المسيح يحمل حجرا… وهو ابن هذه الأرض

كتب …الياس خوري


بهذه لكلمات افتتح يوحنا انجيله، وفي زمن سيادة العلمنة قرأناها بالمعنى العربي كي نزيل عنها جانبها اللاهوتي، لكننا وقعنا في الفخ؛ فالكلمة العربية مشتقة من فعل «كَلَمَ» أي جرح، فصارت الكلمة هي الجرح وعادت إلى معناها الأصلي، لأن المقصود في الكلمة كان المسيح. فالمسيح هو جرحنا وهو جرح الله في اللاهوت المسيحي.

إعادة اكتشاف المسيحية كجزء جوهري من تراثنا العربي كانت مساراً طويلاً، توجّه المطران جورج خضر بكلماته الجديدة المنحوتة من الأصول العربية. لكن ما يفعله الأب منذر إسحاق، راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم وبيت ساحور، يذهب عميقاً إلى ما بعد الترجمة.

فالنصرانية تعربت في القرن التاسع عشر لكنها بقيت في الحدود اللغوية، أما مسيحية الأب إسحاق فقد تغلغلت إلى جوهر اللاهوت المسيحي وأقام لنا مقترباً جديداً للقراءة تحررنا من الصهيونية المسيحية التي أسست للصهيونية اليهودية فيما بعد.

لقد أعاد هذا اللاهوتي اللوثري الأمور إلى نصابها، فقرأ العهدين القديم والجديد بعيون فلسطينية مسيحية غابت طويلاً عن كل القراءات.

فهي قراءة نقدية قامت بتحطيم القراءات الغربية التي سعت إلى فصل المسيحيين الشرقيين عن أرضهم وتغريبهم عن المسيح الذي هو ابن هذه الأرض. والهدف هو تفكيك بنية العائلة المقدسة وتغريب أفرادها عن بعضهم عن بعض. هكذا تنكسر الروابط في فلسطين وتتحطم الأفكار وتتفتت الأرض بحيث تصير غريبة عن أصحابها، تفصلها حواجز الاحتلال والرقابة العسكرية.

كانت العائلة المقدسة هي رمز للوطن. والغزاة اليوم يحطمون العائلات كي يكسروا فكرة الوطن ويزيلوها من الوجود، لذلك نرى كمية الجرائم التي ترتكب في غزة وجنين وطولكرم وبقية المدن الفلسطينية ومخيماتها

من هنا نبعت فكرة لاهوت الأرض وهو اللاهوت الذي يربط الإنسان بالله عبر أرضه ويقيم علاقة جديدة بين اللاهوت والحياة اليومية.

فهذا ليس لاهوتاً منفصلاً عن الشعب أو عن ثقافته أو عن تراثه، إنه لاهوت الفقراء والمستضعفين والمظلومين.

لذلك يجد المسيح نفسه في قلب هذا اللاهوت، وعندما كان القسيس منذر إسحاق طفلاً صغيراً تساءل: لو كان المسيح يعيش بيننا، هل كان سيرمي حجراً؟ وهو تساؤل نابع من وعي طفل لمسيحيته التي علّمته أن من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وكان ذلك خلال تجربة الانتفاضة الأولى.

هذا السؤال لم يُجب عنه الأب منذر إلا بالممارسة، أما لاهوتياً فقد أجابني عنه المطران جورج خضر حين ذهبت إليه لأخبره أنني على وشك الالتحاق بالعمل الفدائي في الستينيات.

فأجابني: الشيء نفسه. المسيح هو الفدائي الأول.

وأسكتني.

بحثُنا عن الفدائي الأول تشوه بفعل إكثارنا من الرموز المسيحية في الملصقات السياسية. ولكن رغم ذلك فإن هذه الرموز بقيت حية لأنها أخذتنا عميقاً إلى تراث لم نكن نعرفه بشكل جيد.

كان يجب أن نتعرف على أعمال فنانين هما كمال بلاطة وسليمان منصور.

بلاطة رسم الإطار النظري للعلاقة بين الأيقونة الفلسطينية واللوحة في فلسطين، وبذلك مهد الطريق أمام اكتشافنا للمسيح الفلسطيني العربي الذي رسمه سليمان منصور، مفتتحاً الطريق لاكتشافنا البصري للاهوت الأرض. فوظف منصور الكثير من الرموز الفلسطينية الشعبية: الأقمشة، التطريز الفلاحي، الزيتون، البرتقال، الحيوانات الأليف، إلى آخره…

الأب منذر إسحاق اخترق جدار صمت الكنيسة عبر اقترابه من الفن، فصنع تلك اللوحة التي لا تنسى عشية عيد الميلاد للمسيح الطفل في غزة.

لو قرر المسيح أن يولد اليوم في وطنه فلسطين لولد في غزة ملفوفاً بالكوفية الممزقة وهو يرتجف برداً تحت ركام البيوت.

هذه القدرة على صناعة الصورة وصوغ الفكرة هي ما يميز هذا الكاهن الذي دخل إلى منازل الفقراء وكتب لهم وعنهم لاهوتاً يليق بتجربتهم المأساوية ونضالهم من أجل التحرير.

تحية إلى هذا الكاهن الذي مثل رواية الشعب الفلسطيني في مواجهة الرواية الصهيونية التي سعت وتسعى إلى خنق الصوت الفلسطيني.