شبكة المسار الاخباري: سلطت صحيفة “الغارديان” في تقرير موسع لهان الضوء على تحويل الاحتلال الإسرائيلي مخيم جباليا للاجئين في شمال قطاع غزة في إطار حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ 14 شهرا.
واستندت الصحيفة في تقريرها إلى روايات شهود العيان، وصور الأقمار الصناعية، ومقاطع الفيديو، مبرزة أن الحملة الإسرائيلية المدمرة في مخيم جباليا، تم تنفيذها على ثلاث موجات، مما أدى إلى تحويل المخيم إلى أرض قاحلة مليئة بالأنقاض لا يمكن التعرف عليها.
وأشارت الصحيفة إلى أنه في صباح يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت منطقة “الترانس” في السوق المفتوح بمخيم جباليا تعج بالحركة. فبعد يومين من بدء حرب الإبادة على غزة كان الخيم لم يتعرض لغارات إسرائيلية.
وتأسس مخيم جباليا الواقع شمال المدينة التي تحمل الاسم نفسه في عام 1948. ورغم أنه لا يزال من الناحية الفنية مخيماً للاجئين، إلا أنه أصبح في العقود التالية غير قابل للتمييز إلى حد كبير عن بقية المناطق الحضرية في شمال غزة ــ مكتظ بالسكان، نابض بالحياة ومزدحم. فبالإضافة إلى السوق المفتوحة الكبيرة في وسطه، كان هناك مطاعم ومدارس وفريقان لكرة القدم ومخابز وعيادات.
حملة إسرائيلية مدمرة
بين الساعة العاشرة والنصف والحادية عشرة والنصف من صباح يوم التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استهدفت خمس غارات جوية إسرائيلية السوق، ما أسفر عن استشهاد العشرات من الأشخاص.
وكانت تلك الهجمات بمثابة الطلقات الأولى في حملة إسرائيلية مدمرة، تم تنفيذها على ثلاث موجات.
وتقول أحلام التلولي (33 عاماً) النازحة من منطقة تل الزعتر في المخيم: “هذا العام هو أحد أسوأ الأعوام التي مررت بها. لقد عشنا الدمار والقتل والجوع والنزوح والخوف والرعب والحصار. كل دقيقة تمر تبدو وكأنها عام كامل”.
وتعرضت جباليا لقصف جوي مكثف في الأشهر الأولى من الحرب. وكان الهجوم الأكثر دموية في 31 أكتوبر/تشرين الأول، والذي أسفر عن قتل العشرات من الناس وخلفت حفراً كبيرة في الأرض عند تقاطع مزدحم.
وقد طلبت سلطات الاحتلال من المدنيين في شمال غزة التوجه جنوبا، لكن كثيرين منهم لم يتمكنوا أو لم يكونوا راغبين في ذلك تمسكا بمنازلهم وأراضيهم.
قالت التلولي “كان والدي في المنزل ولم يكن بوسعه المغادرة لأنه كان مصابًا وبترت ساقه”، مضيفة “حتى لو أردنا المغادرة، لم يكن لدينا المال للذهاب إلى أي مكان أو تدبير احتياجاتنا”.
وفي الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، دخلت القوات الإسرائيلية المخيم. وقالت التلولي إن جميع أفراد الأسرة، باستثناء والدها، كانوا قد لجأوا بحلول ذلك الوقت إلى المدارس التي تديرها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وأضافت: “كنا نتناوب على العودة إلى المنزل للاطمئنان على والدنا. وفي أحد الأيام، عندما كانت زوجة أبي عائدة إلى المدرسة، استشهدت برصاص قناص. وبعد بضعة أيام، استشهد والدي أيضًا برصاص قناص”.
وقالت التلولي إن الأسرة اضطرت إلى الانتقال من مدرسة إلى أخرى مع اشتداد حدة القتال. وأضافت: “كنا نتضور جوعاً وبلا طعام. وحتى عندما كان الطعام متاحاً، لم يكن لدينا المال لشرائه”.
في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول، أعلن وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك يوآف غالانت أن القتال في جباليا انتهى، وأن مئات من المقاومين تم القضاء عليهم. وفي أواخر يناير/كانون الثاني، انسحبت إسرائيل من المخيم.
الهجوم الثاني: مايو 2024
استمرت الاشتباكات المتقطعة طيلة شهر يناير/كانون الثاني على الرغم من مزاعم الاحتلال الإسرائيلي بهزيمة حماس والمقاومة في جباليا.
وفي الحادي عشر من مايو/أيار، أعلنت قوات الاحتلال أن حماس والمقاومة نجحت في إعادة بناء قدراتها العسكرية، وأصدرت جولة جديدة من أوامر الإخلاء للمدنيين. وبعد يومين، بدأت عملية إعادة غزو شاملة.
أم سهيب صيام، أرملة تبلغ من العمر 42 عاماً وأم لثلاثة أطفال، حوصرت في منزلها في منطقة الفاخورة في القطعة رقم 9 عندما بدأ الهجوم الثاني.
وتتذكر صيام اليوم الذي قررت فيه المخاطرة بمغادرة منزلها الذي أصيب بقذيفة مدفعية أدت إلى إصابتها وأطفالها، فانتقلت الأسرة إلى عيادة قريبة وبقيت هناك لمدة يومين “حتى حاصرنا جيش الاحتلال”.
وتذكرت أن رجلاً ظهر وبحوزته مكبر صوت وقال إنه يجب إخلاء العيادة لأن المبنى كان على وشك التعرض للقصف.
وقالت “بدأ الرجل يرشدنا إلى الطريق، ويتحدث عبر الهاتف، بينما كانت طائرة رباعية المراوح تحلق فوقه. مررنا عبر وسط المخيم بجوار السوق الرئيسي، على طول شارع عودة إلى نادي خدمات لكرة القدم.”
وبحلول الوقت الذي انسحبت فيه القوات الإسرائيلية بعد ثلاثة أسابيع ــ مدعية مرة أخرى أنها نجحت في تفكيك المقاومة ــ أفادت التقارير أن 70% من مباني المخيم لحقت بها أضرار جسيمة. وقد كشفت لقطات صورتها طائرات بدون طيار في يونيو/حزيران عن مدى الدمار.
وقالن صيام إن منطقة الفاخورة شهدت أسوأ دمار. وأضاف: “كانت جميع المنازل مدمرة على الأرض، ولم يسلم أي منزل أو شخص أو شجرة أو حجر من الدمار”.
“جباليا مثل الجحيم”
إن الأضرار الجسيمة التي لحقت بجباليا خلال الهجوم الثاني لا تقارن بالدمار الذي حدث منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول، عندما عادت قوات الاحتلال بأعداد كبيرة للمرة الثالثة.
وعلى مدار الهجوم ــ الذي استهدف مدينة جباليا والمخيم ــ هُدمت تجمعات كاملة من المباني، واستُبدلت في بعض المناطق بممرات مهدمة بالجرافات لاستيعاب الدروع والدبابات الإسرائيلية. وفي بعض الحالات هُدمت المنازل بعبوات الهدم.
وفي لقطات نشرت على الإنترنت في الأسابيع الأخيرة، يمكن رؤية الجرافات والحفارات وهي تهدم المباني.
وقد اختفت بعض الأحياء بشكل كامل تقريباً، بما في ذلك الحي رقم 4، الذي كان يضم المجمع المدرسي الرئيسي للمخيم.
وقال محمود بصل (39 عاما) وهو مسؤول بالدفاع المدني “هناك جثث على الطرق وتحت الأنقاض. إنه تدمير كامل”.
كان مقر نادي “خدمات” الرياضي، الذي تأسس عام 1951، يضم فرق كرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة، قد نجا من العمليات السابقة وخدم لفترة من الوقت كمأوى للنازحين.
وفي مرحلة ما خلال الهجوم الثالث، تم إخلاء ملعب كرة القدم ويبدو الآن أنه يستضيف العديد من المركبات العسكرية الإسرائيلية.
وقال خالد العيلة (54 عاما) وهو محاضر جامعي: “الوضع في جباليا أشبه بالجحيم. يتم هدم المنازل فوق رؤوس السكان… كل ما تراه هو الدمار… لم يتبق شيء. لا منازل ولا مدارس ولا جامعات ولا مستشفيات. لا شيء”.
فيما قال سام روز، نائب مدير الأونروا لشؤون غزة، إن العمليات الإسرائيلية الأخيرة “مختلفة تماما” عن الصراعات السابقة في القطاع. وأضاف: “هذه المرة يقومون بتسوية المكان بالأرض … لقد أصبح غير صالح للسكن”.
وأضاف: “لقد زرت مخيم اليرموك [المخيم الفلسطيني في دمشق الذي تعرض لتدمير كبير في عام 2015] لكن الوضع الحالي أسوأ بعشرين مرة. لا أعتقد أن الجيش لديه خطة سوى الاستمرار”.
ويرصد مراقبون آخرون أجندة أكثر عمدية في جباليا وفي مختلف أنحاء شمال غزة: التنفيذ البطيء لسياسة الأرض المحروقة المعروفة باسم “خطة الجنرالات”، والتي تهدف إلى طرد المدنيين من المناطق من خلال إعلانها “مناطق عسكرية مغلقة” حيث يعتبر أي شخص يبقى فيها مقاتلاً ويتم قطع جميع المساعدات والإمدادات الأخرى.
وبغض النظر عن النية، فقد حدث تدمير واسع النطاق للأحياء في مختلف أنحاء شمال غزة، بما في ذلك المخيم.
وتتحدث وثيقة تم توزيعها على الجنود الإسرائيليين في الأسابيع الأخيرة، وكشفت عنها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، عن “كشف مناطق واسعة” – وهو تعبير مخفف، كما تقول الصحيفة، عن تدمير المباني والبنية التحتية بطريقة بحيث لا يستطيع أحد العيش فيها.
وقالت نادية هاردمان، الباحثة في هيومن رايتس ووتش، إن المنظمة حددت نمطا في جباليا وفي مختلف أنحاء الشمال، حيث تقوم القوات الإسرائيلية بإخلاء الأراضي لإنشاء مناطق عازلة وممرات أمنية.
وأضافت هاردمان “قد يجادل الناس حول ما إذا كانت حملة القصف تمثل تدميراً متهوراً أو جزءاً من الأعمال العدائية، ولكن السيطرة على منطقة وتدميرها عمداً تبدو أكثر منهجية”.
وحتى المراقبون الإسرائيليون من كثب يجدون صعوبة بالغة في فهم شدة التركيز على جباليا. يقول مايكل ميلستين من مركز موشيه ديان بجامعة تل أبيب: “إنه لغز أحاول أن أفهمه بنفسي. فنحن جميعاً ندرك أن هذه العملية لن تهزم حماس، التي لا تزال قائمة بكل وضوح، حتى في جباليا”.
بالنسبة لمحمد ناصر (48 عاماً)، والذي كان يعمل مصوراً تلفزيونياً، فمن الصعب أن يتصور ما يمكن تدميره أكثر من ذلك. يقول: “لم تتسبب الحروب السابقة في دمار مثل هذا. لقد دمر كل شيء المنازل والشوارع والمرافق الصحية والتعليمية”.