المسار : في السنوات الأخيرة، أصبح الحوار بين الناس مليئاً بالسطحية والتقلب، وغابت عنه القيم والأخلاق التي تثري أي نقاش سليم. إن تقلب المواقف، والانتهازية، والتشدد في الآراء الشخصية والسياسية والدينية والإعلامية، جعل من التواصل الحقيقي نادراً، وحوّل النقاش إلى صراع للهيمنة لا لتبادل الأفكار. ما نراه اليوم ليس مجرد فقدان لأدب الكلام، بل هو انعكاس لانهيار أعمق في القيم، وفقدان للقدرة على الاختلاف بسلام واحترام.
ويمكننا تلخيص الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذا الانحدار في منظومة الحوار والقيم عبر النقاط الجوهرية التالية:
1. غياب الأمان والخوف من العواقب:
يفترض الحوار الصحي وجود مساحة آمنة، يمكن للفرد من خلالها أن يعبر عن رأيه دون قلق من الانتقام أو الإهانة. ففي المجتمعات التي تسود فيها المخاوف —سواء من فقدان الوظيفة، أو الهجوم الاجتماعي، أو الملاحقة — يتحول النقاش إلى دفاع عن الذات، وتصبح اللغة هجومية بدلاً من أن تكون تبادلية؛ فالخوف يحول الحوار إلى مواجهة لا إلى تفاهم.
2. التربية على الطاعة لا الاختلاف:
تربى الكثيرون على نظام “التلقين”، حيث تُقدّم الإجابات الجاهزة ويُعاقب السؤال والنقد. هذا النهج يؤدي إلى ضعف مهارات النقاش العقلاني، ويجعل الناس يلجأون إلى السخرية، أو الشتائم، أو رفع الصوت كبدائل للحوار. وحين يكبر الفرد في بيئة كهذه، يصبح “التلون” والانتهازية أدوات حماية لا مجرد سلوك شخصي.
3. التسييس واستثمار الانتماءات:
تُستثمر الانتماءات السياسية، والدينية، والقبلية لصالح تصعيد الخلافات وتحويل النقاش إلى صراع رمزي. وحين يصبح الفوز في النقاش مساوياً للانتصار “على” الآخر، يختفي الاحترام المتبادل ويُستبدل الحوار بصراع محبوس في رغبة الهيمنة.
4. وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي:
تكافئ هذه المنصات الصراخ والاستفزاز، بينما يُقابل الحوار العميق باللامبالاة؛ مما يسرّع من وتيرة الانحدار ويعلّم الناس لغة الفوضى. ويتجلى التلون الانتهازي هنا في تغيير المواقف بحسب الجمهور أو المنصة، لا بحسب القيم أو الحقائق الثابتة.
5. فقدان القيم والثقة بالمعنى:
حين يلاحظ الفرد أن الكلام لا يغيّر شيئاً، وأن القوانين والمؤسسات صورية، ينهار لديه احترام الحوار. يصبح الالتزام بالكلمة مجرّد أداة مؤقتة، وتصبح الانتهازية وسيلة للبقاء أو كسب النفوذ السريع.
6. تقلب المواقف والانتهازية:
يعد هذا العامل من أخطر أسباب الانحدار؛ فالحوار يعتمد في جوهره على ثبات المواقف ووضوح القيم. إن التلون الانتهازي يجعل الشخص يغير رأيه بحسب المصالح أو التحالفات اللحظية، مما يفقد أي نقاش أرضيته الصلبة، ويحول الكلام إلى مجرد مناورة للهيمنة.
7. الانتقاد البنّاء وحدود الحوار:
النقد البنّاء هو حجر الأساس لأي حوار صحي، لكنه لا يعني إطلاقًا التجريح، أو الإهانة، أو التخوين. كل هذه الممارسات تحوّل النقاش إلى هجوم شخصي مدفوع بمصالح مادية. فعندما يغيب الهدف السامي ويُستبدل بالسعي لإحراج الآخر أو إذلاله، يتحوّل النقاش من أداة للتفاهم إلى وسيلة لتأكيد السلطة، وهو جزء لا يتجزأ من انحطاط الأخلاق.
8. انحطاط الروح الرياضية والممارسة العامة :
حتى الرياضة، التي يُفترض أن تكون مساحة للتنافس الشريف، أصبحت ساحة للسجال الشخصي والتهجم. أما البرلمانات، فهي المثال الأوضح على تحوّل المؤسسات من أدوات لخدمة المجتمع إلى وسائل لحماية النفوذ الشخصي؛ فبدلاً من أن تكون مكاناً لتشريع القوانين ومراقبة تنفيذها، أصبحت كثير من مقاعدها مجرد بوليصات تأمين للحصانة الشخصية، يغيب عنها المبدأ والالتزام الأخلاقي.
9. الإعلام كساحة للمصارعة لا الحوار:
من المؤسف أن كثيراً من المحطات الإعلامية لم تعد تقدم حلقات حوار حقيقية، بل صارت مسرحاً لحلبات مصارعة كلامية. الهدف لم يعد تبادل الأفكار أو توضيح وجهات النظر، بل إثارة الصراع وكسب “التريند” بأي ثمن. هذا النوع من الإعلام يعلّم الجمهور أن الجدال ليس للوصول إلى الحقيقة، بل للانتصار الرمزي، فيصبح الانحطاط اللغوي عادة يومية.
خاتمة:
إن انحطاط الحوار والتلون الانتهازي ليس صدفة، بل هو نتاج تراكم عوامل اجتماعية، وثقافية، وسياسية. إن علاج هذه الظاهرة يبدأ بإعادة بناء ثقافة الاختلاف، وتعليم مهارات النقاش العقلاني، وتعزيز الأخلاق كأساس ثابت لكل تواصل. وبدون هذا الإصلاح، سيبقى الكلام والصمت معاً مجرد أصوات تائهة في فراغ، بلا معنى ولا تأثير حقيقي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

