
كتب أحمد زكارنة
الحالة التفاوضيّة، التي فرضتها إدارة ترامب، وانطلقت في السابع عشر من الشهر الأوّل لهذا العام، ما هي إلّا غطاءًا لتبنّي سياسات نتنياهو في فتح المسارات المتوازية…
المسار : في زمن الجهموريّين، كما في زمن الديمقراطيّين، اليد العليا عادةً ما تكون لمبدأ التوحش، ولكنّ الفارق العميق بين الأوّل والثاني، أنّ الأوّل يصوغ الأسباب الوجيهة لمشروعيّة هذا التوحّش، فيما يدير الثاني هذه المشروعيّة وأسبابها؛ من هنا يُمكننا فهم أنّ دخول ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، وتقديمه لاقتراح “تهجير الفلسطينيّين”، ما هو إلّا تأسيس أوليّ لفتح الأبواب المشرّعة على مصرعيها لسيولة الأفكار التي تبحث في جلّها عن مخارج مقبولة لدى الطرف الأميركي قبل الإسرائيليّ، ليس لمعالجة الحدث الآنيّ المتفاعل، أي ما عرف إعلاميًّا هذه المرّة، بحرب غزّة أو عمليّة “طوفان الأقصى” وتداعياتها على سؤال الوجود اليهوديّ في الشرق، وإنّما لكامل القضيّة الديمغرافيّة والجغرافيّة والسياسيّة وربما التاريخيّة الخاصّة بالشعبين اليهوديّ والفلسطينيّ على حدّ سواء.
ودفع ترامب بمقترحه الذي ادّعى وفريق أحلامه أنّه من “خارج الصندوق” ووصفه توماس فريدمان بأنّه من “خارج العقل” وليس الصندوق؛ على مبدأ، لا أدخل بسلاحي، حيث يكفي تهديدي، ولا أطلق تهديداتي، إلّا بعد صياغة عقوباتي، ولو كان بيني وبين عدوّي من مساحة للحوار، فهي مساحة للتنازل الممكن والمحتمل في صفقة إن لم يخضع إليها، فرَضَتْها عليه بالعقوبة والسّلاح؛ ولا يأتي ذلك من ساكن البيت الأبيض، إلّا نتيجة واضحة لسياق تاريخيّ معقّد حدّ الالتباس، وملتبسٍ في عين العالم حدّ عمى الألوان؛ وهو لا شكّ سياق تاريخيّ يتّسم بتحوّلات سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة جذريّة تذكّرنا بزمن الجاهليّة وحروب الردّة، على الرغم من رفع مُدّعيها لشعارات التطوّر والحداثة والازدهار؛ ببساطة، لأنّ مثل هكذا مقترحات تعني فيما تعني عودة كامل الملف إلى مربّعه الأوّل، مربع الصراع بين مشروعين متناقضين على أرضٍ واحدة، الأوّل اجتهد منذ البدء لإظهار حقّه في الوجود كشعب أصيل في هذه البلاد، هو الشعب الفلسطينيّ، والثاني لم يترك وسيلة إلّا واستخدمها لضمان جعل الآخر غير مرئيّ، ليصبح شعار “أرضٍ بلا شعبٍ، لشعبٍ بلا أرض” شعار حيثيّات لمشهد صهيونيّ تم استدعاؤه بالتطابق من الحالة الأميركية في تعاملها مع الهنود الحمر.
وهو ما يؤكّد أنّ الحالة التفاوضيّة، التي فرضتها إدارة ترامب، وانطلقت في السابع عشر من الشهر الأوّل لهذا العام، ما هي إلّا غطاءًا لتبنّي سياسات نتنياهو في فتح المسارات المتوازية، بغية خلق المشروعيّة المطلوبة للمضي قدومًا في تحقيق الأهداف الكبرى، والتي اتّفق على تأطيرها تحت عناوين إنسانيّة، فرضتها معطيات الواقع الاجتماعي في الضفّة والقطاع على حدّ سواء، فيما العناوين الحقيقيّة، لا تهدف إلّا للوصول إلى النتائج السياسيّة، ليس فيما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة وحسب، ولكن لما يهتم بإعادة تشكيل خارطة الشرق الجديد، الذي مرّ تشكيله بمراحل امتدّت على مساحة عقودٍ خمس، يشكّل الزمن الحالي بظروفه الظاهرة والمخفيّة، ذروتها الأنسب.
فإنّ فتح بابٍ للتفاوض الفرعيّ مع الطرف الفلسطينيّ المشاغب “حماس” وفق الفهم الاستعماريّ، لم يأت على سبيل المصادفة، ولا هو نوع من أنواع التجربة، وحتما ليس من باب الدفع بالحقوق الوطنيّة للفلسطينيّين، كما يظنّ البعض، أو يعتقد متوهّمًا، أنّه نتاج طبيعيّ للطوفان، أو أنّه الأكثر قدرة على إدارة دفّة التفاوض من غيره؛ لم يفتح باب التفاوض الفرعيّ لذلك كلّه، ولكن لاجترار تجربة سبق وأن أكسبت المحتلّ خمسة عقود لتوفير المساحة الزمنيّة المطلوبة لتغيير معالم الواقع، وهي سياسة إسرائيليّة بَنَتْ عليها الصهيونيّة مخطّطاتها منذ اليوم الأوّل لاستعمار هذه البلاد، كانت قبلًا مع حركة فتح تحت لواء منظّمة التحرير، برعاية ثعلب السياسة الأميركية هنري كسينجر، الذي لم يظهر في إطار الصورة ولا مرّة واحدة، واليوم تتجدّد التجربة بحثًا عن المزيد من كسب الوقت تحت عنوان التفاوض مع حماس، برعاية رجل الصّفقات ترامب، تطبيقًا للمقولة الإسرائيليّة الواردة على لسان إسحاق شامير: “يمكننا أن نفاوضهم لعشرين عامًا من دون أن نعطيهم شيئًا”، وارتباطًا بالمقولة العربيّة الدينيّة “أنّهم شعب فاوض الله على بقرة”. ولكن هذه المرة لن يكون الأمر فقط لكسب الوقت، وإنّما لتصفية القضيّة مرّة واحدة وإلى الأبد.
الإشكال الحقيقيّ في هذا التوجّه، يكمن في قبول حركة حماس المضي قدمًا في مثل هذا المسعى، حتى لو انطلق من أوراق تفاوضيّة بيضاء، عبر شطب عناوين أوسلو وما بني عليها من هيكل إداريّ، وحتى ولو لم تشطب إفرازاته من مؤسّسات خدماتيّة، لا يراد لها أن تبقى كذلك إلى الأبد، تحت سقوف ما يُعرف بالحكم الذاتيّ، من دون أن تتحوّل إلى مؤسّسات دولة مستقلة، وإن حدث وأسماها البعض دولة، لن تكون كما تمنّاها أو حلم بها أو تطلّع وناضل من أجلها الفلسطينيّ، وإنّما ستكون حسب المواصفات التي تخدم المشروع الاستعماريّ “الصهيو أميركي” في المنطقة.
وقبول حماس هنا، ليس لأنّها تريد هذا التوجّه وحسب، وهي تريده منذ البدء، ولكن لأنّه بات خيارها الوحيد للبقاء على قيد الفعل في المشهد السياسيّ الفلسطينيّ، بعد أن تقطّعت بها كلّ السبل، على خلفيّة نتائج عمليّة الطوفان، التي افقدتها الكثير ممّا كانت تمتلكه عسكريًّا ولوجستيًّا، وينسحب الأمر على منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي استنفذت رصيدها وكلّ طاقاتها في مشروع السلام كخيار استراتيجيّ ووحيد، دون جدوى تذكر، ليعود سؤال ما العمل؟ للواجهة مرّة أخرى، ولكنّه هذه المرّة لن يكون سؤالًا فلسطينيًّا خالصًا، لأنّه بات فعليًّا وعمليًّا سؤالًا عربيًّا في ظلّ كلّ هذه الرياح العاتية التي عصفت بكامل المنطقة، طيلة عقود التحوّل للشرق الجديد، ودفع الجميع لإدخال المسألة الفلسطينيّة جبرًا، باعتبارها قربان هذا الشرق، ولذا يجب أن يكون التفاوض، إن كان هناك من تفاوض حقيقيّ، أن يكون اليوم تحت سقف الكلّ الفلسطينيّ، وببعد عربيّ، وليس مع فرع من فروع الجماعة الفلسطينيّة، ببعض تحالفات إقليميّة، ببساطة لأنّ الأمر اليوم لم يعد بحثًا عن نتائج تكتيكيّة وحسب، فالسوق ليس سوقًا عقاريًا يشكّل بمعنى من المعاني مجالًا حيويًّا للمقاول الأمريكيّ وحده، ولكنّه سوق للأفكار التي ستُنتِج خلاصات استراتيجيّة، تبدو برّاقة في مظهرها الخارجيّ، ولكنّها مؤلمة ونهائيّة في معناها الداخليّ.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري