بقلم: عوفر اديرت
المسار : تقليص عدد السكان”، “اخلاء البيوت”، “النقل”، “الطرد”، “التهجير”، “الافراغ” وحتى “ترانسفير”. طيف واسع من الكلمات التي استخدمها رؤساء حكومة في نقاشاتهم التاريخية في الستينيات والسبعينيات حول مستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة. الاطلاع على محاضر الجلسات في ارشيف الدولة يظهر أن توق اليمين المتطرف الحالي، “تشجيع الفلسطينيين على الهجرة من قطاع غزة”، فقط يردد صدى افكار واقتراحات تم طرحها للنقاش في السابق، من قبل رؤساء حكومة ووزراء وزعماء في حكومات اليسار، الذين كانوا ينتمون لجيل مؤسسي الدولة.
الوزراء طرحوا افكار كثيرة من اجل حل المشكلة التي واجهتهم عند احتلال قطاع غزة والضفة الغربية في حرب الايام الستة. في هذه المناطق كان يعيش في حينه نحو مليون فلسطيني، 400 ألف شخص من بينهم في القطاع. في الفضاء تم طرح اقتراحات لنقلهم من قطاع غزة الى الضفة الغربية والاردن وشبه جزيرة سيناء ودول عربية أو أي مكان آخر في العالم يمكن أن يستقبلهم، قسرا أو طواعية، بالتحايل وبكل انواع المحفزات.
لو أننا نستطيع اخلاء 300 ألف لاجيء من القطاع وارسالهم الى اماكن اخرى… فسنستطيع ضم غزة بدون أي مشكلة”، قال وزير الدفاع في حينه موشيه ديان، في 25 حزيران 1967. وقد ذكرت في اقواله فكرة كانت مقبولة على الحكومة في حينه، ولكن لم يتم تطبيقها في نهاية المطاف بالكامل، وهي ضم قطاع غزة لاسرائيل وافراغه من اللاجئين الفلسطينيين، وبعد ذلك توطين اليهود فيه. “أنا اقترح صيغة لضم القدس وقطاع غزة، وإن كنت لا اقول الامرين بمرة واحدة”، قال رئيس الحكومة في حينه، ليفي اشكول. “على القدس نحن مستعدون لأن نُقتل. وبخصوص قطاع غزة، عندما نذكر الـ 400 عربي، فانه يحدث لنا القليل من الألم في القلب”.
الوزراء هبوا للمساعدة وقاموا باقتراح حلول، كيف نقوم بتسوية مسألة اللاجئين في قطاع غزة؟. وزير الداخلية في حينه، حاييم موشيه شبيرا، اقترح وقال “يمكن نقل 200 ألف لاجيء الى مدينة العريش أو توطين جزء منهم في الضفة الغربية”، واشار الى المدينة المصرية في شبه جزيرة سيناء، التي احتلتها اسرائيل في حرب الايام الستة. وزير الشرطة في حينه الياهو ساسون اقترح “نقلهم الى الضفة الشرقية”، أي الى الاردن. “يجب امساكهم من اعناقهم ورميهم الى الضفة الشرقية. ولا أعرف من الذي سيتسلمهم، لا سيما اللاجئون من غزة”، قال الوزير يوسف سفير.
الوزير يغئال الون قال “التشجيع على الهجرة الى ما وراء البحار. يجب معالجة هذا الامر بصورة اكثر جدية”. ايضا هو استنتج أن الهدف الافضل هو شبه جزيرة سيناء، لكنه اقترح توسيع المجال، “شبه جزيرة سيناء الواسعة، ليس فقط مدينة العريش، يمكن توطين كل اللاجئين من غزة فيها، وحسب رأيي عدم الانتظار. يجب البدء في التوطين، حتى لو قاموا بازعاجنا”. بعد ذلك طرح اقتراح أن يذهب جزء من الفلسطينيين الى “كندا أو استراليا”. ليفي اشكول لخص اللقاء وقال “أنا قلت هذا ايضا عندما لم تكن المشكلة صعبة بعد. أنه يجب على اللاجئين تدبر امورهم خارج اسرائيل خاصتنا”.
بهدوء وصمت وسرية
في 1 تشرين الاول 1967 تساءل وزير العدل في حينه، يعقوب شمشون شبيرا، “متى سنحصل على معلومات عن الخطة حول توطين اللاجئين في قطاع غزة في الضفة الغربية؟”، قال وشرح. “أنا سمعت شائعات”. في ذلك الوقت عملت لجنة مهنية باسم “لجنة تطوير المناطق التي تم وضع اليد عليها”، وكان في عضويتها رجال أمن واكاديميين. مهمتها، حسب اشكول، كانت فحص “الوضع المالي والاجتماعي لكل هذه الامبراطورية أو اجزاء الامبراطورية”، وضمن ذلك “ايضا طرح افكار حول الهجرة”. الاعضاء في اللجنة ادركوا الحساسية السياسية لعملهم، لذلك قاموا بتوصية الحكومة بتجنيد اللاجئين في مشاريع هدفها السياسي غير بارز، وعرضها على أنها “عمليات انسانية” وليس “جزء من حل دولي لمشكلة اللاجئين”.
نقاشات الوزراء استمرت حتى نهاية السنة. “كل موضوع الهجرة بحاجة الى معالجة اكثر جدية وبصورة حثيثة اكثر. عندها سيكون بالامكان تشجيع ذلك والسماح للكثيرين بالمغادرة”، قال ديان في تشرين الثاني 1967. اشكول اضاف: “في هذه الاثناء يخرج 2000 شخص في كل اسبوع الى الاردن، الجزء الاكبر منهم من ابناء القطاع”. توجد افكار مختلفة، هجرتهم الى دول أبعد. في نهاية كانون الاول تحدث ديان عن اتفاق سلام يشمل “توطين اللاجئين، اخراجهم من غزة وتوطينهم في الضفة الشرقية للاردن”. وقد وعد بأنه في مثل هذه الحالة “في غزة لن يكون 400 ألف عربي، بل 70 – 100 ألف”. في اليوم التالي قال اشكول “نحن معنيون بافراغ غزة في البداية. لذلك، في البداية سنسمح للعرب من غزة بالخروج”. الوزير يغئال الون ذهب ابعد من ذلك وقال “لم يكن من السيء تخفيف الجليل ايضا من العرب”.
الوزير ساسون شرح كيف سيساعد في تحقيق هذا الهدف خروج الفلسطينيين لغرض العمل. “يجب مساعدتهم في البحث عن عمل… بعد ذلك سيأخذون عائلاتهم الى هناك. من كل ذلك نحن يمكن أن نكسب عن طريق تقليص عدد العرب في هذه المناطق”. ديان وافق واضاف “عن طريق اعطاء الفرصة لهؤلاء العرب، البحث وايجاد عمل في الدول الخارجية، تزداد احتمالية رغبتهم في الهجرة بعد ذلك الى تلك الدول”. الوزير ألون مرة اخرى حاول ضم للخطة ايضا عرب اسرائيل. “لماذا لا يمكن توسيع ذلك ليشمل عرب اسرائيل القديمة؟”، تساءل.
في اليوم الاخير من العام 1967 كان ليفي اشكول رجل البشرى عندما قال: “أنا اعالج اقامة وحدة أو خلية ستعمل على تشجيع هجرة العرب من هنا”، كشف للوزراء. “يجب معالجة هذا الموضوع بهدوء وسكينة وسرية، ويجب ايجاد طرق لهجرتهم الى دول اخرى، وليس فقط الى الاردن”. هكذا، في حينه كانت عدة مبادرات ناجعة لـ “تشجيع” هجرة الفلسطينيين من غزة. أحدها كان بقيادة عيدا سيرني، وهي من رؤساء مؤسسة الهجرة 2، وارملة المظلي انتسو سيرني. وثيقة من ايار 1968 توثق طلب من اجل تحويل ميزانية شهرية لـ “تشجيع الهجرة من قطاع غزة لتنفذ حسب تعليمات السيدة عيدا سيرني”. الفكرة هي خلق “هجرة هادئة” بصورة لا تعتبر اسرائيل مشاركة فيها. وحتى في هذا الاطار تم ارسال اسرائيليون لهم خلفية امنية كانوا يعرفون المجتمع العربي، مباشرة الى داخل التجمعات السكانية في غزة من اجل اقناعهم على تشجيع المغادرة طوعا.
بالتحديد بسبب هذه الانشوطة الخانقة والسجن الذي يعيشون فيه، ربما سيذهب العرب من القطاع، لكن حتى بعد ذلك سيبقى هنا (في اسرائيل) نحو 400 ألف عربي و150 ألف سيبقون في قطاع غزة”، قال اشكول في نهاية السنة. الحل الجديد الذي اقترحه كان قاسيا. “ربما لو أننا لم نعطيهم المياه بكمية كافية لما كان لديهم خيار، لأن البيارات ستجف وستذبل، لكن كل ذلك نحن لا يمكن أن نعرفه مسبقا. من يدري، ربما تنتظرنا حرب اخرى، وعندها سيتم حل هذه المشكلة. ولكن هذا نوع من الترف، حل غير متوقع”، قال.
شريطة أن يذهبوا الى البرازيل
في شباط 1968 شعر اشكول بالقلق من أن يعتقد أحد بأننا “نضغط على العرب لمغادرة البلاد”. ولكنه قال بروح الدعابة التي يتميز بها: “لن نقيم الحداد عليهم سبعة ايام اذا رحلوا”. بعد ذلك انتقل للتحدث بالارقام. “85 في المئة توجد كل الاموال المطلوبة لهجرتهم. أعتقد أن كل يهودي له عقل سيقول: أولا، خذ الـ 80 في المئة لتكون على ثقة بأنهم سيخرجون”. وزير الاديان، زيرح فيرهيبتغ، انضم للنقاش واقترح اقتراحات خاصة به. “الموضوع الرئيسي لدينا يجب أن يكون اعطاءهم امكانية الخروج طوعا من غزة من مبلغ معين”، قال. “يجب السماح لهم ببيع ممتلكاتهم التي لا تساوي الكثير، لكن يجب علينا استثمار اموالنا فيها. اذا دفعنا الف دولار ثمنا لكشك، شريطة أن يخرجوا مع عائلاتهم الى البرازيل أو الارجنتين فأنا اعتبر ذلك قيمة كبيرة، اذا استطعنا بهذه الطريقة دفع عشرات آلاف العائلات للخروج من غزة”.
لكن هو ايضا اقترح أن نكون حذرين في استخدام المفاهيم: “بدلا من القول لهم بأننا ندفع لهم الاموال مقابل الهجرة، الامر غير اللطيف وغير العادل… سنقوم بشراء الاغراض لهم وسندفع مقابلها اموال جيدة، وهذا سيدفعهم للخروج طوعا، حيث يكون في ايديهم مبلغ من المال لبدء حياتهم في دولة اخرى. العائلة التي تذهب الى امريكا الجنوبية بدون حتى أغورة واحدة، لا تسارع الى غرس جذورها في الدولة الجديدة. والعائلة التي ستخرج مع وسائل معيشة تكون لديها، فورا بعد وصولها الى الدولة الجديدة سيسهل عليها التكيف في تلك الدولة والبقاء فيها”.
في 1969 لاحظ ليفي اشكول وجود مشكلة. من جهة، اسرائيل تريد تشجيع الهجرة، ومن جهة اخرى، هي تستثمر في تطوير القطاع، وهكذا فهي تشجع السكان على البقاء. “اذا قمنا بترتيب الامور هناك فان الامر سيكون على ما يرام. بحيث يكون عمل وصناعة، ونقيم هناك مصانع ونشغل العرب – سيبقون في القطاع”، حذر اشكول. وزير الزراعة في حينه، حاييم جفعاتي، تطرق الى ذلك في جلسة اخرى وقال: “بالطبع نحن كنا نريد فعل ذلك من اجل تخفيف سكان غزة… هناك خوف من أنه اذا قمنا ايضا بترميم المخيمات في قطاع غزة فان اللاجئين سيرون أن الوضع مشابه في المكانين. عندها لن يكون أي معنى لترك قطاع غزة”.
الوزير الون أيد “استمرار وجود الفجوة في مستوى الحياة بين الضفة وقطاع غزة”. وحسب قوله فانه “محظور اعطاء في غزة مستوى يساوي المستوى في الضفة، لأنه عندها قوة جاذبية الضفة ستنخفض”.
اعطاء فرصة وجلب جرافة
اشكول توفي في 1969، والنقاش واصلته رئيسة الحكومة غولدا مئير. في 1970 حذر وزير الدفاع موشيه ديان من أنه يجب عدم المبالغة بالارقام. “اذا توجهنا الى خطة العشرين ألف فنحن نعلن بذلك عن ترانسفير”، قال. “هكذا نحن سنخرب الموضوع من البداية… اذا طلبوا مساعدتنا فأهلا وسهلا… هذه ستكون عملية بطيئة وطبيعية، والعرب سيفعلون ذلك بطريقة التسلل. أي أمر صارخ نقوم به سيفشل نفسه”. وزير التطوير حاييم لنداو اقترح فكرة جديدة: “تعليم مهني من الدرجة الاولى يجب اعطاؤه، وأن يكون بشكل مكثف، لأن هذا هو المدخل لامكانية هجرتهممن هناك”، قال. “لأن اصحاب المهن، هناك احتمالية اكبر كي يستطيعوا الاندماج وأن يتم استيعابهم في الدول الاخرى”.
في 1971 تطرقت الى ذلك غولدا مئير. “هناك موضوع تخفيف المخيمات. لا يوجد أي خلاف حول المبدأ”، قالت. ديان وصف الطريقة التي سيتم فيها طرد السكان من بيوتهم – بعضهم مشتبه فيهم بالارهاب ضد اليهود، أو العرب المحليين، وبعضهم اصحاب بيوت توجد مصلحة في هدمها. “نعطي لهم 48 ساعة من اجل الانتقال. يقولون لهم مثلا: أنتم ستنتقلون الى العريش أو الى مكان آخر وسنقوم بنقلكم… في البداية نعطيهم امكانية الانتقال طوعا. نخرج الاثاث من البيت. الرجل لا يأتي لترتيب شؤونه، نجلب جرافة لهدم البيت. اذا كان يوجد اشخاص في البيت نقوم باخلائهم منه. لأننا نعطيه 48 ساعة… هذا لا يعني أن هناك لحظة حاسمة نأتي ونقول فيها بأننا سنحملكم أنتم واغراضكم على شاحنات، بل نعطيه الفرصة لفعل ذلك طوعا.
حاييم بار ليفي القى في النقاش حبة بطاطا ساخنة عندما قال إنه محظور نقل الفلسطينيين الى الاماكن المخصصة لتوطين اليهود فيها لاحقا. “أنا على ثقة بأنه سيكون بالامكان العثور على اماكن. وحتى أننا وجدنا اماكن كهذه – لن تغلق في وجهنا امكانية الاستيطان اليهودي”، قال. “أنا على قناعة بأن ذلك لن يمنعنا من توطين عدد آخر من المستوطنات العبرية في القطاع”. ديان اشار الى أنه “لم يخطر ولن يخطر ببالنا توطينهم في مكان سيزعج ولو قليلا الاستيطان اليهودي”. ايضا وزير السياحة، موشيه كول، قال “اذا كنا نريد رؤية القطاع كجزء من اسرائيل فيجب علينا التخلص من جزء من السكان هناك بأكبر قدر. وسندفع تعويضات اكبر للاشخاص الذين يريدون الانتقال”.
الوزير غليلي، خلافا للآخرين، تحدث عن اشكالية هذه العملية. “أنا لا أتوهم بأن هذا عمل انساني وأننا نعمل لهم معروف”، قال في 1971. “لا أريد تزيين هذه العملية الوحشية، لكن هذا هو الضرر الاقل في الظروف الحالية”. الوزير شلومو هيلل ساهم ايضا بافكار من عالم الاخلاق: “مستوى الاخلاق لا يقاس بطرد الناس من بيوتهم رغم ارادتهم، سواء أحبوا ذلك أو لا”، قال. “مستوى الاخلاق يُقاس بأننا نحن السلطة في غزة، وأننا ننجح في تنفيذ ما تفرضه علينا السلطة. أي في المقام الاول حماية الابرياء والدفاع عن حياة المستعدين للعمل عندنا”.
غولدا مئير قالت إن الحديث لا يدور عن وحشية. “واضح أنه طوعا لن نصل الى تخفيف مخيم جباليا”، قالت وشرحت. “الامر سيكون لطيف اكثر اذا تم طوعا… لا يوجد أي خيار… حقا هذه وحشية فظيعة. نقلهم الى شقة… تعويضهم… اذا كان هذا وحشية فأنا لا اعرف كيف يتم فعل شيء بطريقة لطيفة. مع ذلك، لا شك في أنهم لا يريدون الانتقال”.
وقد دخلت الى النقاش ايضا كلمة “قسرا”. وزير الاديان فيرهيفتيغ قال لغولدا مئير: “من الافضل استخدام القسر اذا كانت هناك حاجة الى القوة. ولكن فقط من خلال ضجة الفوضى والصخب”. وقد اوضح أنه يجب علينا الانتظار الى حين التدهور أو الحرب من اجل طرد قسرا الناس من بيوتهم. “الآن، اخراج الناس قسرا والبدء في تحميل اللاجئين في شاحنات، هذا الموضوع سيلفت الانتباه ويسلط الضوء على ارض اسرائيل. أعتقد أننا لسنا بحاجة الى ذلك الآن”، قال. في نهاية المطاف غادر فقط بضع عشرات الآلاف من الفلسطينيين القطاع في تلك السنوات. المستوطنة الاولى في القطاع اقيمت في 1970، لكن معظم السكان الفلسطينيين في القطاع بقوا في اماكنهم. في 2005 تم اخلاء المستوطنين من القطاع. وتقريبا بعد مرور عشرين سنة يطالب وزراء شعبويون من معسكر ايتمار بن غفير باعادتهم. في بداية السبعينيات بدا الون كواحد منهم عندما قال “أنا اوافق على الطرد. نحن فعلنا ذلك في السابق ويجب مواصلته في المستقبل ايضا”. الون تحدث عن توسيع وتخفيف المخيمات القائمة، “سواء لاحتياجات أمنية أو من اجل البدء في ارسال اللاجئين الى اماكن، التي في الايام القادمة يمكن أن نرى فيها حلول دائمة”. هو لم يفحص اقواله. “حتى بالاكراه”، قال. في هذا الشأن لم يكن مناص. الحديث يدور عن الألم لمرة واحدة، وأنت يمكنك تفسير ذلك بالاحتياجات الامنية، والاحتياجات الصحية ايضا.