المسار الاخباري: قبل انتفاضات 2011، كان الشرق الأوسط يبحث عن سبل للتعافي من تداعيات الغزو الأمريكي للعراق، ومن الانفجارات المتتالية للحرب على الإرهاب، ومن تعثر مفاوضات السلام بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وبين السلطة الفلسطينية واستمرار حصار غزة وتزايد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتكرر العمليات الإرهابية داخل إسرائيل، ومن التصعيد مرة تلو الأخرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة وبين إسرائيل وحزب الله في لبنان، ومن التوترات المستمرة بين إيران وجيرانها العرب في الخليج وبينها وبين الولايات المتحدة والدول الغربية وإسرائيل بسبب مشروعها النووي وسياساتها الإقليمية.
وحين أدخلت الانتفاضات مجموعة من العناصر الإضافية إلى المشهد الشرق أوسطي بإزاحة حكام من بعض البلدان (تونس ومصر) وبالزج ببلدان أخرى إلى هاوية الحروب الأهلية والصراعات الداخلية (ليبيا وسوريا واليمن) بدا الأمر وكأننا سنعود إلى «غليان» حقبة الخمسينيات والستينيات التي تواكب بها تبدل نظم الحكم والنخب الحاكمة (سقطت ملكيات وقامت جمهوريات وحدثت ثورات هنا وانقلابات عسكرية هناك وانقلابات على الانقلابات هنا وهناك) مع ارتفاع مناسيب التوتر الإقليمي وغياب الأمن الجماعي وتواتر تدخلات القوى الخارجية بأدوات عسكرية وغير عسكرية (بفعل حروب العرب وإسرائيل وحروب الاستقلال الوطني في الجزائر وجنوب اليمن وعسكرة الثورات في شمال اليمن وعمان وغيرها). على أثر ذلك، شرعت دول الخليج في تعديل سياساتها الخارجية بغية الاستجابة للأوضاع المتغيرة والتحديات الجديدة.
في 2011، نظرت حكومات السعودية والإمارات إلى انتفاضات الربيع كمصدر خطر إقليمي يتمثل في احتمالية الفوضى الشاملة وفي وثوب حركات وتيارات الإسلام السياسي على مقاعد الحكم في بعض البلدان العربية وفي نفاذ إيران إلى ساحات جديدة مستغلة غياب الاستقرار وحضور العنصر الشيعي في بلدان كالبحرين واليمن. في سياستهما الخارجية، تحركت الرياض وأبو ظبي لمواجهة الإسلاميين (البحرين نموذجا وليبيا نموذجا تاليا) ولمد جسور التواصل مع بعض مكونات النخب الحاكمة التي لم تكن على وفاق مع الإسلاميين في بلدان الانتفاضات (المؤسسات العسكرية والأمنية والقوى العلمانية في تونس ومصر نموذجا) ولاحتواء تمدد النفوذ الإيراني (في البحرين واليمن كما في العراق وسوريا ولبنان). تحركت العاصمتان أيضا، تعويلا على الوفرة النفطية وعوائدها المتصاعدة، لرفع معدلات تسليح الجيوش والسعي وراء ضمانات عسكرية للحماية والأمن من الولايات المتحدة الأمريكية قبل كافة الدول الغربية الأخرى وللانفتاح الدبلوماسي على منافسي الغرب المتمثلين في الصين وروسيا وشراء بعض النظم التكنولوجية (الصين) ونظم السلاح (روسيا) منهما بحثا عن تنويع التحالفات الدولية للبلدين وتجنب الاعتماد الأحادي على الغرب.
حين أدخلت الانتفاضات مجموعة من العناصر الإضافية إلى المشهد الشرق أوسطي بإزاحة حكام من بعض البلدان وبالزج ببلدان أخرى إلى هاوية الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، بدا الأمر وكأننا سنعود إلى «غليان» حقبة الخمسينيات والستينيات
غير أن المساعي السعودية والإماراتية لإدارة المشهد الشرق أوسطي وتوظيف خليط دبلوماسية عوائد النفط والضمانات الأمريكية والتحالفات الدولية، بل والاستعداد للفعل العسكري المباشر وغير المباشر في بلدان الانتفاضات (البحرين وليبيا وسوريا كأمثلة) لمواجهة الإسلاميين واحتواء النفوذ الإيراني، لم يحل دون اشتعال الأوضاع في جوارهما الإقليمي المباشر، في اليمن. تعثر الانتقال الديمقراطي والانتقال السلمي للسلطة في اليمن في أعقاب انتفاضة 2011 ورتبت صراعات القوى الداخلية المختلفة نشوب حرب أهلية تورط بها جماعة الحوثي المدعومة من إيران وتورطت بها الحكومة الرسمية وقوى أخرى تساندها السعودية والإمارات، وكانت النتيجة هي تدخل عسكري مباشر من قبل الدولتين ومعهما البحرين في 2015 وتمادي المواجهات بين قوات «التحالف العربي» وبين الحوثيين مدججين بترسانة أسلحة إيرانية مكنتهم من شن هجمات على الأراضي السعودية والإماراتية حتى 2023.
وفي ربيع 2023، وبعد جولات وساطة سابقة استضافتها عمان والعراق لتقريب وجهات النظر العربية والإيرانية ولإنهاء حرب اليمن التي حملته كلفة إنسانية ومادية باهظة، أعلنت الصين نجاح وساطتها بين السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين التي كانت قد قطعت في 2016ولاحترام السيادة الوطنية لدول المنطقة وعدم التدخل في شؤونها، وانعكست الوساطة الصينية الناجحة لترتب تدريجيا وقف المواجهات العسكرية في اليمن وانسحاب القوات السعودية والإماراتية (جزئيا) منه وامتناع الحوثيين عن الاعتداء على أراضي البلدين.
وبينما عولت السعودية، قبل نشوب الحرب في 7 أكتوبر 2023، على الهدوء النسبي في اليمن والتحسن النسبي في علاقتها مع إيران، للابتعاد عن الصراعات والتوترات الإقليمية والتركيز على إصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في إطار «رؤية 2030» وواصلت أيضا جهود تنويع تحالفاتها الدولية واستعادت حيوية الرابطة الخاصة مع الولايات المتحدة بمفاوضات حول اتفاقيات أمنية جديدة وحول فرص التطبيع بين المملكة وإسرائيل؛ كانت الإمارات تبتعد عن التورط في حرب اليمن وتنفتح على توظيف بعض أدوات سياستها الخارجية في ساحات صراعية أخرى (السودان منذ نشوب حربه الأهلية الجديدة في 2023) وتقود مجموعة من البلدان العربية (البحرين والمغرب وتاليا السودان) لتوقيع «الاتفاقيات الإبراهيمية» مع إسرائيل وتكثف التبادل التجاري والتعاون الدبلوماسي والسياسي والأمني معها، وتطور أيضا بقية تحالفاتها الإقليمية بعلاقات متميزة مع مصر وتطبيع تدريجي مع سوريا وتنمي تحالفاتها الدولية بعلاقات خاصة مع الصين وروسيا.
يصبح السؤال الآن، وبعد مرور أكثر من عام على نشوب الحرب وامتدادها التدريجي إلى الجوار الإقليمي المباشر لفلسطين في لبنان وسوريا والجوار البعيد في العراق واليمن وتكرر الضربات العسكرية المتبادلة بين إسرائيل وإيران، هو إذا ما كانت السعودية ستواصل الابتعاد عن قضايا الشرق الأوسط معولة فيما خص ضمان أمنها على علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة أم ستسعى إلى تنشيط سياستها الخارجية للحد من أخطار منطقة غير مستقرة وإذا ما كانت الإمارات ستتمسك بمسارات التطبيع مع إسرائيل على الرغم من جرائم حكومة بنيامين نتنياهو وتنصلها التام من مبدأ الأرض مقابل السلام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها فقط