نجاة بثمن باهظ… لا قدرة للغزيين على تكلفة النزوح

Loai Loai
7 Min Read

المسار : تتصاعد معاناة أهالي مدينة غزة ومحيطها يوماً بعد الآخر مع اتساع رقعة النزوح الذي يفرضه جيش الاحتلال الإسرائيلي على مختلف المناطق، ورغم أن النزوح يفترض أن يكون هروباً من الموت إلى مكان أكثر أماناً، تحوّل تكلفته الباهظة حياة المدنيين إلى عبء إضافي فوق معاناتهم وطاقتهم.

تصل تكلفة استئجار شاحنة صغيرة لنقل العائلات وأمتعتهم من مدينة غزة إلى منطقة المواصي في خانيونس ما بين 800 إلى 1000 شيكل (الدولار = 3.37 شواكل)، وهو رقم يفوق قدرة الكثير من الأسر التي تعيش أوضاعاً اقتصادية متردية منذ سنوات طويلة.

ومع استمرار القصف وعدم وضوح وجهة آمنة، يعيش مئات آلاف الغزيين في دائرة من القلق والهواجس، لا تتعلق فقط بالخوف من الموت، بل أيضاً بالخوف من عدم القدرة على تحمل نفقات النزوح المتكرر. وتجدر الإشارة إلى أن تكلفة المواصلات في قطاع غزة ارتفعت بشكل جنوني منذ اندلاع الحرب، إذ قفز سعر لتر الوقود من نحو خمسة شواكل قبل الحرب إلى أكثر من 130 شيكلاً حالياً في السوق السوداء، وهو ما جعل التنقل شبه مستحيل بالنسبة لغالبية الأسر.

وترافق الارتفاع غير المسبوق في سعر الوقود مع تدمير واسع للطرق والبنية التحتية، حيث تحولت الشوارع إلى ركام وحفر عميقة بفعل القصف، ما ضاعف صعوبة التنقل حتى لمن يملك المال.

تكاليف باهظة

قال الفلسطيني سعيد وهدان (32 عاماً)، الذي نزح من مخيم جباليا شمال غزة إلى منطقة الصبرة في مدينة غزة في شهر مايو/ أيار الماضي، إن هاجس النزوح يطارده بشكل يومي بعد أن أعلن الاحتلال منطقته الحالية منطقة حمراء.

وأضاف وهدان في حديث لـ”العربي الجديد”: “القصف يقترب منا أكثر فأكثر، وكل ليلة نسمع الانفجارات من حولنا، وأنا لا أنام ودائماً أفكر: ماذا لو اضطررنا إلى النزوح مرة أخرى؟”، مشيراً إلى أن المشكلة لا تكمن في قرار النزوح نفسه، بل في التكلفة المادية الباهظة التي تتطلبها عملية الانتقال.

وتابع: “عندما نزحت أول مرة احتجت إلى شاحنة صغيرة لنقل أمتعتنا ودفعت 600 شيكل، لم يكن الأمر سهلاً علي، فقد اضطررت إلى الاستدانة من أحد أقاربي، والآن لا أملك ما يكفيني لنزوح جديد”.

وأكد أن النزوح لمرة واحدة يرهق العائلة، فكيف حين يضطر الناس إلى تكرار التجربة أكثر من مرة؟ مضيفاً: “كل مرة تتحول المنطقة التي نلجأ إليها إلى هدف للقصف، فنفكر في النزوح مجدداً، تكاليف النقل وحدها تكفي لتدمير ما تبقى من ميزانيات الأسر، فكيف إذا أضفنا تكاليف المأكل والمأوى وغيرها؟”.

وتعكس المؤشرات الاقتصادية في غزة حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها السكان، في وقت تجاوزت نسبة الفقر حاجز الـ 90%، بينما بلغت نسبة البطالة أكثر من 83%، وهي من بين الأعلى في العالم. هذه الأوضاع تجعل أي تكلفة إضافية مهما كانت صغيرة، عبئاً لا يمكن تحمله.

في حين، يرفض الفلسطيني بلال عبده (41 عاماً) من سكان حي الصفطاوي شمال غزة، النزوح رغم صعوبة الوضع الميداني هناك، قائلاً: “النزوح مكلف جداً نحن لا نكاد نعيش يومنا كيف لنا أن نوفر مئات الشواكل لننتقل من منطقة إلى أخرى؟”

وأوضح عبده في حديثه مع أحد الصحفين  أن الأزمة لا تتوقف عند تكاليف التنقل فقط بل تتعداها إلى ما هو أكثر، مضيفاً: “لو نزحنا إلى منطقة أخرى، فماذا بعد الوصول؟ نحتاج إلى خيمة لنقيم فيها وسعر الخيمة اليوم تجاوز ألفي شيكل، وهذا مبلغ يفوق قدرة أي أسرة تعيش بلا دخل أو عمل”.

وأكد أن النزوح بالنسبة له لا يعني مجرد حركة انتقال، بل سلسلة من الأعباء المادية التي لا يستطيع تحملها، لافتاً إلى أن النقل يحتاج إلى شاحنة بمئات الشواكل، والخيمة بمبلغ أكبر، ثم الطعام والشراب والدواء، كلها مصاريف لا نقدر عليها”.

وختم عبده حديثه بشعور من الإصرار والمرارة في آن واحد: “لهذا السبب اخترنا البقاء رغم القصف، على الأقل نحن في بيتنا أما النزوح فيعني أن نخسر كل شيء ونعيش في خيمة مكلفة لا نستطيع دفع ثمنها”.

تجارب قاسية في غزة

يروي الفلسطيني محمود رويشد (36 عاماً) من مشروع بيت لاهيا شمالي القطاع، تجربته القاسية مع النزوح، قائلاً: “اضطررت في نهاية مايو الماضي إلى النزوح مشياً مع عائلتي إلى منطقة المخابرات شمال غرب مدينة غزة، بعدما عجزت عن دفع تكاليف المواصلات، كنت بحاجة إلى 500 شيكل لاستئجار شاحنة، وهو مبلغ لم أستطع توفيره، فحملت أطفالي وسرت مسافات طويلة تحت الخوف والإرهاق”.

وأضاف رويشد في حديث لـ”العربي الجديد”: “تلك التجربة تركت داخلي خوفاً دائماً من تكرارها، خصوصاً أنني نزحت سبع مرات خلال هذه الحرب، واليوم يراودني هاجس النزوح مجدداً، لكن لا أعرف كيف سنتنقل هذه المرة، لا مال لدينا ولا مكان واضحاً يمكن أن نستقر فيه”.

وأكد رويشد أن الأزمة ليست بالرغبة في النجاة فقط، بل في المعادلة القاسية بين البقاء في منطقة خطرة أو النزوح بلا وسيلة نقل، متابعاً: “المواصلات مكلفة جداً، حتى لو أردت أن أبيع بعض الحاجيات فلن يكفي المبلغ لنقل عائلتي الكبيرة، لذلك النزوح عندنا ليس قراراً بل عجز، نعرف أن البقاء خطير لكن النزوح مكلف إلى درجة أننا لا نملك ثمنه، فنجد أنفسنا عالقين بين الموت والفقر”.

وتعيش الفلسطينية فداء المطوق (26 عاماً) من بلدة جباليا البلد، مأساة مركبة بعد أن فقدت زوجها في قصف مدفعي استهدف منطقتهم في يونيو/ حزيران الماضي، ما اضطرها إلى النزوح مع أطفالها الثلاثة مشياً إلى شاطئ بحر غزة. وقالت المطوق في حديث لـ”العربي الجديد”: “نزحنا بلا مال، فقط أردت أن أنقذ أولادي، حملنا ما استطعنا من حاجياتنا وتركنا أخرى، ومشينا لساعات طويلة، مخاوف النزوح لم تفارقنا حتى اليوم”. وأضافت: “أفكر دائماً، ماذا لو اضطررنا إلى النزوح مجدداً، كيف سننتقل؟ لا أملك ثمن شاحنة ولا أملك مكاناً أستطيع أن أستقر فيه مع أطفالي”.

وأشارت إلى أنها بدأت تفكّر في بيع بعض الحاجيات القليلة التي اصطحبتها معها في رحلة النزوح، مثل أدوات المطبخ أو الفرش البسيطة، “أفكر أن أبيع هذه الأشياء حتى أوفر قليلاً من المال تحسباً لأي نزوح جديد، فالحياة باتت كلها ترحال بلا أفق”.

وختمت المطوق حديثها: “أكثر ما يرعبني ليس القصف فقط، بل فكرة أنني قد أضطر إلى حمل أطفالي مرة أخرى والمشي بلا مال أو وسيلة نقل، النزوح أصبح معركة مالية خاسرة، تدفع ثمنها أرواحنا قبل جيوبنا”.

أحمد أبو قمر ــ غزة

المصدر العربي الجديد

Share This Article