراء والنقاد: هل كان درويش شاعرًا فحسب، أم كان أيضًا يقرأ خرائط المستقبل بين سطور القصيدة؟”.
وقالت: “حين نعيد قراءة نصوصه اليوم، نكتشف أن كثيرًا من الصور والمشاهد التي رسمها بالكلمات تحققت بعد سنوات من رحيله. لم تكن هذه “نبوءات” بالمعنى الغيبي، بقدر ما كانت قراءة عميقة لمسار التاريخين الفلسطيني والعربي، واعتمادًا على بصيرة الشاعر الذي يرى أبعد مما يراه السياسي والمؤرخ”.
التقاط ملامح التبدلات الكبرى
وأضافت السمان: “لقد التقط درويش، عبر شعره، ملامح التبدلات الكبرى: من انكسارات الحلم الوطني، إلى تحولات المجتمع، وصراع الفلسطيني بين المنفى والوطن”.
وأوضحت أن ذلك استند إلى وعيٍ حاد بالواقع، وقدرة على صياغته بلغة لا تستهلكها اللحظة. حين كتب: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، كان يؤسس لشعار وجداني عابر للأجيال، يقاوم الاندثار مهما اشتدت العواصف.
لكن الأديبة السمان أشارت ألى السؤال المؤلم اليوم وهو: لماذا خفت صوت الشعر، ولماذا لا نجد في المشهد العربي صوتًا بمدى صوت درويش؟
وقالت: “ربما لأن المرحلة تغيرت؛ فقد كان شعر درويش ابنًا لزمنٍ يرى في القصيدة وسيلة مقاومة ووعياً جمعيًا، بينما يواجه الشعر اليوم منافسة شرسة من الإعلام السريع والصورة الفورية، التي تستهلك العاطفة قبل أن تنضج”.
وأكدت السمان أن التحولات الثقافية، وانشغال الأجيال الجديدة بأنماط تعبير مختلفة، جعلت من الشعر فعل نخبة، بعد أن كان لغة الجماهير.
وترى السمان أن رحيل درويش كشف غياب المشروع الثقافي العربي القادر على حمل القصيدة إلى قلب الناس، لافتة ان إرثه لم ينطفئ؛ قصائده ما زالت حاضرة في المظاهرات، وفي المدارس، وعلى جدران المخيمات، وفي قلوب أولئك الذين يجدون في الشعر ملاذًا ومعنى.
وختمت السمان حديثها بالقول: “إن استعادة صوت درويش اليوم هي استدعاء للقصيدة كأداة وعي ومقاومة، وللشاعر كضمير أمّة، يرى ما لا يراه غيره، ويقول ما نخشى قوله”.
ارتبط بشكل كبير بالأرض والوطن والدفاع عنه
من جانبه، قال الكاتب طلال أبو عفيفة، عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين:
“في الذكرى السابعة عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش، شاعر الحب والحنين للوطن وشاعر المقاومة، إلى جانب شعراء المقاومة في الداخل توفيق زياد وسميح القاسم، لا بد أن نتذكر هذا الشاعر الكبير الذي قدم أجمل الشعر الحديث في الحب والشوق إلى الوطن ورفض الاحتلال والنقد الحاد للتخلي عن المقاومة في بيروت عام ١٩٨٨، وتجلى نقده الحاد في قصيدته الملحمية “مديح الظل العالي” عام ١٩٨٣ وصدح بها بصوته الشجي في قاعة المجلس الوطني عام ١٩٨٨ في الجزائر، ووصلت أبياتها إلى كل مكان من العالم، وخاصة إلى أمريكا رأس الشر والداعم للاحتلال حتى اليوم”.
وأشار أبو عفيفة إلى أن شعر محمود درويش ارتبط بشكل كبير بالأرض والوطن والدفاع عنه حيث تأثر درويش كثيراً بشعر هارون هاشم رشيد رحمه الله الذي قال يوماً: “أنا لن أعيش مشرداً.. أنا لن أظل مقيداً”، إضافة إلى تأثره بشعر عبد الكريم الكرمي “أبو سلمى” الذي عشق وغنى للوطن كثيراً.
ويقول أبو عفيفة: إنه بعد محمود درويش خفت شعر المقاومة الحقيقي والمسموع خارج الوطن، بالرغم من كثرة الشعراء الفلسطينيين والعرب.
وترحّم أبو عفيفة على محمود درويش الذي توفي في الولايات المتحدة خلال عملية القلب المفتوح، وقال: “لقد قابلته قبل سفره بأسبوع عندما التقيته في مكتبه في مقر مؤسسة خليل السكاكيني في رام الله لأدعوه إلى حفل تكريم عدد من شعراء فلسطين بتنظيم ملتقى المثقفين المقدسي، ويومها قال لي معتذراً: “للأسف، لا أستطيع الحضور لأنني سأسافر بعد أيام إلى الولايات المتحدة لإجراء عملية، وعندما سأعود سنلتقي مرة أخرى”، ولم يعد فقد مات هناك، وليته لم يسافر.
وأضاف أبو عفيفة: “أتذكر أجمل ما قال في الحب والجمال: (أحببتك مرغماً ليس لأنك الأجمل، بل لأنك الأعمق، فعاشق الجمال في العادة أحمق)”.
شاعر أممي..
من جهته، قال الصحفي جودت مناع: إن الشاعر محمود درويش متميز بأسلوبه في قصائده، مشيراً إلى أنه تجاوز النمط الشعري القديم، وكان لأشعاره وقع على الأذن الأدبية، ونقل صوراً مرئية لعشاق الشعر العربي المعاصر، ما جعله شاعر كل النخب ممن تربعوا على هودج القصائد بلغاتها المختلفة.
ويرى مناع أن “قصائد درويش تحولت إلى نثر أممي بألوان زهور التلال الفلسطينية قرأته على أكتاف أرصفة المترو في باريس ولندن وغير عاصمة تقدّر سحر الكلمات لشاعرٍ عاش عمراً حافلاً بكوارث حلت في شعبه ولا نزال نعيشها بوجع تتوارثه الأجيال.
وأشار إلى أن محمود درويش تجاوز بأشعاره حدود الوطن فلم يسبق لشاعر أن جعل من إبداعه عابراً للحدود بأدب نثري، لذلك اقترن اسمه بفلسطين التي قال عنها: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات. كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين”. هذا المقطع يعبر عن استمرار الهوية الفلسطينية وتجذرها في الأرض، حتى مع التغيرات والظروف التي مرت بها فلسطين.
وقال مناع: إن هذه الأبيات تعكس إصرار الشاعر على أن فلسطين هي الأرض التي تستحق الحياة، وأنها ستبقى فلسطين، مهما تغير اسمها أو تعرضت للظلم.
وأضاف مناع: في هذه الأسطر نقرأ الحقيقة التي كان يعرفها الشاعر دون غيره، ما جعل الأمر بالنسبة له أكثر صعوبة لم يجربها ويعرفها غيره من الشعراء.
تحدى الألم في الوطن والمنفى
وأكد أن درويش وظف فكره الواسع بأخلاقه وبالتزامه بقضيته وهو الشاهد على النكبة طفلاً، وعلى النكسة شاباً، وعلى الترحال ستينياً يجلس على عتبات الغربة في أسفاره التي اجتاحت بمشاهدها المتجددة عقله وطافت به في خيالٍ يطفح في دائرة مفتوحة لم يتمكن من مغادرتها، فتحدى الألم الذي سكنه شجناً في المنفى وحنيناً لوطنٍ ضاق به الكون، فتمرد وحرض على الكفاح لأجل الحرية حين كتب قصيدته في بيروت عام ١٩٨٢ “حاصر حصارك لا مفر”.
وقال مناع: “هي كلمات ترسم طريقاً آخر بتحدي الحصار. هو يقرأ مستقبل العلاقة بين المقاومة واتجاهاتها المختلفة وتكاتفها، ويرى أن كل مقاتل أو جريح أو شهيد جميعهم أحرار”.
وأضاف أن “درويش لم يغفل مشهداً إلا وكتبه بالكلمات. إنه ليس فناناً ليرسم لوحات تشكيلية ليوحي برسائل غير مقروءه كي يقرأها أبناء شعبه وكل من يعشق الفن لتسكن بألوانها عمق الخيال غير المرئي”، مشيراً إلى أنه كان شاعراً يمشي في زحمة الموت والشقاء فوق التلال الحلوة في الجليل وعلى رمال شاطئ غزة حين شاهد صور أشلاء أطفال فلسطينيين ورمال تزهو بدمائهم ليرسم بكلماته لوحات تنبئ بالمستقبل فكتب هناك قصيدة البِنْتُ/ الصَّرخَةُ:
على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتانِ وبابْ…
وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ
على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ
يسقطون على الرمل. والبنتُ تنجو قليلاً
لأنَّ يداً من ضبابْ
يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي”.
وتابع مناع: “التجول في أرجاء وطن يناجي بعضه عند حواجز التفتيش العسكرية، وتواصل إنساني وروحي تفصله الحواجز والجدران والإرهاب، ليس أمراً سهلاً للناس العاديين، فكيف لشاعر أن يتخطى كل تلك المعوقات التي تركت بصماتها على ملايين الفلسطينيين فتحولت في خياله إلى منتجع يقطر بالدم”.
وأشار إلى أنه كانت للقدس مساحة أفردها لقرائه الذين كانوا لا يدركون أين سيكونون وماذا سيكونون، فعبر عن ذلك في قصيدته “القدس” بقوله:
“ماذا بعد؟ صاحت فجأةً جنديّةٌ:
هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟
قلت: قَتَلْتني… ونسيتُ، مثلك، أن أَموت”.
واعتبر مناع أنها لحظة من لحظات الإدراك والصحوة من الموت لمواجهة المارين، كما أسماهم الشاعر محمود درويش.
وقال مناع: “في هذه المناسبة أجد فرصة لأقص صدفة جمعتني به في رواق مطار أمستردام الدولي. كنت عبرت رواق الترانزيت الطويل بواجهاته الزجاجية العريضة لتأكيد رحلتي إلى باريس قادماً من الولايات المتحدة الأمريكية، وما إن أنجزت ذلك على وجه السرعة لضيق الوقت، تأملت في حولي المتاح لرؤيا خارج زحمة المسافرين، فإذا بشخص يرتدي معطفاً طويلاً بلون سكري يسير في الاتجاه المعاكس، توقفت قليلاً بعد أن خمنت أن ذلك الشخص هو محمود درويش، لم أتوانَ لكي لا تفوتني تلك الفرصة فأسرعت في اتجاهه على بعد عشرين متراً للتأكد من صحة ما إذا كان محمود درويش أم غيره، بالرغم من ضيق الوقت، وما إن دنوت إلى جانبه فإذا به هو محمود درويش. ابتسمت في وجهه ومددت يدي فصافحته. سألته عن وضعه الصحي لدرايتي بمعاناته، فأجابني أنه في رحلة علاج إلى الولايات المتحدة، لم أُطل في الحديث معه في وقت يقترب فيه موعد إقلاع الطائرة إلى باريس وهو كذلك، تمنيت له الشفاء العاجل، وودعته إلى حين لقاء آخر”.
وفي غيابه، أشار مناع إلى أن “ظاهرة الشعر أصيبت بالثبوط، وهو أمر لا يحتاج إلى تفسير، كما أنها نتيجة منطقية وفلسفية، فإذا غاب قائد أمة عن شعبه أو فقد محارباً شجاعاً، فسوف تستغرق الحالة وقتاً إلى أن تستعيد عافيتها، هكذا هي حالة الشعر الفلسطيني والعربي عموماً حين يرحل المبدعون”.
وأضاف: “في حياته كان متخيلاً لمستقبل صار واقعاً بغض النظر عن طبيعته المأساوية. واقع بامتداد لم يكن سوى قلم ترك خربشات على دفاتره ودواوينه الشعرية وجداريات تحمل فقرات من أشعاره يتوقف أمامها العابرون بين محطة وأُخرى في غير مكانٍ حول العالم”.
وخلص مناع إلى القول: “هكذا أصبح محمود درويش شاعراً أممياً تجاوز بقدراته الأدبية والشعرية والثقافية القيود الفكرية ليرسم بها مستقبل أمة عابراً للحدود”.
المصدر القدس العربي