كتب باسم الخندقجي : من خيمة ستشرق غزة

المسار : على مدار تاريخ تطوره وتبلوره كجماعة وطنية وقومية منذ الاستعمار البريطاني في القرن الماضي على الأقل، عاش الشعب الفلسطيني وواجه تحديات خطيرة هددت وحدته ووجوده التاريخي والجغرافي.

ولربما كانت أولى وأفظع تلك التحديات هي، تداعيات النكبة الكولونيالية التي اقترفتها الحركة الصهيونية بتمثيلاتها العنفية والعنصرية، وما زالت تقترفها منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث أفرزت النكبة تمثيلات وكائنات وجماعات مشوهة، بالإضافة إلى خلقها أحياز وفضاءات جغرافية وزمانية غير عادية، إذ تحول الشعب الفلسطيني، الذي كان في أوج تبلوره قبل النكبة كشعب موحد ومتجانس إلى عدة جماعات دخلت في نفق مظلم استغرقت به زمنا ليس بالقصير، وممتدا ما بين عامي 1948 و1968. إذ أنه على مدار عشرين عاما، تم خلق الصيرورة التاريخية التي ستولد فيها الهوية الوطنية الفلسطينية، التي تجلت بأجمل وأرقى صورها وتمثيلاتها، إثر معركة الكرامة الآذارية، التي شكلت الربيع الفلسطيني الأول بعد خريف النكبة، ليكتمل المشروع الوطني الفلسطيني بكثافة بأبعاده كافة، وأهمها الرؤية السياسية الفلسطينية المتمثلة بالميثاق الوطني الفلسطيني، الذي صاغته وبلورته منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن هل أدى ذلك الخروج البهي من النفق الأول إلى إعادة اللحمة والتجانس للشعب الفلسطيني كجماعة واحدة تتمتع برؤية سياسية شاملة، وتعد بمثابة المرجعية الأخلاقية لكل التمثيلات وقطاعات الشعب؟

إن النكبة باعتبارها كينونة كولونيالية قائمة على معادلة الكائن الكولونيالي المسيطر، والكائن الكولونيالي الخاضع، أفرزت الجماعات الفلسطينية المشوهة، إذ ثمة جماعة في الضفة الغربية المستعمرة، وجماعة في غزة المدمرة، وجماعة في مخيمات اللجوء، وجماعة في الشتات، وجماعة في فلسطين المستعمرة منذ عام 1948، وكل جماعة من هذه الجماعات باتت تملك سلم أولوياتها الخاص بها، ما أدى إلى غياب وتهتك الأولوية الوطنية الموحدة، والخروج من تاريخ تطور الشعوب في صيرورة وطنية وقومية إلى حد ما، بل أصبحت هناك أزمان متضاربة ومتفاوتة في مستوياتها، فزمن غزة الذي يدق على إيقاع القصف الصهيوني، يختلف عن زمن الضفة الذي يدق على إيقاع قطعان المستوطنين الفاشيين، غير أن ثمة إشراقات اخترقت النفق ونقلت الجماعات إلى مستوى الوحدة المجازية. وكانت الإجابة على النكبة والنكسة في معركة الكرامة، إشراقتنا الأولى، أما ثاني أخطر التحديات وأقصاها فكان حصار بيروت، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وابتعادها عن الحدود الفلسطينية.

غير أن نفق الحصار والحرب الهمجية التي شنتها دولة النظام الصهيوني لم يدم طويلا، وانبعث الفلسطيني من حجر بعد ست سنوات عجاف، تاه فيها بتمثيلاته السياسية، ورؤاه التي غدت رؤى مشوهة وملتبسة بعيدة كل البعد عن المرجعية الاخلاقية التي شكلت عام 1968

فما بين برنامج مرحلي يفوح برائحة التسويات النتنة، وما تسمى قرارات الشرعية الدولية والتورط برهانات فرضت على قيادة المنظمة، أدهش الفلسطيني العالم وقيادته السياسية بحجارته المفعمة بالإرادة والأمل، لتوحد انتفاضة كانون من عام 1987 انتفاضة الحجارة الجماعات الفلسطينية في زمن واحد هو زمن المقاومة الشعبية، وشرع الفلسطيني يستعيد بعض ملامح وحدته الوطنية والهوياتية والزمنية، واندلعت الانتفاضة بعفويتها لتسقط إملاءات وتطلعات دولة النظام الصهيوني وحلفائه وأخذت الهوية الوطنية تتضح أكثر بعلم وكوفية وحجر، واشتباك شامل مع المستعمر .

غير أن النفق الذي تمت إنارته لبعض الوقت لم يزل، وما أن أوشك الفلسطيني على الخروج منه والانبعاث حتى جذبنا مرة أخرى إلى خيارات ورهانات مختلة ومشوهة ونفقية، تجلت في تأكيد خيار التسوية والمفاوضات، إلى ان وقعت كبرى نكباتنا السياسية، ألا وهي اتفاقية أوسلو المشوهة عام 1993، التي عززت من تحديد الملامح المشوهة للجماعات الفلسطينية وبعيدا عن لغة التخوين والإقصاء وتوجيه الاتهامات لهذا الطرف أو ذاك، فإن نفق أوسلو هو الأشد حيرة وظلاما والتباسا، وساهم بصورة مفجعة في ضرب أولويات الفلسطيني، بل أقصى أهم جماعة فلسطينية، وهي الجماعة الفلسطينية التي صمدت وبقيت في أرضها إبان نكبة 1948، ولم يعد الشعب الفلسطيني على درجة عالية من التجانس المأمول والوحدة المطلوبة، ليقيم الالتباس الرهيب ما بين بزة الفدائي وبدلة الوزير، ما بين مرحلة التحرر الوطني ومرحلة بناء الدولة، لتستمر الخيبة الفلسطينية، التي لم تسعفها كثيرا الانتفاضة الثانية ما بين عامي 2000 و 2004 التي ترجمت تضحياتها بانقسام فلسطيني فظيع تمثل بالاقتتال الداخلي في عام 2007 والوضوح التام لشكل الجماعات الفلسطينية، التي لم تعد متجانسة فحسب، وإنما متضاربة ومتناقضة مع بعضها بعضا، إلى أن انبعث الوميض من جديد خاطفا وصاعقا هذه المرة، من جماعة غزة التي أدهشت العالم بقدرة المقاوم الفلسطيني، على أخذ زمام المبادرة والاندفاع، بإرادة عصية على الانكسار نحو تحرير أرضه وتوحيد أولوياته وخلق الزمن الفلسطيني الموحد، ليأتي السابع من أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023 مباغتا ومدهشا، لا لدولة النظام الصهيوني فحسب، بل لنا جميعا وما انبعث الغزي من النفق منتصرا حتى انهالت عليه الإبادة الجماعية والدمار الشامل وفتحت في وجهه أبواب الجحيم الفاشي، وتحول النفق مرة أخرى الى مجموعة من الخيام، ولا خيام إلا في غزة، فمتى ستدرك الجماعات الفلسطينية في كل مكان أن الخيمة ليست غزية، بل فلسطينية وعالمية أيضا؟ ومتى سيدرك الفلسطيني أننا، رغم هذا النفق الإبادي والتدميري، الذي ما زلنا في بدايته المظلمة، أن خيمة غزة قد تلد لنا الأمل والوطن والحرية؟

كاتب فلسطيني

Share This Article