يهود في قلب الاحتجاجات على الإبادة في غزة: الكذبة التي هشمتها الصهيونية الدمويّة

لم تجد الأنظمة الأوروبيّة الحاكمة من حجة أخلاقيّة لتضيّق من خلالها على موجة عريضة من الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، اجتاحت وتجتاح شوارع وجامعات ومحطات القطار عبر القارة العجوز، سوى العدّة الكلاسيكيّة المستهلكة ذاتها: أي تهمة «العداء للساميّة».

وتحدثت جهات أمنية في عدة دول، من بينها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة عن تضاعف الحوادث والاعتداءات، التي تخضع لوصف العداء للساميّة منذ انطلاق شرارة الغضب الشعبي في أوروبا ضد القصف الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة المحاصر، المستمر دون انقطاع منذ ما يقارب الخمسين يوماً.

ونقلت التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي أنباء ومشاهد – لا يمكن الثقة بناقليها معظم الوقت – قال أصحابها إن «مصالح يهوديّة» – معابد ومدارس وأندية للجاليات – تعرضت لاعتداءات في غير مدينة أوروبية، وذلك رغم كل الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها السلطات لتوفير حماية إضافيّة لها.

 

«ليس باسمنا»: عملة زائفة لا يرغب فيها أحد

 

ومع أن هذه الحجّة قد تكون ذات وجاهةٍ في مجتمعات ما زالت تحمل عقدة مرحلة النازيّة ودورات الاضطهاد المؤسف، التي استهدفت اليهود الأوروبيين أثناءها – ضمن آخرين مختلفين دينياً أو عرقيّاً أو حتى فكريّاً ، إلا أن آلام هؤلاء التاريخيّة لم تعد كافيّة في ما يبدو – أقلّه في ذهن الأجيال الشابة – لتبرير الهجمات الوحشية التي تتولاها إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين في غزة.

إذ أن الحكومات، ورغم انحيازها العلني للدولة العبريّة وتشكيكها في أرقام الضحايا، ومحاولاتها الحثيثة لحظر الاحتجاجات – كما في ألمانيا مثلاً – أو استدعاء أنصار اليمين لتنظيم تظاهرات مضادة داعمة للكيان العبري – كما في فرنسا – أو الادعاء أن الجامعات أصبحت فضاءات «غير آمنة» للطلاب اليهود – كما في الولايات المتحدة – أو تشويه سمعة المشتركين في التحركات المؤيدة للفلسطينيين، كونهم مناصرين للإرهاب الإسلامي و»دعاة للكراهية» – كما زعمت وزيرة داخلية بريطانيا المقالة سويلا برافرمان – فقد انتهت أقرب إلى تأييد صيغة مخففة من شيء ما يدعى «الهدنات الإنسانية»، فيما تسبب التدّفق المتكرر لمشاهد القتل الجماعي للمدنيين على وسائل الإعلام بتعدد أشكالها – مرئية ومقروءة ومسموعة – إلى نوع من المناعة الشعبيّة الشديد المقاومة لأساليب التعتيم والدّعاية المعتادة. فالمذبحة وعداد الموت اليوميّ، الذي يحملق بعناد شره في وجوهنا مع كل نشرة إخباريّة أو تحديث للأنباء، والقصف المتعمد للمستشفيات وسيارات الإسعاف على الهواء مباشرة، والاستهداف المتعاقب لممرات الأمان المعلنة من قبل قيادة الجيش الإسرائيلي، وبمعرفته الموثقة، بما في ذلك مقرات منظمات الأمم المتحدة والمدارس العامة ودور العبادة، وأيضاً عمليات تسوية المخابز والمستودعات التجاريّة الخاصّة – التي تمثّل الرمق الأخير في الإمدادات الغذائيّة المتوفرة في القطاع – بالأرض، تميل بمجموعها إلى أن يبدو أيّ جدل أخلاقي يساق في تبريرها، أو الدّفاع عن مرتكبيها الآثمين أمراً منافياً لكل فطرة بشريّة سليمة، ويدين صاحبه، قبل أن يمس بالمعترضين على الإبادة الجماعيّة التي ينفذها جيش (الدّفاع) الإسرائيلي أو المطالبين بوقف فوريّ لإطلاق النار على القطاع.

 

كذبة وتهشمت: حمايتهم من أنفسهم؟

 

على أن توظيف سلاح الاتهام بـ»معاداة الساميّة» تلقى أقوى الصفعات على الإطلاق من قبل يهود (من مختلف الجنسيات، بمن فيهم حاملو جوازات سفر الكيان العبري) تقصدوا أن يكونوا في قلب التحركات المناهضة للحرب الإسرائيلية على غزّة، إن لم يتولوا قيادتها بأنفسهم، مع أنّ احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين يفترض بها أن تكون وفق الحكومات الغربيّة موجهة ضدّهم تحديداً.

على أن التلفزيونات، والمواقع الإخباريّة، ووسائل التواصل الاجتماعي نقلت جميعها احتفالاً وترحيباً حاراً بالمشاركين اليهود من مختلف فئات الطيف السياسي والثقافي – من اليساريين المتطرفين إلى الأرثوذكس المحافظين، مروراً بالليبراليين العلمانيين – في كل التظاهرات، دون استثناء، ناهيك عن تنظيم مجموعات يهوديّة تغلب عليها التيارات الشبابيّة احتجاجات صاخبة تنديداً بالعدوان على غزة انتهى بعضها إلى اعتقال السلطات لمئات المشاركين فيها بدعوى تعريضهم الأمن العام للخطر. وكان لافتاً أيضاً أن إسرائيليين مقيمين في الغرب خاطروا بأمنهم الشخصي وبأرزاقهم عبر رفع الصوت عالياً ضد الممارسات الإجراميّة لدولتهم، كما ضدّ كل قمع لحريات التظاهر والاحتجاج تمارسها الحكومات الغربيّة، تحت ستار حماية اليهود – كيهود – من عداء مزعوم للساميّة.

لقد شهد الشارع الأوروبيّ، كما وسائل التواصل الاجتماعي، هذه المرّة سقوطاً مدوياً لتهمة «معاداة الساميّة» التي طالما لاكتها أفواه السياسيين الغربيين المتصهينين. وإذا كانت تلك الأداة المسيسة قد تضررت في أوقات سابقة نتيجة حروب غزو لبنان والعدوانيات المتكررة على قطاع غزة والاعتداءات اليوميّة على المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربيّة – فإنها تهشمت تماماً اليوم، وأصبحت بأفضل الأحوال نوعاً من الموسيقى النشاز في قلب أوركسترا عالميّة عريضة تصدح بأعلى النغمات من أجل السلام ووقف القتل.

 

تاريخ عريق من الاستهداف أضاعته الصهيونية الدمويّة

 

بالطبع فإن كراهية اليهود كأتباع دين سماويّ أو حتى كعرق إن جاز اعتبارهم عرقاً – وتلك مغالطة بيولوجية ومنهجية، ليس مكانها هذه العجالة – لم تكن يوماً منتجاً فلسطينياً، إذ بين الفلسطينيين مسلمون ومسيحيون ويهود ومن طوائف أخرى، ولا عربياً بحكم أن اليهود التاريخيين في المشرق كانوا جزءاً من المشهد الثقافي والاجتماعي للبيئة العربيّة، منذ ما قبل ظهور الإسلام، ولا مسلماً، حيث عاش اليهود عصورهم الذهبيّة في القرون الوسطى في كنف الدول العربية الإسلاميّة المتعاقبة في وقت تعرّض فيه هؤلاء إلى تاريخ طويل من التحيّز والعداء والكراهية في الفضاء الغربيّ، فحمّلوا في الثقافة المسيحيّة وزر التآمر لصلب السيّد المسيح، فكانت المذابح ضدّهم شائعة في أوروبا من شرقها إلى الغرب، وخاصة في موسم عيد الفصح المجيد، وبشكل مبالغ فيه خلال أوقات المجاعة أو الوباء، عندما كان أتباع الديانة اليهوديّة أهدافاً سهلة لتحميلهم مسؤولية كل فشل اجتماعيّ أو اقتصادي أو ثقافيّ، وتضاعفت المخاطر مع تبلور الصورة النمطيّة للمرابي اليهوديّ مصاص الدّماء نتيجة تولي هؤلاء المتاجرة بالفوائد الربوية المحرمة في المسيحية والإسلام إبّان فترة تطور الرأسمالية الحديثة.

ولعل هذه الصور من المعاملة المنحازة المهينة لهم في المجتمعات الغربيّة كانت الغطاء الذي تلفعت به الحركة الصهيونيّة، بداية من عهد مؤسسها تيودور هرتزل، وانتهاء ببنيامين نتنياهو، رئيس وزراء كيانها القائم اليوم لتبرير الحاجة إلى إنشاء وطن (قوميّ) لليهود في فلسطين، حيث الزعم بأن المنحدرين من أمهات يهوديّات لن يكونوا موضع ترحيب في أي مكان ما داموا يعيشون في (الشتات). ورغم التلفيق الظاهر في تصوير اليهود كقوميّة، إلا أن اضطهاد يهود أوروبا الشرقية وألمانيا في سنوات النظام النازي، وما سمي بالهولوكوست، أوقع المجتمعات الأوروبيّة ما بعد الحرب في عقدة ذنب تجاه اليهود استغلتها الجهات الصهيونيّة بكفاءة منقطعة النظير لدفع العالم إلى المشاركة والتواطؤ في سلب الأراضي الفلسطينية والعربيّة من أصحابها، وتنفيذ برامج تطهير عرقيّ وتهجير ممنهج ضدّهم، على مرأى ومسمع من العالم (المتحضر). لكنّ الصلف المتزايد للدولة العبريّة في انتهاك كل حقوق للفلسطينيين وارتكاب كل جرائم الحرب التي يمكن أن تخطر على الذهن، دون خشية من مساءلة أو عقاب، فلا شكّ مصدرها الدّعم المفتوح والمستدام للكيان العبري من قبل دولة العالم الأعظم: الولايات المتحدة. وتحت مظلة الحماية الأمريكيّة هذه تم انتقال المعنى في سلاح (العداء للساميّة) من مفهوم استهداف اليهود كيهود إلى مسألة توجيه أدنى انتقاد للدولة العبرية، حتى لو كان ذلك بشأن قوانين مجحفة حول نقل ملكيّة الأراضي أو ممارسات سافرة ضد حقوق الإنسان أو حتى ارتكاب مذابح بحق السكان المدنيين، وهو ما تراكم اليوم من خلال الحرب على غزة كي يسقط كل شيء هكذا، مرّة واحدة، وربما إلى الأبد. فلن يكون سهلاً بعد اليوم إقناع الأجيال الجديدة ببراءة ذمة الدولة العبرية عن جرائمها تحت التهديد بالوصم بمعاداة السامية.

«إنّها ليست الخوارزميات، التي تتسبب بظهور تعاطف هائل مع الفلسطينيين بين أجيال الشباب حول العالم»، يقول مسؤول في الشركة صاحبة تطبيق «تيك توك» لتفسير تضخم المادة المتوفرة عن فلسطين على الموقع، «بل إن الجيل الجديد مؤيد للفلسطينيين بشكل ساحق».

لقد ذبحت الصهيونية الدّموية مع ضحاياها الفلسطينيين في حربها الأحدث على غزة الحجة الأخلاقية المزعومة (معاداة السامية) بقرتهم الحلوب، لتقف الدّولة العبرية اليوم أمام أعين الرأي العام العالمي عارية بلا ثياب تغطي همجيتها وتعطشها لدماء المدنيين.

إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

ندى حطيط