فلسطينيفن وثقافة

الإبرة أداة مواجهة: “روزات” تطرّز وتعيد إحياء الأثواب الفلسطينية ـ

المسار الاخباري: بين أزقة بلدة رام الله القديمة، وفي قلب الضفة الغربية المحتلة، تدور معركة من نوع مختلف، لا بنادق فيها ولا شعارات مدوية، بل إبرة، خيط، وقماش يحمل في نسيجه سردية وطنية مهددة بالطمس. شيرين علان، فلسطينية قررت أن تخوض معركتها الخاصة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، مستخدمة أداة تبدو بسيطة، لكنها محملة بتاريخ طويل من الهوية والمقاومة.

«روزات» هو اسم المشروع الذي أطلقته شيرين قبل سنوات، والذي تحول اليوم إلى منصة نسوية واسعة، تتجاوز كونها مبادرة ثقافية لتصبح شكلاً من أشكال المقاومة. من خلال هذا المشروع، تعكف نساء فلسطينيات على إعادة إحياء الثوب الفلسطيني، ليس فقط كزي تقليدي، بل كوثيقة مرئية تحكي عن الجغرافيا، والتاريخ والحب والمنفى.

وفي حديثها تقول «الاحتلال لا يكتفي بالأرض، بل يحاول أن يسرق رموزنا أيضاً، من التطريز إلى الطعام إلى الحكايات الشعبية حتى الحمص والفلافل الفلسطيني وضعوه في تراثهم المزيف. لقد رأيت من يتعلم منهم فن التطريز الفلسطيني ويحاولون بشتى الطرق سرقة الطرق الأصيلة وتاريخ التطريز حتى ينقلوه أيضاً إلى تراثهم. هذا ليس فقط اعتداء على ثقافتنا، بل محاولة محو متعمدة وطمس هويتنا الثقافية الأصيلة».

انطلق مشروع «روزات» من ورشات تطريز صغيرة في القرى، وجمع نساء من مختلف الأجيال، بهدف تعليمهن فن التطريز الأصيل كما كان يُمارس قبل النكبة. وحول أهمية الثوب الفلسطيني وطريقة تطريزه، توضح شيرين «الثوب الفلسطيني ليس مجرد زي، هو سجل بصري يحمل بصمات كل قرية ومدينة، كل غرزة تحمل رمزاً، وكل لون يروي حكاية، إنه خريطة الوجدان الفلسطيني». ويُعدّ الثوب الفلسطيني من أبرز رموز الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني، فهو لا يقتصر على كونه لباساً تقليدياً، بل يُجسد تاريخًا حيًا لكل منطقة وامرأة.

ففي رام الله، نرى تطريزات ناعمة بألوان هادئة كالزهري والأبيض تحاكي أناقة المدينة وهدوءها. بينما في الخليل، يغلب الطابع القوي والغامق في الثوب، بتطريز كثيف يُعبر عن صلابة أهل الجبل. أما بيت لحم، فثيابها غالباً فاخرة من حرير تُطرز بخيوط ذهبية وفضية تعكس تاريخها. وفي غزة، يظهر البهاء في الأحمر والبرتقالي، بينما تعكس أثواب جنين ونابلس الطبيعة الريفية برموز نباتية وطيور.

رموز هذه الأثواب لم تكن مجرد زينة، فكل غرزة كانت تحمل رسالة. فشجرة الحياة ترمز للخصوبة، والمفتاح للعودة، والعين للحماية، لتتحول الأثواب إلى وسائل تواصل بصري تنطق باسم صاحباتها ومجتمعهن.

لكن شيرين تدرك أن استعادة التراث لا تكفي، بل يجب أن يُحمى من الاستهلاك السطحي أو التوظيف غير المدروس. من هنا جاءت رسالتها لكل من يعمل في الصناعات الثقافية والإبداعية «الأصالة لا تُناقض الإبداع، لكنها تحميه من التزوير. لا يمكن بناء مبادرة ناجحة على مجرد تعلق عاطفي، بل على دراسة عميقة لمصدر هذا التراث، لتكون المنتجات الجديدة امتداداً حقيقياً للأصل، لا تشويهاً له». وتؤكد أن هناك مراجع ومجموعات أصلية من الأثواب القديمة يجب العودة إليها، إلى جانب زيارة المتاحف ودراسة الرموز والنقوش بشكل ممنهج. وتضيف «المنتج الذي يحمل القيم الأصيلة يصل للعالم ويقنعه. أما ما يُصنع بلا وعي، فسيبقى هامشياً أو يُشوه». ورغم شح الموارد، استطاعت شيرين وفريقها تدريب عشرات النساء والفتيات على تقنيات التطريز الأصيل، بمساعدة جيل نادر من السيدات اللواتي عاصرن ما قبل عام 1948. تقول علان «هؤلاء النساء هن كنز حي، ندعوهن لتدريب الفتيات، ونوثق ما يعرفنه قبل أن يغيب هذا الجيل نهائياً».

وتشمل الورشات التي تنظمها «روزات» أيضاً الخط العربي والحرف اليدوية المرتبطة بالتراث الفلسطيني، بهدف تشكيل منظومة متكاملة تحمي الإرث المهدد بالاندثار. وتتابع مديرة زوران «ما نفعله ليس إنتاجاً فقط، هو نقل قيم وإحياء للذاكرة. نعمل رغم العقبات، من نقص التمويل إلى غياب السياسات الثقافية الداعمة».

ورغم الشغف المتزايد من الشابات الفلسطينيات بتعلم التطريز، ترى شيرين أن مجرد الرغبة لا تكفي لضمان الاستمرارية. «نحتاج إلى مؤسسات تتبنى هذه المبادرات، وإلى دعم ممنهج يضمن أن تتسع التجربة وتتطور. غير ذلك، سنبقى نعتمد على الجهود الفردية، التي تنهك أصحابها وتنتهي سريعاً».

في سؤال حول أثر سرقة التراث الفلسطيني على السردية الدولية، ترى شيرين أن الاحتلال الإسرائيلي لا يسرق فقط الأرض، بل يحاول احتكار الرواية الثقافية أمام العالم. «للأسف، نجحوا في مواقع كثيرة. يقدمون عناصر من تراثنا على أنها إسرائيلية، مدعومة بآليات تسويق قوية، بينما نفتقر نحن إلى الأدوات نفسها. لكننا نحاول أن نرد، لا بالشكاوى، بل بصناعة حقيقية تنبض بالأصالة».

وترى شيرين أن التراث ليس فقط مسألة فنية أو جمالية، بل قضية ذات أبعاد اقتصادية ومجتمعية أيضاً. «نحن لا نحفظ التراث لمجرد الحنين، هو أداة تمكين أيضاً. حين تتعلم فتاة فلسطينية حرفة أجدادها، فهي تبني لنفسها فرصة عمل، وتستعيد جزءاً من روايتها». ولا ترتدي شيرين الثوب الفلسطيني فقط، بل تعيشه، تحيكه بإصرار، وتغرس في كل غرزة منه رواية لا تزال تقاوم محاولات الطمس. «نحن لا نطرز القماش، بل نخيط الذاكرة. كل ثوب نحيكه هو صفحة من روايتنا الوطنية، ومن حقنا أن نرويها نحن، لا أن تُسرق وتُعاد إلينا بلسان آخر».